صفحة جزء
[ ص: 42 ] باب الأنجاس وتطهيرها

النجاسة غليظة وخفيفة ، فالمانع من الغليظة أن يزيد على قدر الدرهم مساحة إن كان مائعا ، ووزنا إن كان كثيفا ، والمانع من الخفيفة أن يبلغ ربع الثوب ( ف ) ، وكل ما يخرج من بدن الإنسان وهو موجب للتطهير فنجاسته غليظة ، وكذلك الروث ( سم ) والأخثاء ، وبول الفأرة ، والصغير والصغيرة أكلا أو لا ، والمني نجس ( ف ) يجب غسل رطبه ، ويجزئ الفرك في يابسه .

وإذا أصاب الخف نجاسة لها جرم كالروث فجف فدلكه بالأرض جاز ( مز ) ، والرطب وما لا جرم له كالخمر لا يجوز فيه إلا الغسل ، والسيف والمرآة يكتفى بمسحهما ( ز ) فيهما ، وإذا أصابت الأرض نجاسة فذهب أثرها جازت ( زف ) الصلاة عليها دون التيمم .

وبول ما يؤكل لحمه ( م ) ، وبول الفرس ، ودم السمك ( ف ) ، ولعاب البغل والحمار ، وخرء ما لا ( سم ) يؤكل لحمه من الطيور نجاسته مخففة ، وخرء ما يؤكل لحمه من الطيور طاهر ( ف ) إلا الدجاج والبط الأهلي فنجاستهما غليظة ، وإذا انتضح عليه البول مثل رءوس الإبر فليس بشيء ( ف ) .


باب الأنجاس وتطهيرها

( النجاسة غليظة وخفيفة ) فالغليظة عند أبي حنيفة ما ورد في نجاسته نص ولم يعارضه آخر ، ولا حرج في اجتنابه وإن اختلفوا فيه ؛ لأن الاجتهاد لا يعارض النص . والمخففة ما تعارض نصان في طهارته ونجاسته ، وعندهما المغلظة : ما اتفق على نجاسته ولا بلوى في إصابته ، والمخففة : ما اختلف في نجاسته ؛ لأن الاجتهاد حجة شرعية كالنص .

قال : ( فالمانع من الغليظة أن يزيد على قدر الدرهم مساحة إن كان مائعا ، ووزنا إن كان كثيفا ) وهو أن تكون مثل عرض الكف ، لقول عمر - رضي الله عنه - : إذا كانت النجاسة قدر ظفري هذا لا تمنع جواز الصلاة حتى تكون أكثر منه ، وظفره كان قريبا من كفنا . وعن محمد : الدرهم [ ص: 43 ] الكبير المثقال : أي ما يكون وزنه مثقالا ، فيحمل الأول على المساحة إن كان مائعا ، وقول محمد على الوزن إن كان مستجسدا .

قال النخعي : أرادوا أن يقولوا قدر المقعدة فكنوا بقدر الدرهم عنه ، وإنما قدره أصحابنا بالدرهم ; لأن قليل النجاسة عفو بالإجماع كالتي لا يدركها البصر ودم البعوض والبراغيث ، والكثير معتبر بالإجماع ، فجعلنا الحد الفاصل قدر الدرهم أخذا من موضع الاستنجاء ، فإن بعد الاستنجاء بالحجر إن كان الخارج قد أصاب جميع المخرج يبقى الأثر في جميعه ، وذلك يبلغ قدر الدرهم ، والصلاة جائزة معه إجماعا ، فعلمنا أن قدر الدرهم عفو شرعا .

( والمانع من الخفيفة أن يبلغ ربع الثوب ) لأن للربع حكم الكل في أحكام الشرع كمسح الرأس وحلقه ، ثم قيل ربع جميع الثوب ، وقيل ربع ما أصابه كالكم والذيل والدخريص ، وعند أبي يوسف شبر في شبر ، وعند محمد ذراع في ذراع ، وعنه موضع القدمين ، والمختار الربع ، وعن أبي حنيفة أنه غير مقدر ، وهو موكول إلى رأي المبتلى لتفاوت الناس في الاستفحاش .

( وكل ما يخرج من بدن الإنسان وهو موجب للتطهير فنجاسته غليظة ) كالغائط والبول والدم والصديد والقيء ، ولا خلاف فيه ، وكذلك المني لقوله - عليه الصلاة والسلام - لعائشة : " إن كان رطبا فاغسليه ، وإن كان يابسا فافركيه " ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - لعمار بن ياسر : " إنما يغسل الثوب من المني والبول والدم " ، ولو أصاب البدن وجف . روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يطهر بالفرك . وذكر الكرخي عن أصحابنا أنه يطهر ؛ لأن البلوى فيه أعم ، والاكتفاء بالفرك لا يدل على طهارته ، فإن الصحيح عن أبي حنيفة أنه يقل بالفرك فتجوز الصلاة فيه ، حتى إذا أصابه الماء يعود نجسا عنده ، خلافا لهما ، ثم رأينا كل ما يوجب الطهارة كالغائط والبول ودم الحيض والنفاس نجسا ، فقلنا بنجاسة المني لأنه يوجب أكبر الطهارات ، وكونه أصل الآدمي لا يوجب طهارته كالعلقة .

قال : ( وكذلك الروث والأخثاء ) وبول ما لا يؤكل لحمه من الدواب عند أبي حنيفة ; لأن نجاستها ثبتت بنص لم يعارضه غيره وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - في الروث : " إنه رجس " .

[ ص: 44 ] والأخثاء مثله ، وعندهما مخففة لعموم البلوى به في الطرقات ووقوع الاختلاف فيه ، فعند مالك الأرواث كلها طاهرة ، وعند زفر روث ما يؤكل لحمه طاهر . ولأبي حنيفة أنه استحال إلى نتن وفساد ، وهو منفصل عن حيوان يمكن التحرز عنه فصار كالآدمي والضرورة في النعال ، وقد قلنا بالتخفيف فيها حتى تطهر بالمسح ، وبما ذكرنا من الحديث والمعقول خرج الجواب عن قول مالك وزفر .

وقال : ( و ) كذلك .

( بول الفأرة ) وخرؤها لما تقدم ، ولإطلاق قوله - عليه الصلاة والسلام - : " استنزهوا من البول " ، والاحتراز عنه ممكن في الماء ، غير ممكن في الطعام والثياب فيعفى عنه فيهما .

قال : ( و ) كذلك بول ( الصغير والصغيرة أكلا أو لا ) لما روينا من غير فصل ، وما روي من نضح بول الصبي إذا لم يأكل ، فالنضح يذكر بمعنى الغسل . قال - عليه الصلاة والسلام - لما سئل عن المذي : " انضح فرجك بالماء " ، أي اغسله ، فيحمل عليه توفيقا .

قال : ( والمني نجس يجب غسل رطبه ، ويجزئ الفرك في يابسه ) وقد بينا الوجه فيه . وفي الفتاوى : مرارة كل شيء كبوله في الحكم ، وإذا اجتر البعير فأصاب ثوب إنسان فحكمه حكم سرقينه لوصوله إلى جوفه كالماء إذا وصل إلى جوفه حكمه حكم بوله .

قال : ( وإذا أصاب الخف نجاسة لها جرم كالروث ) والعذرة .

( فجف فدلكه بالأرض جاز ، والرطب وما لا جرم له كالخمر ) والبول .

( لا يجوز فيه إلا الغسل ) وهذا عند أبي حنيفة . وقال أبو يوسف : يجزئ المسح فيهما إلا [ ص: 45 ] البول والخمر . وقال محمد : لا يجوز فيهما إلا الغسل كالثوب ، ولأبي يوسف إطلاق قوله - عليه الصلاة والسلام - : " إذا أصاب خف أحدكم أو نعله أذى فليدلكهما في الأرض وليصل فيهما ، فإن ذلك طهور لهما " ، من غير فصل بين اليابس والرطب والمستجد وغيره وللضرورة العامة ، وعليه أكثر المشايخ ، لأبي حنيفة هذا الحديث إلا أن الرطب إذا مسح بالأرض يتلطخ به الخف أكثر مما كان فلا يطهره بخلاف اليابس ؛ لأن الخف لا يتداخله إلا شيء يسير وهو معفو عنه ، ولا كذلك البول والخمر لأنه ليس فيه ما يجتذب مما على الخف فيبقى على حاله ، حتى لو لصق عليه طين رطب فجف ثم دلكه جاز كالذي له جرم ، يروى ذلك عن أبي يوسف ، وبخلاف الثوب لأنه متخلل فتتداخله أجزاء النجاسة فلا تزول بالمسح فيجب الغسل .

قال : ( والسيف والمرآة يكتفى بمسحهما ) فيهما لأنهما لصلابتهما لا يتداخلهما شيء من النجاسة فيزول بالمسح .

قال : ( وإذا أصابت الأرض نجاسة فذهب أثرها جازت الصلاة عليها دون التيمم ) لأن طهارة الصعيد ثبتت شرطا بنص الكتاب فلا يتأدى بما ثبت بالحديث . وقال زفر : لا تجوز الصلاة كالتيمم . ولنا أن الأرض تنشف والهواء يجذب ما ظهر منها ، فقلت : والقليل لا يمنع جواز الصلاة ويمنع التيمم . وروى ابن كاس عن أصحابنا جواز التيمم أيضا للحديث ; لأن النجاسة استحالت إلى أجزاء الأرض ؛ لأن من شأن الأرض جذب الأشياء إلى طبعها ، وبالاستحالة تطهر كالخمر إذا تخللت فيجوز التيمم ، وإذا أصابت الأرض نجاسة ، إن كانت رخوة يصب عليها الماء فتطهر لأنها تنشف الماء فيطهر وجه الأرض ، وإن كانت صلبة يصب الماء عليها ثم تكبس الحفيرة التي اجتمع فيها الغسالة .

قال : ( وبول ما يؤكل لحمه ، وبول الفرس ، ودم السمك ، ولعاب البغل والحمار وخرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور نجاسته مخففة ) أما بول ما يؤكل لحمه فطاهر عند محمد لحديث [ ص: 46 ] العرنيين ، ويدخل فيه بول الفرس عنده أيضا ، ولهما أنه استحال إلى نتن وخبث فيكون نجسا كبول ما لا يؤكل لحمه ، إلا أنا قلنا بتخفيفه للتعارض ، وحديث العرنيين نسخ كالمثلة ، ودم السمك ليس بدم حقيقة لأنه يبيض بالشمس . وعن أبي يوسف أنه نجس ، فقلنا بخفته لذلك ، ولعاب البغل والحمار لتعارض النصوص ، وخرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور لعموم البلوى ، فإنه لا يمكن الاحتراز عنه ، لأنها تزرق من الهواء . وعند محمد نجاسته غليظة لأنها لا تخالط الناس فلا بلوى ، وجوابه ما قلنا .

قال : ( وخرء ما يؤكل لحمه من الطيور طاهر ) لإجماع المسلمين على ترك الحمامات في المساجد ، ولو كان نجسا لأخرجوها خصوصا في المسجد الحرام .

قال : ( إلا الدجاج والبط الأهلي فنجاستهما غليظة ) بالإجماع .

قال : ( وإذا انتضح عليه البول مثل رءوس الإبر فليس بشيء ) لأنه لا يمكن الاحتراز عنه وفيه حرج فينتفي ، وليس بول الخفافيش وخرؤها ولا دم البق والبراغيث بشيء لما ذكرنا . قال الكرخي : وما يبقى من الدم في اللحم والعروق طاهر . وعن أبي يوسف أنه معفو في الأكل دون الثياب .

التالي السابق


الخدمات العلمية