صفحة جزء
[ ص: 199 ] باب الإيلاء

إذا قال : والله لا أقربك ، أو لا أقربك أربعة أشهر فهو مول ، وكذلك لو حلف بحج أو صوم أو صدقة أو عتق أو طلاق ، فإن قربها في الأربعة الأشهر حنث ، وعليه الكفارة وبطل الإيلاء ، وإن لم يقربها ومضت أربعة أشهر بانت بتطليقة ، فإن كانت اليمين أربعة أشهر فقد انحلت ، وإن كانت مؤبدة فإن عاد فتزوجها عاد الإيلاء على الوجه الذي بينا ، فإن وطئها في الأربعة الأشهر من وقت التزوج حنث وإلا وقعت أخرى ، فإن عاد فتزوجها فكذلك ، فإن تزوجها بعد زوج آخر فلا إيلاء ، فإن وطئ كفر للحنث ، وأقل مدة الإيلاء في الحرة أربعة أشهر ، ومدة إيلاء الأمة شهران ، وإن آلى من المطلقة الرجعية فهو مول ، ومن البائنة لا ، وإن قال : لا أقربك شهرين بعد شهرين فهو مول ، ولو قال : لا أقربك سنة إلا يوما فليس بمول ( ز ) .


[ ص: 199 ] باب الإيلاء

وهو في اللغة : مطلق اليمين ، قال :


قليل الألايا حافظ ليمينه وإن بدرت منه الألية برت



وفي الشرع : اليمين على ترك وطء المنكوحة مدة مخصوصة ، وقيل الحلف على ترك الوطء المكسب للطلاق عند مضي أربعة أشهر ، فالاسم الشرعي فيه معنى اللغة .

وألفاظه صريح وكناية ، فالصريح لا يحتاج إلى نية مثل قوله : لا أقربك ، لا أجامعك ، لا أطؤك ، لا أغتسل منك من جنابة ، لا أفتضك ، إن كانت بكرا .

والكناية : لا أمسك ، لا آتيك ، لا أدخل بك ، لا أغشاك ، لا يجمع رأسي ورأسك شيء ، لا أبيت معك على فراش ، لا أضاجعك ، لا أقرب فراشك . ونحوه ، ولا بد فيه من النية .

وقال محمد : إذا قال : والله لا يمس جلدي جلدك . لا يكون موليا لأنه يقدر على جماعها بغير مماسة بأن يلف على ذكره حريرة ولأنه يحنث بغير الجماع ، والمولي من يقف حنثه على الجماع خاصة . والأصل أن المولي من لا يمكنه قربان امرأته إلا بشيء يلزمه لأن حرمة الوطء إنما تنتهي بالحنث ، والحنث موجب للكفارة أو بشيء يلزمه ، ولا يكون الإيلاء إلا بالحلف على ترك الجماع في الفرج لأن حقها في الجماع في الفرج فيتحقق الظلم .

قال : ( إذا قال : والله لا أقربك ، أو لا أقربك أربعة أشهر فهو مول ) ، والأصل فيه قوله تعالى : ( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) الآية ، فتكون مدة الإيلاء أربعة أشهر من غير زيادة ولا نقصان ، إذ لو كانت المدة أقل من ذلك أو أكثر لم يكن في التنصيص على الأربعة فائدة .

قال : ( وكذلك لو حلف بحج أو صوم أو صدقة أو عتق أو طلاق ) مثل أن يقول : إن قربتك فلله علي الحج ، أو يقول : فلله علي صوم كذا ، أو يجعل الجزاء صدقة ، أو عتق عبد ، أو طلاقها أو طلاق غيرها ، لأن اليمين موجودة في ذلك كله ، لأن اليمين بغير الله تعالى شرط [ ص: 200 ] وجزاء ، لأن المقصود منها الحمل أو المنع ، وهذه الأشياء توجب ذلك لما تتضمنه من المشقة ، ولأنه لا يمكنه قربانها إلا بشيء يلزمه ، وإذا وجدت اليمين فقد وجد الإيلاء فدخل تحت النص ، ولو قال : إن قربتك فعلي أن أصلي ركعتين أو أغزو لم يكن موليا . وقال محمد : هو مول لأنه يصح إيجابها بالنذر كالصوم والصدقة . ولهما أن الصلاة ليست في حكم اليمين حتى لا يحلف بها عادة فصار كصلاة الجنازة وسجدة التلاوة .

( فإن قربها في الأربعة الأشهر حنث ) لوجود شرطه ، ( وعليه الكفارة ) لأن الحنث موجب للكفارة ، ( وبطل الإيلاء ) لما بينا أن اليمين تنحل بالحنث .

( وإن لم يقربها ومضت أربعة أشهر بانت بتطليقة ) ، هذا مذهب عامة الصحابة وتفسير قوله تعالى : ( وإن عزموا الطلاق ) أي عزموا الطلاق بالإيلاء السابق وهي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه ، وعنه وعن ابن عباس رضي الله عنهم : عزم الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر من غير فيء . وقراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - فإن فاءوا فيهن - أي في الأربعة الأشهر ، ولأنه تعالى قال : ( للذين يؤلون ) ثم قال : ( فإن فاءوا ) ، ( وإن عزموا الطلاق ) وهذا الفاء للتقسيم ، فأحد القسمين يكون في المدة وهو الفيء ، والآخر بعدها وهو الطلاق كقوله تعالى : ( وإذا طلقتم النساء ) ، ثم قال : ( فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن ) لما ذكر المدة وجاء بالفاء كان للتقسيم ، وكان الإمساك وهو الرجعة ، في المدة والتسريح وهو البينونة بعدها فكذلك هنا .

قال : ( فإن كانت اليمين أربعة أشهر فقد انحلت ) لانقضاء المدة ( وإن كانت مؤبدة ، فإن عاد فتزوجها عاد الإيلاء على الوجه الذي بينا ) لبقاء اليمين ، لأن اليمين لا تنتهي إلا بالحنث أو بمضي المدة المؤقتة ، وإنما لم يقع طلاق آخر قبل التزوج ، لأن الحرمة مضافة إلى البينونة لا إلى الإيلاء ، فلم يوجد المنع باليمين فإذا تزوجها ارتفعت الحرمة الثابتة بالبينونة ، وبقيت حرمة [ ص: 201 ] الإيلاء ، فوجد منع الحق فترتب عليه حكمه .

( فإن وطئها في الأربعة الأشهر من وقت التزوج حنث وإلا وقعت أخرى ) لما بينا ( فإن عاد فتزوجها فكذلك ) لما مر ( فإن تزوجها بعد زوج آخر فلا إيلاء ) معناه : أنه لا يقع الطلاق بمضي المدة لانتهاء ما كان يملكه من الطلاق في النكاح الأول ، وفيه خلاف زفر وقد تقدم ، إلا أن اليمين باقية لعدم الحنث ( فإن وطئ كفر للحنث ) .

قال : ( وأقل مدة الإيلاء في الحرة أربعة أشهر ) فلو آلى أقل من أربعة أشهر لا يكون موليا ، لقول ابن عباس رضي الله عنهما : لا إيلاء فيما دون أربعة أشهر ، ولما مر ( ومدة إيلاء الأمة شهران ) لما عرف أن الرق منصف ، وأنها مدة ضربت للبينونة فتتنصف كالعدة ، والآية تناولت الحرائر دون الإماء ، لأن اسم النساء والزوجات عند الإطلاق ينصرف إلى الحرائر دون الإماء لأن معنى الأزواج في الإماء ناقص ، لأن للمولى أن يستخدمها ولا يبوئها بيت الزوج ، والاسم عند الإطلاق ينصرف إلى الكامل ، فإن أعتقت في مدة الإيلاء تصير أربعة أشهر كما في العدة .

قال : ( وإن آلى من المطلقة الرجعية فهو مول ، ومن البائنة لا ) لقيام الزوجية وحل الوطء في الأولى على ما بينا دون الثانية ، فكانت الأولى من نسائهم دون الثانية .

ولو حلف لا يقرب زوجته وأمته ، أو زوجته وأجنبية لا يصير موليا ما لم يقرب الأجنبية أو أمته ، فإذا قربها صار موليا ، لأنه لا يمكنه قربانها بعد ذلك إلا بالكفارة .

ولو قال لهما : لا أقرب إحداكما لا يكون موليا كما إذا قال لزوجته وأمته : إحداكما طالق ، فإن قرب إحداهما لزمته الكفارة للحنث .

ولو قال لهما : لا أقرب واحدة منكما كان موليا من امرأته ، لأن النكرة في النفي تعم ، ولو قرب واحدة منهما حنث .

ولو قال : أنت علي مثل امرأة فلان ، وقد كان فلان آلى من امرأته ، فإن نوى الإيلاء كان موليا وإلا فلا ، ولو قال : أنت علي كالميتة ونوى اليمين يكون موليا لأنه بمنزلة الكناية ، ولو [ ص: 202 ] آلى من امرأته ثم قال لأخرى : أشركتك في إيلاء هذه ، لا يصير موليا ، بخلاف الطلاق والظهار ، لأنه لو اشتركا في الإيلاء يتغير حكم الإيلاء وهو لزوم الكفارة بقربان الأولى وحدها ، وإذا صح الاشتراك لا تجب الكفارة ما لم يقربهما ، ولا يمكن تغيير اليمين بعد انعقادها ، ولا كذلك الطلاق والظهار .

وعن الكرخي : لو قال لامرأته : أنت علي حرام ، ثم قال لأخرى : أشركتك معها كان موليا منهما ، لأن إثبات الشركة هنا لا يغير موجب اليمين وهو إثبات الحرمة ، فإنه لو قال : أنتما علي حرام كان موليا من كل واحدة منهما على حدة ، ويلزمه بوطء كل واحدة كفارة ، بخلاف قوله : والله لا أقربكما لأنه إيلاء لما يلزمه من هتك حرمة الاسم ، وذلك لا يتحقق إلا بقربانهما ، وإذا آلى العبد من امرأته فملكته لا يبقى الإيلاء ، فلو باعته أو أعتقته ثم تزوجها عاد الإيلاء كما إذا حلف بعتق عبده إن وطئها فباعه ثم استرده عاد الإيلاء .

ولو قال : إن قربتك فكل مملوك أملكه في المستقبل حر فهو مول . وقال أبو يوسف : لا يكون موليا لأنه يمكنه قربانها من غير شيء يلزمه بأن يقربها ولا يتملك مملوكا أصلا . ولهما أنه لا يقدر على الامتناع عن جميع أسباب التمليكات كالإرث ، إذ في الامتناع عن الجميع مشقة ومضرة ، وعلى هذا لو قال : فكل امرأة أتزوجها فهي طالق ، وعلى هذا إذا علق وطأها بعتق عبد بعينه ، لأبي يوسف أنه يقدر على وطئها بغير شيء يلزمه بأن يبيعه ثم يطأها . ولهما أنه لا يوصل إلى ذلك إلا بالحنث غالبا أو بالبيع وأنه مشقة أيضا .

( وإن قال : لا أقربك شهرين بعد شهرين فهو مول ) لأن الجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع ، ولو سكت ساعة ثم قال : وشهرين بعد الشهرين الأولين لا يكون موليا ، لأن ابتداء اليمين الثانية حين حلف فقد تخلل بين الأربعة الأشهر وقت ليس موليا فيه فلم توجد مدة الإيلاء .

قال : ( ولو قال : لا أقربك سنة إلا يوما فليس بمول ) خلافا لزفر ، وهو يصرف اليوم إلى آخر السنة ، كالإجارة فصار كما إذا تلفظ به . ولنا أنه يمكنه قربانها من غير شيء يلزمه وذلك في اليوم المستثنى وهو يوم منكر ، له أن يجعله أي يوم شاء ، فإن قربها وقد بقي من السنة أربعة أشهر صار موليا لسقوط الاستثناء بخلاف الإجارة لأنه يصرف إلى آخر السنة تصحيحا لها لأنها لا تصح مع التنكير .

التالي السابق


الخدمات العلمية