صفحة جزء
[ ص: 204 ] باب الخلع

وهو أن تفتدي المرأة نفسها بمال ليخلعها به ، فإذا فعلا لزمها المال ووقعت تطليقة بائنة ، ويكره أن يأخذ منها شيئا إن كان هو الناشز ، وإن كانت هي الناشزة كره له أن يأخذ أكثر مما أعطاها ، وإن أخذ منها أكثر مما أعطاها حل له ، وكذلك إن طلقها على مال فقبلت وقع الطلاق بائنا ويلزمها المال بالتزامها ، وما صلح مهرا صلح بدلا في الخلع ، فإذا بطل البدل في الخلع كان بائنا وفي الطلاق يكون رجعيا ، وإن قالت : خالعني على ما في يدي وليس في يدها شيء فلا شيء عليها ، ولو قالت : على ما في يدي من مال ، أو على ما في بيتي من متاع ولا شيء في يدها ولا متاع في بيتها ردت عليه مهرها ، ولو خلع ابنته الصغيرة على ما لها لا يلزمها شيء ، وفي الكبيرة يتوقف على قبولها ، ولو ضمن المال لزمه في المسألتين ، ولو قالت : طلقني ثلاثا بألف فطلقها واحدة فعليها ثلث الألف ، ولو قالت على ألف فطلقها واحدة فلا شيء عليها ( سم ) وهي رجعية ، ولو قال لها : طلقي نفسك ثلاثا بألف أو على ألف فطلقت واحدة لم يقع شيء ، ولو قال لها : أنت طالق وعليك ألف فقبلت طلقت ولا شيء عليها ( سم ) ، والمبارأة كالخلع يسقطان كل ( سم ) حق لكل واحد من الزوجين على الآخر مما يتعلق بالنكاح حتى لو كان قبل الدخول وقد قبضت المهر لا يرجع عليها بشيء ويعتبر خلع المريضة من الثلث .


باب الخلع

وهو في اللغة : القلع والإزالة ، قال تعالى : ( فاخلع نعليك ) ، ومنه خلع القميص : إذا أزاله عنه ، وخلع الخلافة : إذا تركها وأزال عنه كلفها وأحكامها .

وفي الشرع : إزالة الزوجية بما تعطيه من المال ، وهو في إزالة الزوجية بضم الخاء ، وإزالة غيرها بفتحها ، كما اختص إزالة قيد النكاح بالطلاق وفي غيره بالإطلاق .

قال : ( وهو أن تفتدي المرأة نفسها بمال ليخلعها به ، فإذا فعلا لزمها المال ووقعت تطليقة بائنة ) والأصل في جوازه قوله تعالى : ( فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) ، وإنما تقع تطليقة بائنة لقوله عليه الصلاة والسلام : ( الخلع تطليقة بائنة ) ولأنه كناية فيقع به [ ص: 205 ] بائنا لما مر ولا يحتاج إلى نية ، إما لدلالة الحال ، أو لأنها ما رضيت ببذل المال إلا لتملك نفسها وتخرج من نكاحه ، وذلك بالبينونة وهو مذهب عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم ، والخلع من جانبه تعليق الطلاق بقبولها فلا يصح رجوعه عنها ، ولا يبطل بقيامه من المجلس ويصح مع غيبتها ، فإذا بلغها كان لها خيار القبول في مجلس علمها .

ويجوز تعليقه بالشرط والإضافة إلى الوقت كقوله : إذا قدم فلان أو إذا جاء فلان فقد خالعتك على ألف ، يصح ، والقبول إليها إذا قدم فلان أو جاء غدا ، والخلع من جانبها تمليك بعوض كالبيع فيصح رجوعها قبل قبوله ويبطل بقيامها من المجلس ، ولا يتوقف حال غيبته ، ولا يجوز التعليق منها بشرط ولا الإضافة إلى وقت ، ولو خالعها بألف على أنه بالخيار ثلاثة أيام فالخيار باطل ، وإن قال : على أنها بالخيار فكذلك عندهما لأن الخلع طلاق ويمين ولا خيار فيهما . وعند أبي حنيفة الخيار لها صحيح ، فإن ردته في الثلاث بطل الخلع ، لأن الخلع طلاق من جانبه تمليك من جانبها فيجوز الخيار لها دونه .

قال : ( ويكره أن يأخذ منها شيئا إن كان هو الناشز ) قال تعالى : ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) فحملناه على الكراهية عملا بالنص الأول ، وقيل هي نهي توبيخ لا تحريم ، ( وإن كانت هي الناشزة كره له أن يأخذ أكثر مما أعطاها ) لما روي " أن جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول ، وقيل حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله لا أنا ولا هو ، فأرسل رسول الله إلى ثابت ، فقال : قد أعطيتها حديقة ، فقال لها : " أتردين عليه حديقته وتملكين أمرك ؟ فقالت نعم وزيادة ، قال : أما الزيادة فلا ، فقال عليه الصلاة والسلام : يا ثابت خذ منها ما أعطيتها ولا تزدد وخل سبيلها . ففعل وأخذ الحديقة ، فنزل قوله تعالى : ( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ) إلى قوله : ( فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) .

[ ص: 206 ] ( وإن أخذ منها أكثر مما أعطاها حل له ) بمطلق الآية .

قال : ( وكذلك إن طلقها على مال فقبلت وقع الطلاق بائنا ) لما قلنا ، ( ويلزمها المال بالتزامها ) ولأنه ما رضي بالطلاق إلا ليسلم له المال المسمى ، وقد ورد الشرع به فيلزمها .

قال : ( وما صلح مهرا صلح بدلا في الخلع ) لأن البضع حال الدخول متقوم دون حال الخروج ، فإذا صلح بدلا للمتقوم فلأن يصلح لغير المتقوم أولى .

قال : ( فإذا بطل البدل في الخلع كان بائنا ، وفي الطلاق يكون رجعيا ) وذلك مثل أن يخالعها على خمر أو خنزير أو ميتة ونحوه ، أما وقوع الطلاق فلأنه علقه بقبولها وقد وجد ، وأما البينونة في الخلع فلأنه كناية ، والرجعي في الطلاق لأنه صريح ولا يجب للزوج عليها شيء ، لأن البضع لا قيمة له عند الخروج وهي ما سمت له مالا فيغتر به ، ولأنه لا سبيل إلى المسمى للإسلام ولا إلى غيره لعدم الالتزام ، بخلاف النكاح ، لأن البضع متقوم حالة الدخول ، ومهر المثل كالمسمى شرعا ، وبخلاف ما إذا خالعها على هذا الدن من الخل فإذا هو خمر لأنها سمت له مالا فاغتر به ، وبخلاف العتق والكتابة على خمر حيث تجب قيمة العبد لأنه ملك متقوم وما رضي بخروجه بغير عوض ، ولا كذلك البضع حالة الخروج على ما بينا ، ولو خلعها على عبد فإذا هو حر رجع بالمهر . وعند أبي يوسف بقيمته لو كان عبدا .

ولو خلعها على ثوب ولم يسم جنسه ، أو على دابة فله المهر ، وفي العبد الوسط كما في المهر ، وكذا على ثوب هروي فطلع مرويا يرجع بهروي وسط ، ولو خلعها على دراهم معينة فإذا هي ستوقة رجع بالجياد ، ولا يرد بدل الخلع إلا بعيب فاحش كما في المهر ، ولو خلعها بغير مال وقال : لم أنو الطلاق صدق لأنه كناية ، ولا يصدق إذا كان على مال ، لأن البدل لا يجب إلا بالبينونة .

( وإن قالت : خالعني على ما في يدي وليس في يدها شيء فلا شيء عليها ) وكذا لو [ ص: 207 ] قالت : على ما في بيتي ولا شيء في بيتها لأنها لم تسم المال لتغره .

( ولو قالت : على ما في يدي من مال ، أو على ما في بيتي من متاع ، ولا شيء في يدها ولا متاع في بيتها ردت عليه مهرها ) ، والأصل في ذلك أنه متى أطمعته في مال متقوم فلم يسلم له لفقده وعدمه رجع عليها بالمهر لأنها غرته حيث أطمعته في مال ، والمغرور يرجع على الغار بالمبدل ، فإذا فات المشروط المطمع فيه زال ملكه مجانا فيلزمها أداء المبدل وهو ملك البضع ، وقد عجزت عن رده فيلزمها رد قيمته وهو المهر ، ولو خالعها بما لها عليه من المهر ولم يبق لها عليه شيء من المهر لزمها رد المهر ، وإن علم الزوج أن لا مهر لها عليه ولا متاع لها في البيت لا يلزمها شيء ، ولو قالت : على ما في يدي من دراهم أو من الدراهم ولا شيء في يدها لزمها ثلاثة دراهم لأنها سمت الدراهم وأقل الجمع ثلاثة .

قال : ( ولو خلع ابنته الصغيرة على ما لها لا يلزمها شيء ) لأنه لا نظر لها فيه ، إذ البدل متقوم والمبدل لا قيمة له على ما بينا ، ( وفي الكبيرة يتوقف على قبولها ) لأنه لا ولاية له عليها فصار كالفضولي ، ( ولو ضمن المال لزمه في المسألتين ) لأن شرط بدل الخلع على الأجنبي جائز فعلى الأب أولى ، ولو اختلعت الصغيرة نفسها على صداقها وقع الطلاق لأنه علقه بقبولها ، ولا يسقط الصداق لأنها ليست من أهل الالتزام لما فيه من الضر ، ولو خلعها أبوها على صداقها لا يسقط ، ثم إن قبلت الصغيرة الخلع وقع الطلاق ، وإن قبل الأب فيه روايتان : في رواية لا يقع لأنه كالأجنبي إذا لم يضف البدل إلى نفسه ، ويحتمل أن الخلع مضرة بها فلا يقوم قبوله مقام قبولها .

وفي رواية يقع لأنه نفع محض بالخلاص عن عهدته فصار كقبول الهبة ، ولو ضمن الأب الصداق رجع الزوج عليه وإلا فلا ، وكذلك الأجنبي لأنه متى ضمن البدل فالخلع يتم بقبوله لا بقبولها لأنه يجب البدل عليه بالتزامه من ملكه ولا يجب عليه إلا إذا وقع العقد معه .

قال : ( ولو قالت : طلقني ثلاثا بألف فطلقها واحدة فعليها ثلث الألف ، ولو قالت : على ألف فطلقها واحدة فلا شيء عليها وهي رجعية ) ، وقالا : هما سواء لأن " على " كالباء في المعاوضات ، لأن قوله احمل هذا بدرهم وعلى درهم سواء . ولأبي حنيفة أن حرف الباء [ ص: 208 ] للمعاوضة وهي تصحب الأعواض فينقسم العوض على المعوض ، وإذا وجب المال كانت بائنة ، أما " على " فإنها للشرط قال تعالى : ( يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ) أي بهذا الشرط ، وكذا لو قال : أنت طالق على أن تدخلي الدار كان شرطا ، والمشروط لا ينقسم على أجزاء الشرط ، لأن وجوب الألف صار معلقا بالتطليق ثلاثا فلا يلزم قبله ، لأن المعلق عدم قبل وجود الشرط ، وإذا لم يجب المال فقد طلقها بصريح الطلاق فكانت رجعية .

( ولو قال لها : طلقي نفسك ثلاثا بألف أو على ألف فطلقت واحدة لم يقع شيء ) لأنه ما رضي بالبينونة إلا ليسلم له جميع الألف بخلاف المسألة الأولى لأنها لما رضيت بالبينونة بالألف فلأن ترضى ببعضها كان أولى .

( ولو قال لها : أنت طالق وعليك ألف فقبلت طلقت ولا شيء عليها ) وكذلك إن لم تقبل ، وقالا : إن قبلت فعليها الألف ، وإلا لا شيء عليها ، لأن هذا الكلام يستعمل للمعاوضة ، يقال : اعمل هذا ولك درهم كقوله بدرهم ، وله أن قوله وعليك ألف لا ارتباط له بما قبله ، إذ الأصل ذلك ولا دلالة على الارتباط ، لأن الطلاق يوجد بدون المال ، بخلاف البيع والإجارة فإنهما لا ينفكان عن وجوب المال ، ولو قال لعبده : أنت حر وعليك ألف فعلى الخلاف .

ولو قالت له : اخلعني على ألف فقال مجيبا لها : أنت طالق كان كقوله خلعتك ، ولو قال : بعت منك طلاقك بمهرك ، فقالت : طلقت نفسي بانت منه بمهرها بمنزلة قولها اشتريت ، ولو قال : بعت منك تطليقة ، فقالت اشتريت تقع واحدة رجعية مجانا لأنه صريح .

قال : ( والمبارأة كالخلع يسقطان كل حق لكل واحد من الزوجين على الآخر مما يتعلق بالنكاح حتى لو كان قبل الدخول وقد قبضت المهر لا يرجع عليها بشيء ) ولو لم تقبض شيئا لا ترجع عليه بشيء ، ولو خالعها على مال آخر لزمها وسقط الصداق . وقال محمد : لا يسقط [ ص: 209 ] فيهما إلا ما سمياه وأبو يوسف معه في الخلع ومع شيخه في المبارأة . لمحمد أنه تعذر العمل بحقيقة اللفظين على ما يأتي فجعلا كناية عن الطلاق على مال فلا يجب إلا ما سمياه . ولأبي يوسف أن المبارأة مفاعلة من البراءة وقضيتها البراءة من الجانبين مطلقا ، إلا أنا اقتصرنا على ما وقعت المبارأة لأجله وهو حقوق النكاح . أما الخلع فيقتضي الانخلاع ، وقد حصل الانخلاع من النكاح فلا حاجة إلى حقوقه . ولأبي حنيفة أن الخلع عبارة عن الانخلاع والانتزاع على ما مر في أول الباب ، والمبارأة كما قالأبو يوسف تقتضي الانخلاع والبراءة من الجانبين ، ونفس النكاح لا يحتمل الانخلاع والبراءة ، وحقوقه تقبل ذلك فتقع البراءة عنها ليحصل ما هو المقصود من الخلع وهو انقطاع المشاجرة بين الزوجين ، أو نقول : يعمل بإطلاقهما في النكاح وأحكامه وحقوقه بدلالة العوض .

ولو وقع الخلع بلفظ البيع والشراء فالأصح أنه يوجب البراءة عند أبي حنيفة ولو اختلعا ولم يذكرا المهر ولا بدلا آخر فالصحيح أنه يسقط ما بقي من المهر وما قبضته فهو لها ، وإن ذكرا نفقة العدة سقطت وإلا فلا لأنها لم تجب بعد ، ولا تقع البراءة عن نفقة الولد وهي مئونة الرضاع إلا بالشرط لأنها لم تجب لها ، فإن شرطا البراءة منها في الخلع ووقتا بأن قال : إلى سنة أو سنتين سقطت ، فإن مات الولد قبل تمام المدة رجع عليها بما بقي من أجر مثل الرضاع إلى تمام المدة ، والحيلة لعدم الرجوع أن يقول : خالعتك على كذا ، أو على نفقة الولد إلى سنتين ، فإن مات في بعض المدة فلا رجوع لي عليك .

قال : ( ويعتبر خلع المريضة من الثلث ) لأنه لا قيمة للبضع عند الخروج ، وليس من الحوائج الأصلية فكان كالوصية ، وهذا إذا ماتت بعد العدة أو قبل الدخول ، فأما إذا ماتت وهي في العدة فللزوج الأقل من الميراث ومن المهر إن كان يخرج من الثلث ، وإن لم يخرج فله الأقل من ميراثها ومن الثلث .

[ ص: 210 ] ولو كان الزوج مكاتبا عبدا أو مدبرا جاز الخلع وصارت أمة للسيد ، والفرق أنها تصير مملوكة للمولى فلا ينفسخ النكاح ، وفي الحر لو صارت مملوكة له بطل النكاح فيبطل الخلع .

أمتان تحت حر خلعهما المولى على رقبة إحداهما بعينها بطل الخلع فيها وصح في الأخرى ويقسم الثمن على مهرهما ، فما أصاب مهر التي صح خلعها فهو للزوج من رقبة الأخرى ، ولو خلع كل واحدة منهما على رقبة الأخرى وقع الطلاقان بائنين بغير شيء ، لأنه قارن وقوع الطلاق على كل واحدة وقوع الملك في رقبتها فتعذر إيجاب العوض ، ولو طلق كل واحدة على رقبة صاحبتها يقع رجعيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية