صفحة جزء
[ ص: 217 ] [ باب اللعان ] ويجب بقذف الزوجة بالزنا أو بنفي الولد إذا كانا من أهل الشهادة وهي ممن يحد قاذفها وطالبته بذلك ، فإن امتنع منه حبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه فيحد ، فإذا لاعن وجب عليها اللعان ، وتحبس حتى تلاعن أو تصدقه ، وإذا لم يكن الزوج من أهل الشهادة فعليه الحد ، وإن كان من أهل الشهادة وهي ممن لا يحد قاذفها فلا حد عليه ولا لعان ويعزر .

وصفة اللعان أن يبتدئ القاضي بالزوج فيشهد أربع مرات يقول في كل مرة : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنا ، ويقول في الخامسة : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتك به من الزنا ، وإن كان القذف بولد يقول : فيما رميتك به من نفي الولد . وإن كان بهما يقول : فيما رميتك به من الزنا ومن نفي الولد . ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا ، وتقول في الخامسة : غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا ، وفي نفي الولد تذكره ، فإذا التعنا فرق الحاكم بينهما ، فإذا فرق بينهما كانت تطليقة بائنة ( س ) ، فإن كان القذف بولد نفى القاضي نسبه وألحقه بأمه ، وإذا قال : حملك ليس مني فلا لعان ( سم ) .

ويصح نفي الولد عقيب الولادة وفي حالة التهنئة وابتياع آلة الولادة فيلاعن وينفيه القاضي ، وبعد ذلك يثبت نسبه ويلاعن ، وإن كان غائبا فعلم فكأنها ولدت حال علمه ، ومن ولدت ولدين في بطن واحد فاعترف بالأول ونفى الثاني ثبت نسبهما ولاعن ، وإن عكس فنفى الأول واعترف بالثاني ثبت نسبهما وحد .


باب اللعان

وهو مصدر لاعن يلاعن ملاعنة كقاتل يقاتل مقاتلة ، والملاعنة مفاعلة من اللعن ، ولا يكون هذا الوزن إلا بين اثنين ، إلا ما شذ كراهقت الحلم وطارقت النعل وعاقبت اللص ونحوه ، وهو لفظ عام .

وفي الشرع : هو مختص بملاعنة تجري بين الزوجين بسبب مخصوص بصفة مخصوصة على ما يأتيك إن شاء الله تعالى ، وهو شهادات مؤكدات بالأيمان موثقة باللعن والغضب من الله تعالى كما نطق به الكتاب ، وقد كان موجب القذف في الحد في الأجنبية والزوجة بقوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ) الآية ؛ فنسخ في الزوجات إلى اللعان بقوله تعالى : ( والذين يرمون أزواجهم ) الآية ، وسبب ذلك ما روى ابن عباس رضي الله عنه : " أن هلال بن أمية قذف امرأته خولة بشريك بن سحماء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال سعد بن عبادة : الآن يضرب هلال وترد شهادته ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : البينة أو حد في ظهرك ، فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول : البينة أو حد في ظهرك ، فقالهلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزل : ( والذين يرمون أزواجهم ) إلى قوله : ( إن كان من الصادقين ) [ ص: 218 ] فلاعن عليه الصلاة والسلام بينهما ، وقال عند ذكر اللعنة والغضب : آمين ، وقال القوم : آمين ، قال : ( ويجب بقذف الزوجة بالزنا ) لما تلونا ( أو بنفي الولد ) لأنه في معناه . قال : ( إذا كانا من أهل الشهادة وهي ممن يحد قاذفها وطالبته بذلك ) لأن الركن فيه الشهادة . قال تعالى : ( ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم ) . والشهادة لا تكون معتبرة إلا إذا صدرت من أهلها ، فوجوب الشهادة عليهما اشتراط كونهما من أهل الشهادة ، ولا بد من أن تكون ممن يحد قاذفها ، لأن اللعان في حقها كحد القذف لما أن اللعان عقوبة ، فإن كان كاذبا التحق به كالحد حتى لا تقبل شهادته بعد اللعان أبدا ، وهو في حقها كحد الزنا لأن الغضب في حقها من الله تعالى عقوبة شديدة يلتحق بها إن كانت كاذبة فقام مقام حد الزنا ، ولهذا لا يثبت اللعان بالشهادة على الشهادة ، ولا بكتاب القاضي ، ولا بشهادة النساء كالحدود ، ولا بد من طلبها لها لأن الحق كما في حد القذف . وشرط اللعان قيام الزوجية بينهما بنكاح صحيح دون الفاسد ، لأن مطلق الزوجية ينصرف إلى الصحيح .

قال : ( فإن امتنع منه حبس حتى يلاعن ) لأنه حد وجب عليه فيحبس فيه لقدرته عليه ( أو يكذب نفسه فيحد ) لأنه إذا أكذب نفسه سقط اللعان ، وإذا سقط اللعان وجب عليه الحد ، لأن القذف لا يخلو عن موجب ، فإذا سقط اللعان صرنا إلى حد القذف ، إذ هو الأصل .

( فإذا لاعن وجب عليها اللعان ) بالنص ، ( وتحبس حتى تلاعن ) لما بينا ، ( أو تصدقه ) فلا حاجة إلى اللعان ، ولا يجب عليها حد الزنا ، لأن من شرطه الأقارير الأربعة عندنا على ما يأتي [ ص: 219 ] بيانه ، ولهذا قال الشافعي رحمه الله : تحد لأن الزاني يحد عنده بالإقرار مرة واحدة ويبتدئ في اللعان بالزوج لأنه هو المدعي ، ولأنه عليه الصلاة والسلام بدأ بالزوج ، فلما التعنا فرق بينهما ، فإن التعنت المرأة أولا ثم الزوج أعادت ليكون على الترتيب المشروع ، فإن فرق بينهما قبل الإعادة جاز لأن المقصود تلاعنهما وقد وجد .

قال : ( وإذا لم يكن الزوج من أهل الشهادة ) بأن كان عبدا أو محدودا في قذف أو كافرا ( فعليه الحد ) لأن اللعان امتنع لمعنى من جهته ، فيرجع إلى الموجب الأصلي ( وإن كان من أهل الشهادة وهي ممن لا يحد قاذفها ) بأن كانت أمة أو كافرة أو محدودة في قذف أو صبية أو مجنونة أو زانية ( فلا حد عليه ولا لعان ) لأن المانع من جهتها فصار كما إذا صدقته ، ( ويعزر ) لأنه آذاها وألحق الشين بها ولم يجب الحد فيجب التعزير حسما لهذا الباب ، ولو كانا محدودين في قذف حد لأن اللعان امتنع من جهته لأنه يبدأ به وهو ليس من أهل الشهادة ، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام : " أربعة لا لعان بينهم وبين نسائهم : اليهودية والنصرانية تحت المسلم ، والمملوكة تحت الحر ، والحرة تحت المملوك " ، وفي رواية : " والمسلم تحته كافرة ، والكافر تحته مسلمة " ، وصورته : إذا كانا كافرين فأسلمت فقذفها قبل عرض الإسلام عليه .

( وصفة اللعان أن يبتدئ القاضي بالزوج فيشهد أربع مرات يقول في كل مرة : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنا ، ويقول في الخامسة : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتك به من الزنا ، وإن كان القذف بولد يقول : فيما رميتك به من نفي الولد ، وإن كان بهما يقول : فيما رميتك به من الزنا ومن نفي الولد ) لأنه المقصود باليمين .

( ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا ، وتقول في الخامسة : غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا ، وفي نفي الولد تذكره ) كما تقدم .

[ ص: 220 ] ( فإذا التعنا فرق الحاكم بينهما ) ولا تقع الفرقة قبل الحكم حتى لو مات أحدهما قبل التفريق ورثه الآخر . وقال زفر : تقع الفرقة بينهما بالتلاعن لوقوع الحرمة المؤبدة بينهما بالنص وهو المقصود من الفرقة . ولنا ما روي : " أن النبي عليه الصلاة والسلام لما لاعن بينهما قال الزوج : كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثا " . قال الراوي : ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها ، فأمضى عليه ذلك فصار سنة المتلاعنين ، ولو وقعت الفرقة بتلاعنهما لم يقع الطلاق ، ولما أمضاه عليه الصلاة والسلام ولبين له بطلان اعتقاده في وقوع الطلاق ، ولأن حرمة الاستمتاع تثبت باللعان ، لأن اللعن والغضب نزل بأحدهما بيقين وأثره بطلان النعمة ، وحل الاستمتاع نعمة والزوجية نعمة ، وحل الاستمتاع أقلهما فيحرم ، وهذه الحرمة جاءت من قبله لأنها بسبب قذفه ، فقد فوت عليها الإمساك بالمعروف فيجب عليه التسريح بالإحسان ، فإذا لم يسرحها وهو قادر عليه كان ظالما لها فينوب القاضي منابه دفعا للظلم .

( فإذا فرق بينهما كانت تطليقة بائنة ) لأنه كفعل الزوج كما في الجب والعنة . وقال أبو يوسف : هو تحريم مؤبد ، وثمرته إذا أكذب نفسه حده القاضي وعاد خاطبا ، وعنده لا لقوله عليه الصلاة والسلام : " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا " ، ولنا أنه إذا أكذب نفسه لم يصيرا متلاعنين ولا يبقى حكمه ، ولهذا وجب عليه الحد بالإكذاب ، ولأن اللعان شهادة وهي تبطل بتكذيب الشاهد نفسه فلم يبقيا متلاعنين لا حقيقة ولا حكما فلم يتناولهما النص .

[ ص: 221 ] قال : ( فإن كان القذف بولد نفى القاضي نسبه وألحقه بأمه ) لأنه عليه الصلاة والسلام نفى ولد امرأة هلال وألحقه بأمه .

وإذا قذف الأعمى امرأته العمياء أو الفاسق امرأته يجب اللعان لأنهما من أهل الشهادة ، ولو كان أحدهما أخرس لا حد ولا لعان لأنه ليس من أهل الشهادة ، ولو خرس أحدهما أو ارتد أو أكذب نفسه أو قذف أحدهما إنسانا فحد للقذف ، أو وطئت حراما بعد اللعان قبل التفريق بطل اللعان ولا حد ولا تفريق ، لأن ما منع الوجوب منع الإمضاء لوجود الشبهة ، ولو وطئت بشبهة فقذفها زوجها لا لعان عليه ولا حد على قاذفها . وعن أبي يوسف أنه رجع وقال : يجب اللعان والحد لأنه وطء يجب فيه المهر ويثبت النسب . وجه الظاهر أنه وطء في غير ملك فأشبه الزنا وصار شبهة في إسقاط الحد عن القاذف .

ولو قذفها ثم وطئت حراما لا لعان بينهما لما بينا ، ولو لم يفرق الحاكم بينهما حتى عزل أو مات فالحاكم الثاني يستقبل اللعان بينهما . وقال محمد : لا يستقبل لأن اللعان قائم مقام الحد فصار كإقامة الحد حقيقة ، وذلك لا يؤثر فيه عزل الحاكم وموته . ولهما أن تمام الإمضاء في التفريق والإنهاء فلا يتناهى قبله فيجب الاستقبال ، ولو طلقها بعد القذف ثلاثا أو بائنا فلا حد ولا لعان ، ولو كان رجعيا لاعن لقيام الزوجية ، ولو تزوجها بعد الطلاق البائن فلا لعان ولا حد بذلك القذف .

ولو قال : أنت طالق ثلاثا يا زانية فعليه الحد دون اللعان لأنه قذف أجنبية ، ولو قال : يا زانية أنت طالق ثلاثا فلا حد ولا لعان ، لأنه طلقها ثلاثا بعد وجوب اللعان فسقط بالبينونة ، ولو قذف أربع نسوة لاعن مع كل واحدة منهن ، ولو قذف أربع أجنبيات حد لهن حدا واحدا ، والفرق أن المقصود في الثانية الزجر ، وهو يحصل بحد واحد ، أما الأول فالمقصود باللعان دفع العار عن المرأة وإبطال نكاحها عليه وذلك لا يحصل بلعان واحد .

قال : ( وإذا قال : ليس حملك مني فلا لعان ) وقالا : إن ولدت لأقل من ستة أشهر من يوم القذف يجب اللعان لأنا تيقنا بقيام الحمل يومئذ ، وله أنه يومئذ لم يتيقن بقيام الحمل فلم يصر قاذفا ، وإذا لم يكن قاذفا في الحال يصير كأنه قال : إن كان بك حمل فليس مني ولا يثبت حكم القذف إذا كان معلقا بالشرط ، وأجمعوا أنه لا ينتفي نسب الحمل قبل الولادة لأنه حكم عليه ولا حكم على الجنين قبل الولادة كالإرث والوصية ، ولو نفى ولد زوجته الحرة فصدقته فلا حد [ ص: 222 ] ولا لعان وهو ابنهما لا يصدقان على نفيه ، لأن النسب حق الولد والأم لا تملك إسقاط حق ولدها فلا ينتفي بتصديقها ، وإنما لم يجب الحد واللعان لتصديقها لأنه لا يجوز لها أن تشهد أنه لمن الكاذبين وقد قالت إنه لصادق ، وإذا تعذر اللعان لا ينتفي النسب .

قال : ( ويصح نفي الولد عقيب الولادة وفي حالة التهنئة وابتياع آلة الولادة فيلاعن وينفيه القاضي ، وبعد ذلك يثبت نسبه ويلاعن ) وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه مقدر بسبعة أيام لأن أثر الولادة والتهنئة فيها اعتبارا بالعقيقة ، وقالا : يصح نفيه في مدة النفاس لأنه أثر الولادة ، وله أن الزوج لو نفاه عقيب الولادة انتفى بالإجماع ، ولو لم ينفه حتى طالت المدة لم يكن له نفيه بالإجماع فلا بد من حد فاصل ، ومعلوم أن الإنسان لا يشهد عليه بنسب ولده ، وإنما يستدل على ذلك بقبوله التهنئة وابتياع متاع الولادة وقبول هدية الأصدقاء ، فإذا فعل ذلك أو مضى مدة يفعل فيه ذلك عادة وهو ممسك كان اعترافا ظاهرا فلا يصح نفيه بعده .

قال : ( وإن كان غائبا فعلم فكأنها ولدت حال علمه ) معناه : أنه يصح نفيه عندهما في مدة النفاس بعد العلم . وعنده مدة التهنئة على ما بينا ، لأنه لا يجوز أن يلزمه النسب مع عدم علمه فصار حال علمه كحالة الولادة على الأصلين . وعن أبي يوسف إن علم قبل الفصال فهو مقدر بمدة النفاس وبعده ليس له أن ينفيه ، لأن قبل الفصال كمدة النفاس حيث لم ينتقل عن غذائه الأول وبعده ينتقل ويخرج عن حالة الصغر فيقبح نفيه كما لو بقي شيخا .

قال : ( من ولدت ولدين في بطن واحد فاعترف بالأول ونفى الثاني ثبت نسبهما ولاعن ، وإن عكس فنفى الأول واعترف بالثاني ثبت نسبهما وحد ) أما ثبوت النسب فلأنهما توأمان خلقا من ماء واحد ، فمتى ثبت نسب أحدهما باعترافه ثبت نسب الآخر ضرورة . وأما اللعان في الأولى والحد في الثانية فلأنه لما نفى الثاني لم يكن مكذبا نفسه فيلاعن ، وفي الثانية لما نفى الأول صار مكذبا نفسه باعترافه الثاني فيحد ، ولو قال في المسألة الثانية : هما ابناي لا يحد ولا يكون تكذيبا لأنه صادق لأنهما لزماه من طريق الحكم فكان مخبرا عما ثبت بالحكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية