صفحة جزء
[ ص: 272 ] باب الاستيلاد لا يثبت نسب ولد الأمة من مولاها إلا بدعواه ، فإذا اعترف به صارت أم ولده ، فإذا ولدت منه بعد ذلك ثبت بغير دعوة ، ينتفي بمجرد نفيه بغير لعان ، ولا يجوز إخراجها من ملكه إلا بالعتق ، وله وطؤها واستخدامها وإجارتها وكتابتها ، وتعتق بعد موته من جميع المال ، ولا تسعى في ديونه ، وحكم ولدها من غيره بعد الاستيلاد حكمها ، وإذا أسلمت أم ولد النصراني سعت في قيمتها وهي كالمكاتبة ( ز ) ، ولو مات سيدها عتقت بلا سعاية ، ولو تزوج أمة غيره فجاءت بولد ثم ملكها صارت أم ولد له ، ولو وطئ جارية ابنه فولدت وادعاه ثبت نسبه وصارت أم ولد له وعليه قيمتها دون عقرها وقيمة ولدها ، والجد كالأب عند انقطاع ولايته .

جارية بين اثنين ولدت فادعاه أحدهما ثبت نسبه ، وعليه نصف قيمتها ونصف عقرها ولا شيء عليه من قيمة ولدها ، وإن ادعياه معا صارت أم ولد لهما ويثبت نسبه منهما ، وعلى كل واحد منهما نصف عقرها ، ويرث من كل واحد منهما كابن ، ويرثان منه كأب واحد .


باب الاستيلاد

وهو في اللغة : طلب الولد مطلقا ، فإن الاستفعال طلب الفعل . وفي الشرع : طلب الولد من الأمة ، وكل مملوكة ثبت نسب ولدها من مالك لها أو لبعضها فهي أم ولد له لأن الاستيلاد فرع لثبوت الولد ، فإذا ثبت الأصل ثبت فرعه .

قال : ( لا يثبت نسب ولد الأمة من مولاها إلا بدعواه ) لأنه لا فراش لها ، فإن غالب المقصود من وطء الأمة قضاء الشهوة دون الولد ، فإن أشراف الناس يمتنعون من وطء الإماء تحرزا عن الولد لئلا يعير ولده بكونه ولد أمة ، فيشترط لثبوته دعواه لهذا المعنى ، ولهذا جاز له العزل في الأمة دون الزوجة ، لأن المراد من وطء الزوجة طلب الولد غالبا ، قال عليه الصلاة والسلام : " تناكحوا تكثروا " إشارة إلى أن المراد من شرعية النكاح التوالد والتناسل ، ثم إن كان يطؤها ولا يعزل عنها لا يحل له نفيه فيما بينه وبين الله تعالى ، ويلزمه أن يعترف به لأن الظاهر أنه منه ، وإن كان يعزل عنها ولم يحصنها جاز له النفي لتعارض الظاهرين ، وقال أبو يوسف : إن كان يطؤها ولم يحصنها أحب إلي أن يدعيه . وقال محمد : أحب إلي أن يعتق ولدها ويستمتع بها فإذا مات أعتقها . لأبي يوسف أنه يجوز أن يكون منه فلا ينفيه بالشك .

[ ص: 273 ] ولمحمد أنه يجوز أن يكون منه ويجوز أن لا يكون منه فلا يجوز التزامه بالشك . أما العتق فيحتمل أن يكون عبدا ويحتمل أن يكون حرا فلا يسترقه بالشك ، ويستمتع بالأم لأنه مباح له وإن ثبت نسبه ، فإذا مات أعتقها حتى لا تسترق بالشك .

( فإذا اعترف به صارت أم ولده ، فإذا ولدت منه بعد ذلك ثبت بغير دعوة ) لأنه لما ادعى الأول وثبت نسبه تبين أنه قصد الولد فصارت فراشا فيثبت بغير دعوة كالمنكوحة .

( وينتفي بمجرد نفيه بغير لعان ) لأن فراشها ضعيف حتى يقدر على إبطاله بالتزويج وبالعتق فينفرد بنفيه ، بخلاف النكاح فإن فراشه قوي لا يملك إبطاله فلا ينتفي ولده إلا باللعان ، ولو أقر أن أمته حبلى منه ثم جاءت بولد لستة أشهر ثبت نسبه منه وصارت أم ولد له ، ولأكثر من ستة أشهر لا ، وسواء كان الولد حيا أو ميتا أو سقطا قد استبان خلقه أو بعض خلقه إذا أقر به وهو بمنزلة الكل لأن السقط تتعلق به أحكام الولادة على ما مر ، وإن لم يستبن شيء من خلقه وألقته مضغة أو علقة فادعاه لم تصر أم ولد له ، رواه الحسن عن أبي حنيفة لأنه يحتمل أن يكون دما أو لحما فلا يثبت الاستيلاد بالشك .

ولو حرم وطؤها عليه بعد ذلك بوطء أبيه أو ابنه ، أو بوطئه أمها أو بنتها لم يثبت نسب ما تلده بعد ذلك إلا بالدعوة لأن فراشها انقطع ، وإذا ولدت الأمة من رجل ولدا لم يثبت نسبه منه بأن زنى بها ثم ملكها وولدها عتق الولد وجاز له بيع الأم . وقال زفر : لا يجوز لأن الحرية تثبت للولد بالولادة فيثبت لأمه الاستيلاد كالثابت النسب . ولنا أن الاستيلاد يتبع النسب ولهذا يضاف إليه ، فيقال : أم ولده ، وهو الذي يثبت لها الحرية ، قال عليه الصلاة والسلام : " أعتقها ولدها " ، ولم يثبت النسب فلا يثبت التبع . وأما حرية الولد فلأنها تثبت بحكم الجزئية ، وصار كما لو أعتقه بالعتق .

قال : ( ولا يجوز إخراجها من ملكه إلا بالعتق ) فلا يجوز بيعها ولا هبتها ولا تمليكها بوجه ما . والأصل في ذلك ما روى محمد بن الحسن بإسناده " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق أمهات الأولاد من جميع المال ، وقال : لا يعرن ولا يبعن " ، وعن عمر رضي الله عنه أنه كان ينادي على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن بيع أمهات الأولاد حرام ، ولا رق عليها بعد موت مولاها ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فحل محل الإجماع . وعن ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام [ ص: 274 ] قال حين ولدت أم إبراهيم : " أعتقها ولدها " . وعن سعيد بن المسيب : " أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بعتق أمهات الأولاد ، ولا يسعين في الدين ، ولا يجعلن من الثلث " . وروى عبيدة السلماني قال : قال علي بن أبي طالب : اجتمع رأيي ورأي عمر في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عتق أمهات الأولاد ، ثم رأيت بعد أن يبعن في الدين ، فقال عبيدة السلماني : رأيك ورأي عمر في جماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة ، قال علي رضي الله عنه : إن السلماني لفقيه ، ورجع عن ذلك .

قال : ( وله وطؤها واستخدامها وإجارتها وكتابتها ) لأن الملك قائم فيها كالمدبرة ، فإن كل واحد منهما عتق معلق بالموت ، والكتابة تعجيل العتق على ما بيناه في المدبر ، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يفارق مارية بعد ما ولدت .

قال : ( وتعتق بعد موته من جميع المال ، ولا تسعى في ديونه ) لما تقدم من الأحاديث ، ( وحكم ولدها من غيره بعد الاستيلاد حكمها ) لما تقدم أن الحكم المستقر في الأم يسري إلى الولد . قال : ( وإذا أسلمت أم ولد النصراني سعت في قيمتها وهي كالمكاتبة ) لا تعتق حتى تؤدي . وقال زفر : تعتق للحال والسعاية دين عليها ، لأن زوال رقه عنها واجب بالإسلام إما بالبيع أو بالإعتاق ، وقد تعذر البيع بالاستيلاد فتعين العتق . ولنا أن ما قلناه نظر لهما ، لأن ذل الرق يندفع عنها بجعلها مكاتبة لأنها تصير حرة يدا ، ويندفع الضرر عن الذمي فتسعى في الأداء لتنال الحرية ، ولو قلنا بعتقها في الحال وهي معسرة تتوانى عن الاكتساب والأداء إلى الذمي فيتضرر ، وهي وإن لم تكن متقومة فهي محترمة وهو يكفي للضمان ، كما إذا عفا أحد الشركاء عن القصاص يجب المال للباقين ، وهذا إنما يجب عليها إذا عرض عليه الإسلام فأبى حتى يجب زوال ملكه عنها ، أما إذا أسلم فهي أم ولده على حالها كما قلنا في النكاح .

( ولو مات سيدها عتقت بلا سعاية ) لأنها أم ولد . قال : ( ولو تزوج أمة غيره فجاءت بولد [ ص: 275 ] ثم ملكها صارت أم ولد له ) ، وكذا لو استولدها بملك يمين ثم استحقت ثم عادت إلى ملكه فهي أم ولد له ، لأن نسب الولد ثابت منه فتثبت أمية الولد لأنها تتبعه على ما مر ، ولأن الاستيلاد حرية تتعلق بثبوت النسب ، فإذا جاز أن يثبت النسب في غير الملك جاز أن يثبت ما يتعلق به أيضا تبعا له ، بخلاف ما إذا ولدت منه من زنا على ما بينا .

قال : ( ولو وطئ جارية ابنه فولدت وادعاه ثبت نسبه وصارت أم ولد له ، وعليه قيمتها دون عقرها وقيمة ولدها ) لأن للأب أن يتملك مال ابنه للحاجة إلى البقاء للمأكل والمشرب ، فله أن يتملك جاريته للحاجة إلى صيانة مائه وبقاء نسله ، لأن كفاية الأب على ابنه لما مر في النفقات ، إلا أن حاجته إلى صيانة مائه وبقاء نسله دون حاجته إلى بقاء نفسه ، فلهذا قلنا يتملك الجارية بقيمتها ، والطعام بغير قيمة ، ويثبت له هذا الملك قبيل الاستيلاد ليثبت الاستيلاد ، ولأن المصحح للاستيلاد إما حقيقة الملك أو حقه ، ولا بد من ثبوته قبل العلوق ليلاقي ملكه فيصح الاستيلاد ، وإذا صح في ملكه لا عقر عليه ولا قيمة الولد لما أن العلوق حدث على ملكه ، ولو أن الابن زوجها من الأب فولدت منه لم تصر أم ولد لأن ماءه صار مصونا بالنكاح فلا حاجة إلى الملك ولا قيمة عليه لأنه لم يملكها ، وعليه المهر لأنه التزمه بالنكاح وولدها حر لأنه ملكه أخوه فيعتق عليه لما بيناه ، وأصله أن هذا النكاح صحيح لأنه لا ملك للأب فيها ، لأن الابن يملك فيها جميع التصرفات وطئا وبيعا وإجارة وعتقا وكتابة وغير ذلك ، والأب لا يملك شيئا من ذلك ، وأنه دليل انتفاء ملك الأب وعدم وجوب الحد على الأب بوطئها للشبهة ، وإذا انتفى ملك الأب جاز نكاحه كما إذا تزوج الابن جارية الأب .

قال : ( والجد كالأب عند انقطاع ولايته ) لأنه يقوم مقامه ومع ولايته لا ولاية للجد ، والولاية تنقطع بالكفر والرق والردة واللحاق والموت .

قال : ( جارية بين اثنين ولدت فادعاه أحدهما ثبت نسبه ) لأنه لما ثبت النسب في نصفه لمصادفته ملكه ثبت في الباقي لأنه لا يتجزأ ، لأن سببه وهو العلوق لا يتجزأ ، فإن الولد الفرد لا ينعلق من ماء رجلين وصارت أم ولد له . وهذا عندهما ظاهر ، لأن الاستيلاد لا يتجزأ ، وأما عنده فنصيبه يصير أم ولد ويتملك نصيب صاحبه لأنه قابل للملك فيكمل له [ ص: 276 ] فيصير الكل أم ولد ، ( وعليه نصف قيمتها ) لأنه تملكه ، ( و ) عليه ( نصف عقرها ) لوطئه جارية مشتركة لأن الملك يتعقب الاستيلاد حكما له ، ( ولا شيء عليه من قيمة ولدها ) لأن النسب يثبت مستندا إلى وقت العلوق ولم ينعلق شيء منه على ملك شريكه .

قال : ( وإن ادعياه معا صارت أم ولد لهما ) لصحة دعوى كل واحد منهما في نصيبه في الولد ، والاستيلاد يتبع الولد ( ويثبت نسبه منهما ) لما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى شريح في هذه الحادثة : " لبسا فلبس عليهما ، ولو بينا لبين لهما ، هو ابنهما يرثهما ويرثانه ، وهو للباقي منهما " ، وذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير فكان إجماعا ، ومثله عن علي رضي الله عنه أيضا ، ولأنهما مستويان في سبب الاستحقاق وهو الملك فيستويان في الاستحقاق . وما روي من حديث المدلجي وأسامة بن زيد وفرح النبي عليه الصلاة والسلام . قلنا : لم يثبت ذلك عنده عليه الصلاة والسلام بقول القائف ، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم ذلك ولكن المشركون كانوا يطعنون في نسب أسامة ، فكان قول القائف قاطعا لطعنهم ، لأنهم كانوا يعتقدونه في الجاهلية لا أنه حكم شرعي ، فلذلك فرح النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما كون النسب لا يتجزأ فتعلق به أحكام متجزئة ، فما لا يتجزأ يثبت في حق كل واحد منهما كاملا ، وما يقبله يثبت في حقهما متجزئا عملا بالدلائل بقدر الإمكان .

( وعلى كل واحد منهما نصف عقرها ) ويسقط قصاصا بما له على الآخر ، إذ لا فائدة في قبضه وإعطائه ( ويرث من كل واحد منهما كابن ) لأنه لما أقر أنه ابنه فقد أقر له بميراث ابن ، ( ويرثان منه كأب واحد ) لاستوائهما في الاستحقاق كما إذا أقاما البينة ، فإن كانت الجارية بين أب وابن فهو للأب ترجيحا لجانبه لما له من الحق في نصيب الابن كما تقدم ، وإن كانت بين مسلم وذمي فهو للمسلم ترجيحا للإسلام . وقال زفر : هما سواء في المسألتين لاستوائهما في الملك الموجب . قلنا : دعوة الأب راجحة بدليل أنه لو ادعى نسب ولد جارية الابن يصح وبالعكس لا ، والمسلم راجح بالإسلام ولأنه أنفع للصغير .

التالي السابق


الخدمات العلمية