صفحة جزء
[ ص: 290 ] كتاب الأيمان

اليمين بالله تعالى ثلاثة : غموس ، وهي الحلف على أمر ماض أو حال يتعمد فيها الكذب فلا كفارة فيها ولغو : وهي الحلف على أمر يظنه كما قال وهو بخلافه ، فنرجو أن لا يؤاخذه الله بها ومنعقدة : وهي الحلف على أمر في المستقبل ليفعله أو يتركه ، وهي أنواع : منها ما يجب فيه البر كفعل الفرائض ومنع المعاصي ، ونوع يجب فيه الحنث كفعل المعاصي وترك الواجبات ، ونوع الحنث فيه خير من البر كهجران المسلم ونحوه ، ونوع هما على السواء ، فحفظ اليمين فيه أولى ، وإذا حنث فعليه الكفارة : إن شاء أعتق رقبة ، وإن شاء أطعم عشرة مساكين أو كساهم ، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام متتابعات ، ولا يجوز التكفير قبل الحنث ، والقاصد والمكره والناسي في اليمين سواء .


[ ص: 290 ] كتاب الأيمان

وهو جمع يمين ، واليمين في اللغة : القوة ، قال تعالى : ( لأخذنا منه باليمين ) أي بالقوة والقدرة منا ، وقيل في قوله تعالى : ( قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ) أي تتقوون علينا ، وقال :


إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

وهي الجارحة أيضا .

وهي مطلق الحلف أي شيء كان من غير تخصيص ، وقوله تعالى : ( فراغ عليهم ضربا باليمين ) يحتمل الوجوه الثلاثة : أي بيده اليمنى أو بقوته أو بحلفه ، وهو قوله : ( وتالله لأكيدن أصنامكم ) .

وفي الشرع نوعان ، أحدهما : القسم ، وهو ما يقتضي تعظيم المقسم به ، فلهذا قلنا لا يجوز إلا بالله تعالى ، قال عليه الصلاة والسلام : " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليذر " ، وفيها [ ص: 291 ] المعنى اللغوي ، لأن فيها الحلف ، وفيها معنى القوة لأنهم يقوون كلامه ويوثقونه بالقسم بالله تعالى ، وكانوا إذا تحالفوا أو تعاهدوا يأخذون باليمين التي هي الجارحة .

الثاني : الشرط والجزاء ، وهو تعليق الجزاء بالشرط على وجه ينزل الجزاء عند وجود الشرط كقوله : إن لم آتك غدا فعبدي حر ، وهذا النوع ثبت بالاصطلاح الشرعي ولم ينقل عن أهل اللغة وفيه معنى القوة والتوثق أيضا ، لأن اليمين تعقد للحمل على فعل المحلوف عليه أو للمنع عن فعله ، فإن الإنسان يعلم كون الفعل مصلحة ولا يفعله لنفور الطبع عنه ، ويعلم كونه مفسدة ولا يمنع عنه لميله إليه وغلبة شهوته ، فاحتاج في تأكيد عزمه على الفعل أو الترك إلى اليمين ، وكما أن اليمين بالله تعالى تحمله أو تمنعه لما يلازمها من الإثم بهتك الاسم المعظم والكفارة ، فكذلك الشرط والجزاء يحمله ويمنعه لما يلازمه من زوال ملك النكاح وملك الرقبة وغير ذلك فيحصل المنع والحمل بكل واحدة من اليمينين فألحقناها بها لاشتراكهما في المعنى .

واليمين مشروعة في المعاهدات والخصومات توكيدا وتوثيقا للقول ، قال تعالى : ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) وقال عليه الصلاة والسلام : " لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت ، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليذر " ، والأفضل أن يقلل الحلف بالله تعالى . والحلف بغير الله تعالى قيل : يكره لقوله عليه الصلاة والسلام : " ملعون من حلف بالطلاق وحلف به " ، وقيل إن أضيف إلى المستقبل لا يكره وإلى الماضي يكره ، وهذا حسن لأنها مستعملة في العهود والمواثيق بين المسلمين من غير نكير ، والحديث محمول على الإضافة إلى الماضي بالإجماع ، وهي من أيمان السفلة .

قال : ( اليمين بالله تعالى ثلاثة : غموس ، وهي الحلف على أمر ماض أو حال يتعمد فيها الكذب فلا كفارة فيها . ولغو : وهي الحلف على أمر يظنه كما قال وهو بخلافه ، فنرجو أن لا يؤاخذه الله بها . ومنعقدة : وهي الحلف على أمر في المستقبل ليفعله أو يتركه ) فإذا حنث فيها [ ص: 292 ] فعليه الكفارة ، وبيان ذلك أن اليمين إما أن تكون على الماضي أو على الحال أو على المستقبل ، فإن كانت على الماضي أو على الحال ، فإما أن يتعمد الكذب فيها وهي الأولى ، أو لم يتعمد وهي الثانية ، وإن كانت على المستقبل فهي الثالثة ، سواء كان عمدا أو ناسيا ، مكرها أو طائعا على ما نبينه إن شاء الله تعالى .

أما الغموس فليست يمينا حقيقة ، لأن اليمين عقد مشروع على ما بينا وهذه كبيرة فلا تكون مشروعة ، وتسميتها يمينا مجاز لوجود صورة اليمين . كما نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الحر ، سماه بيعا مجازا ، قالوا : وسميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في نار جهنم ، ولهذا قلنا لا كفارة فيها ، واليمين على الماضي مثل قوله : والله ما فعلت كذا . وهو يعلم أنه فعله ، أو والله لقد فعلت كذا . وهو يعلم أنه لم يفعله ، والحال أن يقول : والله ما لهذا علي دين وهو يعلم أن له عليه ، فهذه اليمين لا تنعقد ولا كفارة فيها وإنما التوبة والاستغفار وأمره إلى الله تعالى ، قال عليه الصلاة والسلام : " خمس من الكبائر لا كفارة فيهن : الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، وبهت المسلم ، والفرار من الزحف ، واليمين الغموس " ، وقال عليه الصلاة والسلام : " اليمين الغموس تدع الديار بلاقع " ، ولم يذكر فيها الكفارة ، ولو وجبت لذكرها تعليما ، أو نقول : لو كان لها كفارة لما دعت الديار بلاقع لأن الكفارة اسم لما يستر الذنب فترفع إثمه وعقوبته كغيرها من الذنوب ولأنها كبيرة بالحديث ، والكفارة عبادة لأنها تتأدى بالصوم ويشترط فيها النية فلا يتعلق بها ، ولأن الله تعالى أوجب الكفارة بقوله : ( بما عقدتم الأيمان فكفارته ) والعقد ما يتصور فيه الحل والعقد ، وذلك لا يتصور في الماضي .

وأما اللغو كقوله : والله ما دخلت الدار ، أو ما كلمت زيدا يظنه كذلك وهو بخلافه ، ويكون في الحال أيضا كقوله : والله إن المقبل لزيد فإذا هو عبد الله ، والأصل فيه قوله تعالى : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ) . وحكى محمد عن أبي حنيفة أن اللغو ما يجري بين الناس من قوله : لا والله وبلى والله ، وعن عائشة مثله موقوفا ومرفوعا ، وعن ابن عباس هو الحلف على [ ص: 293 ] يمين كاذبة وهو يرى أنه صادق ، فإن قيل : كيف يقول محمد بن الحسن نرجو أن لا يؤاخذه الله بها والله تعالى نفى المؤاخذة قطعا ؟ فالجواب من وجهين : أحدهما : أن العلماء اختلفوا في تفسير اللغو ، فقال محمد : نرجو أن لا يؤاخذه الله تعالى باليمين على الوجه الذي فسره لاحتمال أنها غيره . والثاني : أن الرجاء على وجهين : رجاء طمع ، ورجاء تواضع ، فجاز أن محمدا ذكر ذلك على سبيل التواضع . وروى ابن رستم عن محمد : لا يكون اللغو إلا في اليمين بالله . وقد عبر عنه الكرخي فقال : ما كان المحلوف به هو الذي يلزمه بالحنث فلا لغو فيه ، وذلك لأن من حلف بالله على أمر يظنه كما قال وليس كذلك لغا المحلوف عليه وبقي قوله والله فلا يلزمه شيء ، واليمين بغير الله تعالى يلغو المحلوف عليه ويبقى قوله : امرأته طالق أو عبده حر أو عليه الحج فيلزمه .

( و ) أما المنعقدة ( فهي أنواع : منها ما يجب فيه البر كفعل الفرائض ومنع المعاصي ) لأن ذلك فرض عليه فيتأكد باليمين ، ( ونوع يجب فيه الحنث كفعل المعاصي وترك الواجبات ) ، قال عليه الصلاة والسلام : " من حلف أن يطيع الله فليطعه ، ومن حلف أن يعصيه فلا يعصه " .

( ونوع الحنث فيه خير من البر كهجران المسلم ونحوه ) ، قال عليه الصلاة والسلام : " من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت التي هي خير وليكفر عن يمينه " ولأن الحنث ينجبر بالكفارة ولا جابر للمعصية .

( ونوع هما على السواء ، فحفظ اليمين فيه أولى ) ، قال تعالى : ( واحفظوا أيمانكم ) أي : عن الحنث .

قال : ( وإذا حنث ) يعني في الأيمان المستقبلة ( فعليه الكفارة ) لقوله تعالى : ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) .

[ ص: 294 ] قال : ( إن شاء أعتق رقبة ، وإن شاء أطعم عشرة مساكين أو كساهم ، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام متتابعات ) ، قال تعالى : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ) خير فيكون الواجب أحدها ، ثم قال : ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) . قرأ ابن مسعود رضي الله عنه : ثلاثة أيام متتابعات ، وقراءته مشهورة فكانت كالخبر المشهور ، والكلام في الرقبة والطعام ، والتفصيل في ذلك مر في الظهار .

وأما الكسوة فهو اسم لما يكتسى به ، والمقصود منها رد العري ، وكل ثوب يصير به مكتسيا يسمى كسوة وإلا فلا ، فإذا اختار الحانث الكسوة كسا عشرة مساكين كل مسكين ما ينطلق عليه اسم الكسوة . وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أن أدناه ما يستر عامة بدنه فلا يجوز السراويل لأن لابسه يسمى عريانا عرفا . وعن محمد : أدناه ما تجوز فيه الصلاة فلا يجوز الخف ولا القلنسوة لأن لابسها لا يسمى مكتسيا ولهذا لا تجوز فيها الصلاة ، وقيل لكل مسكين إزار ورداء وقميص ، وقيل كساء وقيل ملحفة ، وقيل يجوز الإزار إن كان يتوشح به ، وإن كان يستر عورته دون البدن لا يجوز كالسراويل . وعلى قول محمد يجوز لأنه يجوز فيه الصلاة . وعن أبي حنيفة في العمامة إن كانت سابغة قدر الإزار السابغ أو ما يقطع منه قميص يجوز وإلا فلا ، وما لا يجزيه في الكسوة يجزيه عن الإطعام باعتبار القيمة إذا نواه .

ولا تتأدى الكفارة إلا بفعل يزيل ملكه عن العين ليكون زاجرا ورادعا له فيتحقق معنى العقوبة فلا بد فيه من التمليك ، ولو أعاره لا يجوز لأنه لا يزول ملكه عن العين ، بخلاف الطعام حيث يجوز فيه الإباحة ، لأن ملكه يزول عن الطعام بالإباحة كما يزول بالتمليك ، ولو كفر عنه غيره بأمره جاز ، وبغير أمره لا يجوز كما في الزكاة لأنها عبادة أو عقوبة ، فلا بد من الإتيان بنفسه أو نائبه وذلك بالإذن لينتقل فعله إليه .

قال : ( ولا يجوز التكفير قبل الحنث ) لقوله عليه الصلاة والسلام : " من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت التي هي خير وليكفر عن يمينه " ، وروي : " ثم ليكفره يمينه " أمر [ ص: 295 ] وأنه يقتضي الوجوب ولا وجوب قبل الحنث ، أو نقول : إذا حنث يجب عليه أن يكفر بالأمر ، ولأن الكفارة ساترة والستر يعتمد ذنبا أو جناية ، ولم يوجد قبل الحنث لأن الجناية هي الحنث لما يتعلق به من هتك حرمة اسم الله تعالى ، واليمين مانعة من ذلك فلا تكون سببا مفضيا إلى الحنث ، بخلاف ما إذا كفر بعد الجرح قبل زهوق الروح ، لأن الجرح سبب مفض إلى الزهوق غالبا ، وبخلاف ما إذا أدى الزكاة بعد النصاب قبل الحول لأن السبب المال .

قال : ( والقاصد والمكره والناسي في اليمين سواء ) قال عليه الصلاة والسلام : " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : الطلاق والنكاح والأيمان " ، وعن عمر رضي الله عنه : أربعة لا رديدى فيهن . وعد منها الأيمان . وروي : " أن المشركين استحلفوا حذيفة وأباه أن لا يعينا رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فقيل لرسول الله فقال : يفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم " ، فحكم بصحة اليمين مع الإكراه ، والكلام في الإكراه مضى في بابه ، ولأن شرط الحنث هو الفعل ، ووجود الفعل حقيقة لا يعدمه الإكراه والنسيان ، ولا يصح يمين الصبي والمجنون والنائم لما مر في الطلاق .

التالي السابق


الخدمات العلمية