صفحة جزء
[ ص: 350 ] باب حد القذف

وهو ثمانون سوطا للحر وأربعون للعبد ، ويجب بقذف المحصن بصريح الزنا ، وتجب إقامته بطلب المقذوف ، ويفرق عليه ولا ينزع عنه إلا الفرو والحشو ، ويثبت بإقراره مرة واحدة ، وبشهادة رجلين ، ولا يبطل بالتقادم والرجوع ، وإحصان القذف : العقل والبلوغ والحرية والإسلام والعفة عن الزنا ; ومن قال لغيره : يا ابن الزانية ، أو لست لأبيك حد ، ولا يطالب بقذف الميت إلا من يقع القدح بقذفه في نسبه ; وليس للابن والعبد أن يطالب أباه أو سيده بقذف أمه الحرة ، ومن وطئ وطئا حراما في غير ملكه والملاعنة بولد لا يحد قاذفهما ، وإن لاعنت بغير ولد حد ، والمستأمن يحد بالقذف ، وإذا مات المقذوف بطل الحد ، ولا يورث ، ولا يصح العفو عنه ولا الاعتياض .


باب حد القذف

القذف في اللغة : الرمي مطلقا ، ومنه القذافة والقذيفة : للمقلاع الذي يرمى به ، وقولهم بين قاذف وحاذف : أي رام بالحصى وحاذف بالعصى ، والتقاذف : الترامي ، ومنه الحديث : كان عند عائشة رضي الله عنها قينتان تغنيان بما تقاذف فيه الأنصار من الأشعار يوم بعاث " أي تشاتمت ، وفيه معنى الرمي ، لأن الشتم رمي بما يعيبه ويشينه .

[ ص: 350 ] باب حد القذف

وهو في الشرع : رمي مخصوص ، وهو الرمي بالزنا ، ومنه الحديث : إن هلال بن أمية قذف زوجته : أي رماها بالزنى وقد تكرر في الحديث وفيه الحد .

( وهو ثمانون سوطا للحر ، وأربعون للعبد ; ويجب بقذف المحصن بصريح الزنا ) لقوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ) والمراد بالرمي القذف بالزنا إجماعا ، ويتنصف في العبد لما مر .

( وتجب إقامته بطلب المقذوف ) لما فيه من حقه وهو دفع العار عنه; وصريح الزنا قوله : يا زاني أو زنيت ، أو يا بن الزانية ; ولو قال : يا بن الزنى فهو قذف معناه : أنت متولد من الزنا ، ويجب الحد بأي لسان قذفه ، ويجب عند عجز القاذف عن إقامة أربعة شهود على صدق مقالته فيضرب ثمانين وترد شهادته أبدا لما تلونا من صريح النص .

قال : ( ويفرق عليه ) لما مر في الزنا ( ولا ينزع عنه إلا الفرو والحشو ) لأن سببه غير مقطوع به ، وإنما ينزع عنه الفرو والحشو لأنه يمنع إيصال الألم إليه .

قال : ( ويثبت بإقراره مرة واحدة وبشهادة رجلين ) كما في سائر الحقوق على ما مر في الشهادات ( ولا يبطل بالتقادم والرجوع ) لتعلق حق العبد به لما مر في حد الزنا .

قال : ( وإحصان القذف : العقل والبلوغ والحرية والإسلام والعفة عن الزنا ) أما الحرية والإسلام فلما مر في حد الزنا ، وأما العقل والبلوغ فلأن الصبي والمجنون لا يلحقهما العار لعدم تحقق فعل الزنا منهما ، وأما العفة فلأن غير العفيف لا يلحقه العار ، ولأن حد القذف يجب جزاء على الكذب والقاذف لغير العفيف صادق .

قال : ( ومن قال لغيره : يا بن الزانية ، أو لست لأبيك حد ) لأنه صريح في القذف ، لأن [ ص: 351 ] قوله لست لأبيك كقوله يا بن الزانية ، ولو نفاه عن جده أو نسبه إليه أو إلى خاله أو عمه أو زوج أمه ، أو قال يا بن ماء السماء لم يحد ، لأن نفيه عن جده صدق ونسبته إليه وإلى هؤلاء مجاز عادة وشرعا . قال الله تعالى : ( وإله ءابآئك إبراهيم وإسماعيل ) وإبراهيم جده وإسماعيل عمه ، وقوله يا بن ماء السماء يراد به التشبيه في السماحة والصفاء وطهارة الأصل ، حتى لو كان رجلا اسمه ماء السماء وأراد نسبته إليه فهو قذف .

ومن قال لغيره : لست بابن فلان ، إن كان في حالة الغضب حد لأنه يراد به السب ، وإن لم يكن في حالة الغضب لا يحد ، لأنه يراد به المعاتبة عادة لنفي شبهه لأبيه في الكرم والمروءة; ولو قال لامرأة : زنيت بحمار أو بثور لا يحد .

ولو قال : زنيت بدراهم وبثوب أو بناقة حد ، لأن معناه زنيت وأخذت هذا ، وفي الرجل لا يحد في جميع ذلك لأن الرجل لا يأخذ المال على الزنا عرفا ، ولو قال لأجنبية : يا زانية ، فقالت : زنيت بك ، لا يحد الرجل لتصديقها وتحد المرأة لقذفها الرجل .

قال : ( ولا يطالب بقذف الميت إلا من يقع القدح بقذفه في نسبه ) لأن العار يلحقهم للجزئية ، ويحد بقذف أصوله دون فروعه فيثبت للولد وولد الولد وإن كان كافرا أو عبدا ، لأن الشرط إحصان الذي ينسب إلى الزنا حتى يقع تعييرا كاملا ثم يرجع هذا التعيير إلى ولده ، والرق والكفر لا ينافي أهلية الاستحقاق ، بخلاف ما إذا وقع القذف ابتداء للكافر والعبد ، لأنه لم يوجد التعيير كاملا على ما بينا . وعن محمد ليس لولد البنت طلب الحد بقذف جده أبي أمه ، لأن نسبته إلى غيره ، وجوابه أن العار يلحقه كما يلحق ولد الابن فكانوا سواء . ومن قذف امرأة ميتة فصدقه بعض الورثة يحد للباقين ، لأن قذف الأم تناول الكل فكان بمنزلة ما لو قذف الكل فصدقه البعض دون البعض فإنه يحد لمن لم يصدقه .

قال : ( وليس للابن والعبد أن يطالب أباه أو سيده بقذف أمه الحرة ) لأن الأب لا يعاقب بسبب ابنه ولا السيد بسبب عبده حتى لا يقتلان بهما .

قال : ( ومن وطئ وطئا حراما في غير ملكه والملاعنة بولد لا يحد قاذفهما ) لفوات [ ص: 352 ] العفة ، وكذا إذا قذف امرأة معها أولاد لا يعرف لهم أب لأن ذلك أمارة الزنا ( وإن لاعنت بغير ولد حد ) لعدم أمارة الزنا .

اعلم أنه إن وطئ وطئا حراما فلا يخلو إما إن كان حراما لعينه أو غيره; أما إن كان حراما لعينه سقط إحصانه لأنه زنا ولا يحد قاذفه ، وإن كان حراما لغيره لا يسقط إحصانه ويحد قاذفه لأنه ليس بزنا ، فالوطء في غير الملك من كل وجه أو من وجه حرام لعينه وكذا الوطء في ملكه والحرمة مؤبدة ، وإن كانت موقتة فالحرمة لغيره .

وعند أبي حنيفة يشترط للحرمة المؤبدة الإجماع أو الحديث المشهور . بيان ذلك في صور المسائل وهي : الوطء بالنكاح الفاسد والأمة المستحقة والإكراه على الزنا والمجنون والمطاوعة والمحرمة بالمصاهرة بالوطء ووطء الأب جارية ابنه ، ففي هذه المسائل يسقط الإحصان ولا يحد قاذفه لأنه حرام لعينه وإن لم يأثم إما للجهل أو للإكراه ، بخلاف ثبوت المصاهرة بالتقبيل والمس لأن كثيرا من الفقهاء لا يرون ذلك محرما ، ولا نص في إثبات الحرمة ، بل هو نوع احتياط إقامة للسبب مقام المسبب فلا يسقط الإحصان الثابت بيقين بالشك .

وذكر في المحيط عن أبي يوسف ومحمد يسقط إحصانه لأنها حرمة مؤبدة عندهما ، وجوابه ما مر بخلاف الوطء لأن فيه نصا ، وهو قوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) وقد قام الدليل على أن النكاح حقيقة في الوطء ولا اعتبار للاختلاف مع صريح النص . وأما الحرمة المؤبدة في الملك الأخت من الرضاع والجارية المشتركة فإنما يسقط الإحصان لأنه ينافي ملك المتعة فيكون الوطء واقعا في غير الملك فيصير له شبه بالزنا .

والحرمة المؤقتة كالمجوسية والحائض والمظاهر منها والحرمة باليمين والأمة المنكوحة والمعتدة من غيره ووطء الأختين بملك اليمين والمكاتبة والمشتراة شراء فاسدا فلا يسقط الإحصان ، لأن مع قيام الملك في المحل لا يكون الفعل زنا ولا في معناه والحرمة على شرف الزوال . ومن قذف كافرا زنى في حالة الكفر لا يحد لأن زناه في الكفر حرام; ولو قذف مكاتبا مات عن وفاء لا يحد لوقوع الاختلاف في حريته; ولو قذف مجوسيا تزوج بأمه ودخل عليها ثم [ ص: 353 ] أسلم حد عند أبي حنيفة خلافا لهما بناء على أن له حكم الصحة عنده خلافا لهما وقد مر في النكاح .

قال : ( والمستأمن يحد بالقذف ) لما فيه من حق العبد وقد التزم إيفاء حقوق العباد . وكان أبو حنيفة يقول أولا : لا يحد لغلبة حق الله تعالى والمختار الأول ، ولا يحد في الخمر بالإجماع لأنه يرى حله . وأما حد الزنا والسرقة ، قال أبو يوسف : يحد فيهما كالذمي ، ولهذا يقتص منه بالإجماع ولا يحد فيهما عندهما لأنه لا يلزمه إلا ما التزم وهو إنما التزم حقوق العباد ضرورة التمكن من المعاوضات والرجوع إلى بلده ، ولم يلتزم حقوق الله تعالى ، بخلاف القصاص فإنه حق العباد .

قال : ( وإذا مات المقذوف بطل الحد ) ولو مات بعد ما أقيم بعض الحد بطل الباقي ( ولا يورث ولا يصح العفو عنه ولا الاعتياض ) ولذلك يجري فيه التداخل ، وهذا بناء على أن الغالب فيه حق الشرع ، ولا خلاف أن فيه حق العبد والشرع ، لأنه شرع لدفع العار عن المقذوف وهو المنتفع به وفيه معنى الزجر ولأجله يسمى حدا .

والمراد بالزجر إخلاء العالم عن الفساد ، وهذا آية حق الشرع ، ثم اختلفوا في الغالب فيهما ، فأصحابنا غلبوا حق الشرع ، لأن حق العبد يتولاه مولاه فيصير حق العبد مستوفى ضمنا لحق المولى ، ولا كذلك بالعكس ، إذ لا ولاية للعبد على استيفاء حق الشرع إلا بطريق النيابة .

التالي السابق


الخدمات العلمية