صفحة جزء
[ ص: 358 ] كتاب الأشربة

المحرم منها الخمر وهي النيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد ، الثاني العصير إذا طبخ فذهب أقل من ثلثه وهو الطلاء ، وإن ذهب نصفه فالمنصف . الثالث السكر ، وهو النيء من ماء الرطب إذا غلا كذلك .

الرابع : نقيع الزبيب ، وهو النيء من ماء الزبيب إذا غلا واشتد كذلك ، وحرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر فيجوز بيعها وتضمن بالإتلاف ، ولا يحد شاربها حتى يسكر ، ولا يكفر مستحلها; ونبيذ التمر والزبيب إذا طبخ أدنى طبخة حلال ، وإن اشتد إذا شرب ما لم يسكر من غير لهو . وعصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه حلال ، وإن اشتد إذا قصد به التقوي ، وإن قصد به التلهي فحرام ونبيذ العسل والتين والحنطة والشعير والذرة حلال طبخ أو لا ; وفي حد السكران منه روايتان; ويكره شرب دردي الخمر والامتشاط به ولا بأس بالانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير ، وخل الخمر حلال سواء تخللت أو خللت .


[ ص: 358 ] كتاب الأشربة

وهي جمع شراب ، وهو كل مائع رقيق يشرب ولا يتأتى فيه المضغ محرما كان أو حلالا ، وهي تستخرج من العنب والزبيب والتمر والحبوب ، ومنها حرام ومنها حلال .

فـ ( المحرم منها الخمر ، وهي النيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد ) وعندهما لا يشترط القذف بالزبد لأنه يسمى خمرا بدونه ، ولأن المؤثر في فساد العقل وتغطيته هو الاشتداد . ولأبي حنيفة أن السكون أصل في العصير ، وما بقي شيء من آثاره فالحكم له ، وأحكام الشرع قطعية فلا يحكم بكونه خمرا مع وجود شيء من آثار العصير للمغايرة بينهما ، ولأن الثابت لا يزول إلا بيقين ، فما بقي شيء من آثار العصير لا يتيقن بالخمرية .

وأما حرمتها فبالكتاب والسنة والإجماع . أما الكتاب فقوله تعالى : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس ) والرجس : الحرام لعينه . والسنة قوله صلى الله عليه وسلم : " حرمت الخمر لعينها " وقد تواتر تحريمها عن النبي صلى الله عليه وسلم وعليه إجماع الأمة; ويتعلق بها أحكام أخر : منها أنه يكفر مستحلها لثبوت حرمتها بدليل مقطوع به .

ومنها أن نجاستها مغلظة لثبوتها بالدليل القطعي ، ومنها أنها لا قيمة لها في حق المسلم حتى لا يجوز بيعها ولا يضمن غاصبها ولا متلفها لأن ذلك دليل عزتها ، وتحريمها دليل إهانتها . وقال صلى الله عليه وسلم : " إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها " ومنها حرمة الانتفاع بها [ ص: 359 ] لنجاستها ، ولأن في الانتفاع بها تقريبها ، والله تعالى يقول : ( فاجتنبوه ) ومنها أنه يحد بشرب القليل منها على ما بينا في بابها ، ومنها أن الطبخ لا يحلها ، لأن الطبخ في العصير يمنع الحرمة ولا يرفعها . ومنها جواز تخليلها على ما يأتي إن شاء الله تعالى .

( الثاني العصير إذا طبخ فذهب أقل من ثلثه وهو الطلاء ) وقيل إذا ذهب ثلثه فهو الطلاء ( وإن ذهب نصفه فالمنصف ) وإن طبخ أدنى طبخة فالباذق والكل حرام إذا غلا واشتد وقذف بالزبد على الاختلاف لأنه رقيق لذيذ مطرب يجتمع الفساق عليه فيحرم شربه دفعا لما يتعلق به من الفساد .

( الثالث السكر ، وهو النيء من ماء الرطب إذا غلا كذلك ) قال صلى الله عليه وسلم : " الخمر من هاتين الشجرتين وأشار إلى الكرم والنخلة " . وعليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم .

( الرابع نقيع الزبيب ، وهو النيء من ماء الزبيب إذا غلا واشتد كذلك ) على الخلاف حرام أيضا لما روينا وبينا .

( وحرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر ) لأن حرمة الخمر قطعية على ما مر ، وحرمة هذه اجتهادية ( فيجوز بيعها وتضمن بالإتلاف ) خلافا لهما لأنها حرام فلا يجوز بيعها كالخمر . وعن أبي يوسف : أنه يجوز بيعها وتضمن بالإتلاف إذا ذهب بالطبخ أكثر من ثلثه . ولأبي حنيفة أنه مال متقوم ، وما دل الدليل على سقوط تقومها بخلاف الخمر ، ثم يجب بالإتلاف عنده القيمة دون المثل لأنه ممنوع من الانتفاع بها للحرمة .

( ولا يحد شاربها حتى يسكر ولا يكفر مستحلها ) لما بينا . وعن أبي يوسف : ما كان من الأشربة يبقى بعد ما بلغ : أي اشتد عشرة أيام لا يفسد ، أي لا يحمض فإني أكرهه ، لأن بقاءه [ ص: 360 ] هذه المدة دليل قوته وشدته فكان آية حرمته ، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ثم رجع إلى قول أبي حنيفة .

قال : ( ونبيذ التمر والزبيب إذا طبخ أدنى طبخة حلال ، وإن اشتد إذا شرب ما لم يسكر من غير لهو ) ولا طرب .

( و ) كذلك ( عصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه حلال ، وإن اشتد إذا قصد به التقوي ، وإن قصد التلهي فحرام ) وقال محمد : حرام ، وعنه مثل قولهما ، وعنه التوقف فيه . له قوله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر حرام " وقوله : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " وقياسا على الخمر . لهما قوله عليه الصلاة والسلام : " حرمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها ، والسكر من كل شراب " خص السكر من غير الخمر بالتحريم ، فمن عمم بالتحريم السكر وغيره فقد خالف النص .

وما رواه من الأحاديث طعن فيه يحيى بن معين ، ذكره عبد الغني المقدسي في كتابه ، ولأن عامة الصحابة رضي الله عنهم خالفوه ، فدل على عدم صحته ، أو هو محمول على الشرب المسكر والتلهي ، أو نقول : المسكر هو القدح الأخير فنقول بالموجب ، ولأن حرمة قليل الخمر يدعو إلى كثيره لرقته ولطافته فأعطى حكمه ، وليس كذلك المثلث لأن قليله لا يدعو إلى كثيره وهو غذاء فلا يحرم . وروى الطحاوي بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بنبيذ فشمه فقطب وجهه لشدته : ثم دعا بماء فصبه عليه وشرب منه وقال : إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا متونها بالماء " وفي رواية : " أنه لما قطب قال رجل : " أحرام هو ؟ قال لا " وهذا نص في الباب . وعن ابن أبي ليلى قال : أشهد على البدريين من أصحاب [ ص: 361 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يشربون النبيذ في الجرار الخضر ، وقد نقل ذلك عن أكثر الصحابة رضي الله عنهم ومشاهيرهم قولا وفعلا حتى قال أبو حنيفة : إنه مما يجب اعتقاد حله لئلا يؤدي إلى تفسيق الصحابة رضي الله عنهم .

والمثلث إذا صب عليه الماء حتى رق ثم طبخ لا يتغير حكمه ، لأن صب الماء يزيده ضعفا ، بخلاف ما إذا صب الماء على العصير فطبخ حتى ذهب ثلثا الجميع ، لأن الماء يذهب أولا للطافته أو يذهب منهما فلا يكون الذاهب ثلثي العصير .

قال : ( ونبيذ العسل والتين والحنطة والشعير والذرة حلال طبخ أو لا ) إذا لم يشرب للهو والطرب ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( الخمر من هاتين الشجرتين ) والمراد بيان الحكم ، ولأن قليله لا يدعو إلى كثيره . وعن محمد أنه حرام ، ويقع طلاق السكران منه كغيره من الأشربة المحرمة ، وجوابه ما مر .

( وفي حد السكران منه روايتان ) والأصح أنه يحد ، لأن في بعض البلاد يجتمع الفساق عليه اجتماعهم على الخمر وفوقه ، وعلى هذا المتخذ من الألبان; ثم قيل : يجب أن لا يحل لبن الرماك عند أبي حنيفة اعتبارا بلحمها ، إذ هو متولد منه ، وجوابه أن كراهة اللحم لاحترامه ، أو لما في إباحته من تقليل آلة الجهاد فلا يتعدى إلى لبنه .

قال : ( ويكره شرب دردي الخمر والامتشاط به ) لأنه من أجزاء الخمر ، ولا يحد شاربه ما لم يسكر لأنه ناقص ، إذ الطباع السليمة تكرهه وتنبو عنه ، وقليله لا يدعو إلى كثيره فصار كغير الخمر .

قال : ( ولا بأس بالانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير ) لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كنت نهيتكم عن الانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير ، ألا فانتبذوا فيها واشربوا في كل ظرف ، فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه ، ولا تشربوا المسكر " .

[ ص: 362 ] قال : ( وخل الخمر حلال سواء تخللت أو خللت ) لقوله صلى الله عليه وسلم : " نعم الأدم الخل " مطلقا ، وقال صلى الله عليه وسلم : " خير خلكم خل خمركم " ولأن التخليل يزيل الوصف المفسد ويثبت وصف الصلاحية لأن فيه مصلحة قمع الصفراء والتعدي ومصالح كثيرة ، وإذا زال المفسد الموجب للحرمة حلت كما إذا تخللت بنفسها ، وإذا تخللت طهر الإناء أيضا ، لأن جميع ما فيه من أجزاء الخمر يتخلل إلا ما كان منه خاليا عن الخل فقيل يطهر تبعا ، وقيل يغسل بالخل ليطهر لأنه يتخلل من ساعته ، وكذا لو صب منه الخل ، فما خلا طهر من ساعته; ومن خاف على نفسه الهلاك من العطش ولم يجد إلا خمرا فله أن يشرب منها ما يأمن به من الموت ثم يكف ، لأن الله تعالى أباح للمضطر أكل الميتة والدم ولحم الخنزير ، والخمر مثلها في التحريم فتكون مثلها في الإباحة عند الاضطرار ، فإذا أمن على نفسه زالت الضرورة وهو خوف الهلاك عاد التحريم .

وإذا وجدت الخمر في دار إنسان وعليها قوم جلسوا مجالس من يشربها ولم يرهم أحد يشربونها عزروا ، لأنهم ارتكبوا أمرا محظورا وجلسوا مجلسا منكرا ، وكذلك من وجد معه آنية خمر عزر لأنه ارتكب محظورا .

التالي السابق


الخدمات العلمية