صفحة جزء
[ ص: 372 ] وتقطع يمين السارق من الزند وتحسم ، فإن عاد قطعت رجله اليسرى ، فإن عاد لم يقطع ويحبس حتى يتوب فإن كان أقطع اليد اليسرى أو أشلها أو إبهامها أو أصبعين سواها ، وفي رواية : ثلاث أصابع أو أقطع الرجل اليمنى أو أشلها أو بها عرج يمنع المشي عليها لم تقطع يده اليمنى ولا رجله اليسرى .

وإن اشترى السارق المسروق أو وهب له أو ادعاه لم يقطع ، وإذا قطع والعين قائمة في يده ردها ، وإن كانت هالكة لم يضمنها ; ومن قطع في سرقة ثم سرقها وهي بحالها لم يقطع

وإن تغير حالها كما إذا كان غزلا فنسج قطع .


فصل

[ حد السارق ]

[ قطع يد السارق ]

( وتقطع يمين السارق من الزند وتحسم ) أما القطع فللقراءة المشهورة ، وأما اليمين فلقراءة ابن مسعود وعليه الإجماع . وأما من الزند لأن الآية مجملة ، فإن اليد تتناول إلى الإبط وتتناول إلى الزند وإلى المرفق ، وقد وردت السنة مفسرة لها بما ذكرنا ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بقطع يد السارق من الزند . وأما الحسم فلقوله عليه الصلاة والسلام : " فاقطعوه واحسموه " ولأنه إذا لم تحسم يؤدي إلى التلف ، لأن الدم لا ينقطع إلا به ، والحد زاجر غير متلف ، ولهذا لا يقطع في الحر الشديد والبرد الشديد .

( فإن عاد قطعت رجله اليسرى ، فإن عاد لم يقطع ويحبس حتى يتوب ) والأصل أن حد [ ص: 373 ] السرقة شرع زاجرا لا متلفا ، لأن الحدود شرعت للزجر عن ارتكاب الكبائر لا متلفة للنفوس المحترمة ، فكل حد يتضمن إتلاف النفس من كل وجه أو من وجه لم يشرع حدا ، وكل قطع يؤدي إلى إتلاف جنس المنفعة كان إتلافا للنفس من وجه فلا يشرع ، وقطع اليد اليسرى والرجل اليمنى يؤدي إلى إتلاف جنس منفعة البطش والمشي فلا يشرع حدا ، وإليه الإشارة بقول علي رضي الله عنه : إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدا يأكل بها ويستنجي بها ورجلا يمشي عليها ، وبهذا حاج بقية الصحابة فحجهم فانعقد إجماعا . وعن عمر رضي الله عنه أنه أتي برجل أقطع اليد والرجل وقد سرق يقال له " سدوم " فأراد أن يقطعه ، فقال له علي رضي الله عنه : إنما عليه قطع يد ورجل ، فحبسه عمر رضي الله عنه ولم يقطعه ففتوى علي ورجوع عمر رضي الله عنهما إليه من غير نكير ولا مخالفة من غيرهما دليل على إجماعهم عليه ، أو أنه كان شريعة عرفوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا بخلاف القصاص لأنه حق العبد فيستوفي جبرا لحقه .

وما روي من الحديث في قطع أربعة السارق طعن فيه الطحاوي ، أو نقول : لو صح لاحتج به الصحابة على علي رضي الله عنه ولرجع إليهم ، وحيث حجهم ورجعوا إلى قوله دل على عدم صحته ، فإن كانت يده اليمنى ذاهبة أو مقطوعة تقطع رجله اليسرى من المفصل ، وإن كانت رجله اليسرى مقطوعة فلا قطع عليه لما فيه من الاستهلاك على ما بينا ، ويضمن السرقة ويحبس حتى يتوب .

قال : ( فإن كان أقطع اليد اليسرى أو أشلها أو إبهامها أو أصبعين سواها ، وفي رواية ثلاث أصابع أو أقطع الرجل اليمنى أو أشلها أو بها عرج يمنع المشي عليها لم تقطع يده اليمنى ولا رجله اليسرى ) وجملته أنه متى كان بحال لو قطعت يده اليمنى لا ينتفع بيده اليسرى ، أو لا ينتفع برجله اليمنى لآفة كانت قبل القطع لا يقطع ، لأن فيه تفويت جنس المنفعة بطشا أو مشيا وقوام اليد بالإبهام ، فعدمها أو شللها كشلل جميع اليد ، ولو كانت أصبع واحدة سوى الإبهام مقطوعة أو شلاء قطع ، لأن فوات الواحدة لا يوجب نقصا ظاهرا في البطش ، بخلاف الإصبعين لأنهما كالإبهام في البطش .

[ ص: 374 ] ولو كانت اليد اليمنى شلاء أو ناقصة الأصابع يقطع في ظاهر الرواية ، لأن المستحق بالنص قطع يده اليمنى دون اليسرى واستيفاء الناقص عند تعذر استيفاء الكامل جائز . وعن أبي يوسف : لا يقطع لأن مطلق الاسم يتناول الكامل ذكره في اختلاف زفر ويعقوب ، ولو كانت رجله اليمنى مقطوعة الأصابع ، فإن كان يستطيع المشي عليها قطعت يده اليمنى ، وإلا فلا لما بينا; فإن سرق في الثالثة بعد ما قطعت يده ورجله حبس وضرب ، لأن القطع لما سقط لم يبق إلا الزجر بالحبس والضرب لحديث عمر رضي الله عنه .

قال : ( وإن اشترى السارق المسروق أو وهب له أو ادعاه لم يقطع ) وقال زفر : إن كان بعد القضاء بالقطع قطع ، وهو رواية عن أبي يوسف لأن السرقة قد تمت انعقادا وظهورا ، وبالشراء والهبة لم يتبين قيام الملك وقت السرقة فلم تثبت الشبهة .

ولنا أن الإمضاء في الحدود من باب القضاء للاستغناء عن القضاء بالاستيفاء ، لأن القضاء للظهور وهو حق الله تعالى وهو ظاهر عنده ، وإذا ثبت ذلك يشترط قيام الخصومة عند الاستيفاء فصار كما إذا ملكها قبل القضاء ، ولأن الشبهة دارئة وأنها تتحقق بمجرد الدعوى لاحتمال صدقه .

قال : ( وإذا قطع والعين قائمة في يده ردها ) لأنها ملكه ، قال عليه الصلاة والسلام : " من وجد عين ماله فهو أحق به " والنبي عليه الصلاة والسلام قطع سارق رداء صفوان ورد الرداء على صفوان وكذلك إن كان ملكها غيره بأي طريق كان وهي قائمة بعينها لما قلنا .

( وإن كانت هالكة لم يضمنها ) لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه " وفي رواية ابن عوف عنه عليه الصلاة والسلام : " إذا قطع السارق فلا غرم [ ص: 375 ] عليه ولأنه لو ضمنها لملكها من وقت الأخذ على ما عرف في الغصب فيكون القطع واقعا على أخذ ملكه ولا يجوز . وروى ابن سماعة عن محمد إني آمره برد قيمة ما استهلكه ، وإن كنت لا أقضي عليه بذلك لأن القضاء يؤدي إلى إيجاب ما ينافي القطع لكن يفتى بالرد لأنه أتلف مالا محظورا بغير حق ، وكذلك قطاع الطريق ، فإن سقط القطع لشبهة ضمن ، لأن أخذ مال الغير موجب للضمان وإنما سقط بالقطع على ما بينا ، فإذا سقط القطع عاد الضمان بحاله . قال : ( ومن قطع في سرقة ثم سرقها وهي بحالها لم يقطع ) والقياس أن يقطع وهو رواية الحسن عن أبي يوسف لأنه إذا ردها صارت كعين أخرى في حق الضمان ، فكذا في حق القطع; وجه الاستحسان أنها صارت غير متقومة في حقه ، ألا ترى أنه لو استهلكها لا ضمان عليه ، وما ليس بمتقوم في حقه لا قطع عليه في سرقته وبالرد إلى المالك إن عادت حقيقة العصمة فشبهة السقوط باقية نظرا إلى اتحاد الملك والمحل .

قال : ( وإن تغير حالها كما إذا كان غزلا فنسج قطع ) لتبدل العين اسما وصورة ومعنى حتى يملكه الغاصب به ، وإذا تبدلت العين انتفت الشبهة الناشئة من اتحاد المحل والقطع فيه فيقطع .

ولو سرق عينا فقطع فيها ، ثم إن المسروق منه باعها من آخر ثم اشتراها ثم عاد وسرقها ، قال مشايخ العراق لا يقطع لأن العين قائمة حقيقة لكن تبدل سبب الملك فيها فكان شبهة سقوط العصمة قائمة . وقال مشايخ خراسان : يقطع لأن العصمة سقطت في حق الأول ضرورة وجوب القطع ، وهذه الضرورة انعدمت في حق المشتري ، فقد وجد دليل العصمة وفقد دليل سقوطها فبقيت معصومة ، فإذا عادت إلى البائع عادت معصومة متقومة كما كانت .

وكذلك لو سرق قطنا فقطع فيه ثم غزل فسرقه قطع لما بينا; ولو سرق ثوب خز أو صوف فقطع فيه ثم نقض الثوب فسرقه ثانيا لم يقطع ، لأن العين والملك لم يتبدل .

وحضور المالك أو من يقوم مقامه شرط لصحة القضاء بالسرقة ، لأن القضاء بالسرقة قضاء بالملك له ; ولو غاب بعد القضاء قبل الاستيفاء لا يقطع لأن للاستيفاء شبها بالقضاء ولهذا [ ص: 376 ] رجوع الشهود وجرحهم بعد القضاء يمنع الاستيفاء ، وغيبة الشهود وموتهم بعد القضاء لا يمنع الإمضاء في الحقوق كلها ، لأن الحدود لا تدرأ بشبهة تتوهم مثل رجوع الشهود وجرحهم ، لأن هذا التوهم لا ينقطع ، فلو اعتبر لم يقم حد أبدا ، ولو فسقوا أو عموا أو جنوا أو ارتدوا بعد القضاء يمنع الإمضاء في الحدود والقصاص دون الأموال ، لأن القضاء إنما يظهر ولاية الاستيفاء للقاضي ، لأن الحق ظاهر لصاحبه وهو الله تعالى ، والحاجة إلى القضاء لظهور ولاية الاستيفاء ، فكان الاستيفاء قضاء معنى ، فكانت هذه العوارض حادثة قبل القضاء معنى بخلاف الأموال ، لأن الحق إذا ظهر بالقضاء فولاية الاستيفاء ثبتت لصاحب الحق بالملك السابق لا بالقضاء .

ولو سرقت من أجنبي أو سرق من أجنبية ثم تزوجا سقط القطع ، لأن اعتراض الزوجية بعد القضاء يمنع الاستيفاء فيمنع القضاء أولى ، ويقطع السارق بخصومة المودع والمستعير والغاصب والمضارب والمستأجر والمرتهن والأب والوصي .

اعلم أن اليد ضربان : صحيحة ، وغير صحيحة . فالسرقة من اليد الصحيحة يتعلق بها القطع ، يد مالك كانت أو غير مالك ، ومن غير الصحيحة لا يتعلق بها القطع ; واليد الصحيحة يد ملك ويد أمانة ويد ضمان ، والتي ليست بصحيحة يد السارق ، أما السرقة من يد المالك فلما مر ، وأما من يد الأمانة فإنها كيد المالك ، لأن يد المودع يد مودعة ويد الضمان يد صحيحة كالمرتهن والقابض على سوم الشراء والغاصب لأن لهم ولاية الأخذ ، والأخذ دفعا للضمان عنهم فأشبهت يد المالك ، ويقطع بخصومة المالك أيضا إذا سرق من هؤلاء إلا الراهن ، لأنه لا حق له في القبض العين مع قيام الرهن ، فإذا قضي الدين بطل الرهن فكان لهن ولاية الخصومة فيقطع بخصومته أيضا . وقال زفر : لا يقطع إلا بخصومة المالك والأب والوصي ، لأن ولاية الخصومة للباقين إنما تثبت ضرورة الحفظ فلا تظهر في حق القطع . ولنا أن السرقة تثبت لحجة شرعية عقيب خصومة معتبرة لحاجتهم إلى الاسترداد فيستوفي القطع كالسرقة من المالك فلا تعتبر شبهة موهومة الاعتراض ، واليد التي ليست يد السارق فلا قطع على من سرق منه لأنها ليست يد ملك ولا أمانة ولا ضمان فصار كأنه أخذه من الطريق أو أخذ المال الضائع ، ولا يقطع بخصومة المالك أيضا ، لأن السارق الثاني لم يزل عن المالك يدا صحيحة فصار كأخذه من الطريق .

وكل ما يحدثه السارق في العين المسروقة على وجهين ، إما أن يكون نقصا أو زيادة ، فإن كان نقصا قطع ولا ضمان عليه وردت العين ، لأن نقصان العين ليس بأكثر من هلاكها; وإن [ ص: 377 ] كانت زيادة فإما أن يسقط حق المالك عن العين كقطع الثوب وخياطته قباء أو جبة أو نحو ذلك قطع السارق ولا سبيل للمالك على العين ولا ضمان ، لأن العين زالت عن ملك المسروق منه فتعذر الضمان بالقطع فصار كالاستهلاك ، وإن كانت الزيادة لا تقطع حق المسروق منه كالصبغ ، قال أبو حنيفة : يقطع السارق ولا سبيل للمسروق منه على العين ، وقالا : يأخذه ويعطي ما زاد على الصبغ فيه ، لأن المالك مخير بين تضمين الثوب وبين أخذه وضمان الزيادة ، وقد تعذر التضمين بالقطع فتعين أخذه ، وضمان الزيادة لأن المخير بين الشيئين إذا تعذر أحدهما تعين الآخر . ولأبي حنيفة أنه لا يجوز تضمين الثوب بعد القطع لما مر . ولو رد الثوب يصير السارق شريكا فيه بسبب متقدم على القطع ، وسرقة العين المشتركة تسقط القطع ابتداء ، فإذا وجد القطع لم يجز إثبات ما ينافيه ، وليس كذلك إذا صبغه بعد القطع لأن الشركة بعد القطع لا تسقط القطع كما لو باع المالك بعض الثوب من السارق .

ولو سرق ذهبا أو فضة فضربه دراهم أو دنانير قطع ورد الدراهم والدنانير عند أبي حنيفة . وقالا : لا سبيل للمسروق منه عليها ، وهذه صنعة متقومة عندهما خلافا له ، وقد عرف في الغصب ، وفي الحديد والرصاص والصفر إن جعله أواني ، فإن كان يباع عددا فهو للسارق بالإجماع ، وإن كان يباع وزنا فهو على اختلافهم في الذهب والفضة وبهذا الأصل يعرف جميع مسائل ما يحدثه السارق في المسروق لمن يتأمله .

التالي السابق


الخدمات العلمية