صفحة جزء
[ ص: 418 ] فصل

[ المرتد ]

وإذا ارتد المسلم ، والعياذ بالله ، يحبس ويعرض عليه الإسلام وتكشف شبهته ، فإن أسلم وإلا قتل ، فإن قتله قاتل قبل العرض لا شيء عليه وإسلامه أن يأتي بالشهادتين ، ويتبرأ عن جميع الأديان سوى دين الإسلام أو عما انتقل إليه ، ويزول ( سم ) ، ملكه عن أمواله زوالا مراعى ، فإن أسلم عادت إلى حالها ، وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه عتق مدبروه وأمهات أولاده وحلت الديون التي عليه ونقلت أكسابه في الإسلام إلى ورثته المسلمين ، وأكساب الردة فيء ( سم ) ، وتقضى ديون الإسلام من كسب الإسلام ، وديون الردة من كسبها ( سم ) ، فإن عاد مسلما فما وجده في يد وارثه من ماله أخذه .

وإسلام ( ز ) الصبي العاقل وارتداده صحيح ( س ز ) ، ويجبر على الإسلام ولا يقتل ، والمرتدة لا تقتل ، وتحبس وتضرب في كل الأيام حتى تسلم ولو قتلها إنسان لا شيء عليه ويعزر ، وتصرفها في مالها جائز ، فإن لحقت أو ماتت فكسبها لورثتها .


فصل

[ المرتد ]

( وإذا ارتد المسلم والعياذ بالله ) عن الإسلام ( يحبس ويعرض عليه الإسلام وتكشف شبهته ، فإن أسلم وإلا قتل ) أما حبسه وعرض الإسلام عليه فليس بواجب لأنه بلغته الدعوة; والكافر إذا بلغته الدعوة لا تجب أن تعاد عليه فهذا أولى ، لكن يستحب ذلك ، لأن الظاهر إنما ارتد لشبهة دخلت عليه أو ضيم أصابه فيكشف ذلك عنه ليعود إلى الإسلام وهو أهون من القتل .

وروي مثل ذلك عن عمر ، وقيل إن طلب التأجيل أجل ثلاثة أيام وإلا قتل للحال لأنه متعنت . وأما وجوب قتله فلقوله تعالى : ( تقاتلونهم أو يسلمون ) والمراد أهل الردة نقلا عن ابن عباس وجماعة من المفسرين ، وقال عليه الصلاة والسلام : " من بدل دينه فاقتلوه " وقال : " لا [ ص: 419 ] يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث " الحديث ، والحر والعبد سواء لإطلاق ما ذكرنا .

قال : ( فإن قتله قاتل قبل العرض لا شيء عليه ) لأنه مستحق للقتل بالكفر فلا ضمان عليه ، ويكره له ذلك لما فيه من ترك الغرض المستحب ، ولما فيه من الافتيات على الإمام . قال : ( وإسلامه أن يأتي بالشهادتين ويتبرأ عن جميع الأديان سوى دين الإسلام أو عما انتقل إليه ) لحصول المقصود بذلك ، فإن عاد فارتد فحكمه كذلك وهكذا أبدا ، لأنا إنما نحكم بالظاهر ، قال عليه الصلاة والسلام : " هلا شققت عن قلبه " وكان صلى الله عليه وسلم يقبل من المنافقين ظاهر الإسلام ، ولأن توبته قبلت أول مرة بإظهار الإسلام وأنه موجود فيما بعد فتقبل .

قال : ( ويزول ملكه عن أمواله زوالا مراعى ، فإن أسلم عادت إلى حالها ) وقالا : هي على ملكه لأنه مكلف محتاج فيبقى ملكه كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص ، وله أنه كافر مقهور تحت أيدينا مباح الدم ، وأنه يوجب زوال الملك والمالكية ، إلا أنه يرتجى إسلامه وهو مدعو إليه فيوقف أمره فإن عاد صار كأن لم يزل مسلما وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب استقر كفره فعمل السبب عمله .

اعلم أن تصرفات المرتد أربعة أقسام : نافذ بالاتفاق كالطلاق والاستيلاد وقبول الهبة وتسليم الشفعة والحجر على عبده المأذون لأنه لا يفتقر إلى تمام الولاية ولا إلى حقيقة الملك . وباطل بالاتفاق كالنكاح والذبيحة لأنه يعتمد الملة ولا ملة للمرتد .

وموقوف بالإجماع كالمفاوضة لأنها تعتمد المساواة ولا مساواة ، فإن أسلم حصلت المساواة وإلا بطلت فيوقف لذلك . ومختلف فيه كالبيع والشراء والعتق والتدبير والكتابة والهبة والوصية وقبض الديون فهي موقوفة عند أبي حنيفة إن أسلم نفذت ، وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب بطلت . وعندهما هي جائزة ، وهو بناء على اختلافهم في ملكه على ما بينا . لهما [ ص: 420 ] أنه أهل للتصرفات لكونه مخاطبا وملكه ثابت لما بينا فيصح تصرفه إلا عند أبي يوسف يجوز كما يجوز من الصحيح ، لأن الظاهر عوده إلى الإسلام بزوال شبهته . وعند محمد يجوز من المريض من الثلث ، لأن ردته تقضي إلى القتل غالبا ، لأن من انتحل نحلة قلما يتركها سيما وقد أعرض عما نشأ عليه وألفه ، وله أن ملكه موقوف على ما تقدم ، وتصرفه بناء عليه فيتوقف ، وإباحة ملكه توجب خللا في الأهلية فلذلك توقف تصرفاته .

قال : ( وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه عتق مدبروه وأمهات أولاده وحلت الديون التي عليه ونقلت أكسابه في الإسلام إلى ورثته المسلمين ، وأكساب الردة فيء ) . اعلم أن باللحاق بدار الحرب يصير من أهل الحرب ، وهم أموات في حق أحكام الإسلام لانقطاع الولاية وعدم الإلزام كما انقطعت عن الميت الحقيقي ، إلا أنه لا يستقر اللحاق إلا بالقضاء لاحتمال العود ، ولأن انقطاع الحقوق باللحاق مختلف فيه فيتوقف حكمه على القضاء كغيره من المجتهدات ، فإذا قضي به ثبت موته الحكمي فيترتب عليه أحكام الموت وهي ما ذكرنا كالموت الحقيقي ، ومكاتبه يؤدي بدل الكتابة إلى ورثته كما إذا مات حقيقة . وأما الميراث فكسب الإسلام لورثته المسلمين بإجماع الصحابة هكذا قضى علي رضي الله عنه في مال المستورد والعجلي حين قتله مرتدا من غير نكير من أحد من الصحابة . وعن ابن مسعود مثله ، وكسب الردة فيء .

وقالا : لهم أيضا بناء على أن ملكه ثابت عندهما في الكسبين ، ويستند إلى ما قبل الردة حتى يكون توريث المسلم من المسلم ، لأن الردة سبب الموت .

وله أن الاستناد ممكن في كسب الإسلام لا في كسب الردة لأنه وجد بعدها فلا يتصور إسناده إلى ما قبلها ولأنه كسب مباح الدم فيكون فيئا كالحربي ، ثم في رواية عن أبي حنيفة ، وهو قول زفر يعتبر ورثته يوم ارتد لأنه سبب الموت ، وعنه وهو قول محمد وهو ظاهر الرواية يوم الموت أو اللحاق لأنه سبب الإرث والقضاء لتقريره لقطع الاحتمال ، وفي رواية وهو قول أبي يوسف يوم القضاء ، لأن به يتقرر الاستحقاق وبه يصير اللحاق موتا وتبطل وصاياه عند أبي حنيفة ، لأن ردته كالرجوع عنه . وقالا : بطل وصاياه في القرب لا غير .

قال : ( وتقضى ديون الإسلام من كسب الإسلام ، وديون الردة - من كسبها ، وقالا : تقضى [ ص: 421 ] ديونه من الكسبين لأنهما جميعا ملكه عندهما . وله أنه يقضي كل دين مما اكتسبه في تلك الحالة ليكون الغرم بالغنم .

قال : ( فإن عاد مسلما فما وجده في يد وارثه من ماله أخذه ) لأنه إذا عاد مسلما فقد عاد حيا فعادت الحاجة ، والخلافة إنما تثبت للوارث لاستغنائه ، فإذا عادت حاجته تقدم على الوارث وجميع ما فعله القاضي إلا ما ذكرنا ولأنه ملكه بغير عوض فجاز أن يثبت له حق الرجوع ما دام على ملكه كالهبة ، ولا رجوع له في شيء زال عن ملك الوارث كالموهوب ، وسواء زال بما يلحقه الفسخ كالبيع ونحوه ، أو ما لا يلحقه الفسخ كالعتق; وكذا لا سبيل له على من حكم الحاكم بعتقه لأنه لا يلحقه الفسخ; وكذا المكاتب إذا عتق بالأداء إلى الورثة يأخذ البدل من الورثة إن كان قائما كغيره من الأموال ، ولو لم يقض القاضي بشيء حتى رجع مسلما لا يثبت شيء مما ذكرنا لأنه ما لم يتصل القضاء باللحاق لا يحكم بموته .

قال : ( وإسلام الصبي العاقل وارتداده صحيح ، ويجبر على الإسلام ولا يقتل ) وكذا إذا بلغ يجبر ولا يقتل . وجملته أن إسلام الصبي الذي يعقل الإسلام وردته صحيحان . وقال أبو يوسف : إسلامه صحيح وردته لا تصح . وقال زفر : لا يصحان لأن طريقهما الأقوال ، وأقواله غير صحيحة لا يتعلق بها حكم كالطلاق والعتاق والإقرار والعقود . ولأبي يوسف أن الإسلام فيه نفعه والكفر فيه ضرره ، ويجوز تصرفه النافع كقبول الهبة ولا يجوز الضار كالهبة ، ولهذا قلنا إن الولي يجيز تصرفه النافع دون الضار . ولهما أن عليا رضي الله عنه أسلم وهو صبي ، وصحح النبي عليه الصلاة والسلام إسلامه وافتخر به فقال :

سبقتكمو إلى الإسلام طرا صغيرا ما بلغت أوان حلم

ولأن الإسلام يتعلق به كمال العقل دون البلوغ ، بدليل أن من بلغ غير عاقل لم يصح إسلامه ، والعقل يوجد من الصغير كما يوجد من الكبير ، ولأنه أتى بحقيقة الإسلام وهو التصديق مع الإقرار ، لأن الإقرار طائعا دليل الاعتقاد والحقائق لا ترد ، وإذا صار مسلما فإذا ارتد تصح كالبالغ ، ولأن الإسلام عقد والردة حله ، وكل من ملك عقدا ملك حله كسائر [ ص: 422 ] العقود ، ولأن من كان بيده الاعتقاد تصور منه تبديله ، فإذا اقترن به الاعتراف دل على تبديل الاعتقاد كالإسلام .

وإذا ثبتت ردته ترتب عليه أحكام الردة لا يرث ولا يورث وتبين امرأته ، ولا يصلى عليه لو مات مرتدا ويجبر على الإسلام ، لأنا لما حكمنا بإسلامه لا يترك على الكفر كالبالغ ، ولأن بالجبر يندفع عنه مضرة حرمان الإرث وبينونة الزوجة وغير ذلك ، وإنما لا يقتل لأن كل من لا يباح قتله بالكفر الأصلي لا يباح بالردة لأن إباحة القتل بناء على أهلية الحراب على ما عرف ولأن القتل عقوبة وهو ليس من أهلها ولأن القتل لا يتعلق بفعل الصبي كالقصاص . وإذا كان الصبي لا يعقل لا يصح إسلامه ولا ارتداده وكذلك المجنون لأن الإسلام والكفر يتبعان العقل على ما بينا ، وكذلك من غلب على عقله بوجه من الوجوه كالمبرسم والمعتوه ومن سقي شيئا فزال عقله لما بينا ، ومن يجن ويفيق ففي حال جنونه له أحكام المجانين ، وفي حال إفاقته أحكام العقلاء ، وردة السكران ليست بشيء استحسانا ، وإسلامه صحيح لأنه يحتمل أن يكون عن اعتقاد أو لا ، والإسلام يحتال في إثباته والكفر في نفيه فافترقا . والقياس أن تبين امرأة السكران لأن الكفر سبب للفرقة كالطلاق . وجه الاستحسان أن الردة ليست بفرقة ، وإنما تقع الفرقة لاختلاف الدين وردته ليست بصحيحة فلا يختلف الدين .

وروى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في صبي أبواه مسلمان كبر كافرا ولم يسمع منه الإقرار بالإسلام بعد ما بلغ ، قال : لا يقتل ويجبر على الإسلام ، وإنما يقتل من أقر بالإسلام بعد ما بلغ ثم كفر ، لأن الأول لم تجب عليه الحدود لأنه لم يصر مسلما بفعله وإنما بالتبعية ، وحكم أكسابه كالمرأة .

قال : ( والمرتدة لا تقتل ، وتحبس وتضرب في كل الأيام حتى تسلم ) ومعناه يعرض عليها الإسلام ، فإن أبت ضربها أسواطا ثم يعرض عليها الإسلام فإن أبت حبسها . وفي رواية تخرج كل يوم وتضرب على ما وصفنا ، لأنه لم يجز قتلها وقد ارتكبت جريمة عظيمة ولا حد فيها فتعزر ، والتعزير الضرب والحبس ، وإنما لا تقتل لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل النساء مطلقا ، ولأن كفرها الأصلي لا يبيح دمها لأنها ليست من أهل القتال فكذلك الكفر الطارئ .

[ ص: 423 ] وقد بينا في أول السير أن السبب الموجب للقتل أهليته للقتال ، وأن النبي عليه الصلاة والسلام نبه على أنه السبب بقوله : " ما لها قتلت ولم تقاتل ; " وحديث : " من بدل دينه فاقتلوه " رواه ابن عباس ، ومذهبه أن المرتدة لا تقتل فدل على تقييده بالرجال .

قال : ( ولو قتلها إنسان لا شيء عليه ) لأنه اعتمد إطلاق النص وهو مذهب جماعة من العلماء لكن يؤدب ( ويعزر ) إن كانت في دار الإسلام لافتياته على الإمام .

قال : ( وتصرفها في مالها جائز ) إن كانت في دار الإسلام ، لأنها تصرفت في خالص حقها ، لأن عصمة المال تتبع عصمة النفس ، وعصمة نفسها لم تزل ، وبعد اللحاق زالت عصمة نفسها ، ولهذا لا تسترق ما دامت في دار الإسلام ، لأن دار الإسلام ليست بدار استرقاق ، وإن لحقت ثم سبيت استرقت وأجبرت على الإسلام ، لأن الصحابة استرقوا نساء بني حنيفة بعدما ارتدوا وأم محمد بن الحنفية منهم ، ولا تقتل كالأصلية .

( فإن لحقت أو ماتت ) في الحبس ( فكسبها لورثتها ) إذ ملكها ثابت فيهما لما بينا فينتقلان إلى ورثتها ، ولا ميراث لزوجها لأنها بانت بالردة ولم تصر مشرفة على الهلاك فلا تكون فارة ، وله أن يتزوج أختها عقيب لحاقها ، لأنه لا عدة عليها كالميتة ، فإن عادت مسلمة أو سبيت لم ينتقض نكاح الأخت ، لأن نكاحها لا يعود بعد ما سقط ، ولها أن تتزوج من ساعتئذ لعدم العدة; وإن ولدت بأرض الحرب لأقل من ستة أشهر ثبت نسبه من الزوج وهو مسلم تبع لأبيه; وإن ولدت لستة أشهر فصاعدا من حين اللحاق ثم سبيا معا كانا فيئا ، لأن النسب غير ثابت من الزوج لعدم العدة فيكون الولد كافرا تبعا لها ، والمملوكة تحبس فإن كان مولاها محتاجا إلى خدمتها دفعت إليه ويؤمر أن يجبرها على الإسلام ، ويرسل القاضي إليها كل يوم من يجلدها على الإسلام جمعا بين المصلحتين .

التالي السابق


الخدمات العلمية