صفحة جزء
[ ص: 425 ] [ الخوارج والبغاة ]

وإذا خرج قوم من المسلمين عن طاعة الإمام وتغلبوا على بلد دعاهم إلى الجماعة وكشف شبهتهم ، ولا يبدؤهم بقتال ، فإن بدءوه قاتلهم حتى يفرق جمعهم ، فإن اجتمعوا وتعسكروا بدأهم; فإذا قاتلهم فإن كان لهم فئة أجهز على جريحهم واتبع موليهم ، ولا تسبى لهم ذرية ، ولا يغنم لهم مال ، ويحبسها حتى يتوبوا فيردها عليهم ، ولا بأس بالقتال بسلاحهم وكراعهم عند الحاجة إليه ; وإذا قتل العادل الباغي ورثه ، وكذلك إن قتله الباغي ( س ) وقال : أنا على حق ، وإن قال : أنا على الباطل لم يرثه .


فصل

[ الخوارج والبغاة ]

الخوارج والبغاة مسلمون ، قال تعالى : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) [ ص: 425 ] وقال علي رضي الله عنه : إخواننا بغوا علينا ، وكل بدعة تخالف دليلا يوجب العلم والعمل به قطعا فهو كفر ، وكل بدعة لا تخالف ذلك وإنما تخالف دليلا يوجب العمل ظاهرا فهو بدعة وضلال وليس بكفر .

واتفقت الأمة على تضليل أهل البدع أجمع وتخطئتهم .

وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفرا لكن يضلل ، فإن عليا رضي الله عنه لم يكفر شاتمه حتى لم يقتله ، وأهل البغي كل فئة لهم منعة يتغلبون ويجتمعون ويقاتلون أهل العدل بتأويل ويقولون " الحق معنا ويدعون الولاية ، وإن تغلب قوم من اللصوص على مدينة فقتلوا وأخذوا المال وهم غير متأولين أخذوا بأجمعهم وليسوا ببغاة ، لأن المنعة إن وجدت فالتأويل لم يوجد .

قال : ( وإذا خرج قوم من المسلمين عن طاعة الإمام وتغلبوا على بلد دعاهم إلى الجماعة وكشف شبهتهم ) لأن عليا رضي الله عنه بعث ابن عباس يدعو أهل حروراء وناظرهم قبل قتالهم ، ويستحب ذلك لأنه أهون الأمرين فلعلهم أن يرجعوا به .

قال : ( ولا يبدؤهم بقتال ) لأنهم مسلمون ( فإن بدءوه قاتلهم حتى يفرق جمعهم ) قال تعالى : ( فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي ) الآية ، ولأن عليا رضي الله عنه قاتلهم بحضرة الصحابة ، ولأنهم ارتكبوا معصية بمخالفة الجماعة فيجب صدهم عنها ، ويجوز رميهم بالنبل والمنجنيق وإرسال الماء والنار على النبات ليلا لأنه من آلة القتال . وما روي عن عبد الله بن عمر وجماعة من الصحابة من القعود عن الفتنة فيجوز أنهم كانوا عاجزين عن ذلك ، ومن لا قدرة له لا يلزمه . وما روي عن أبي حنيفة أنه قال : ينبغي أن يعتزل الفتنة ، ولا يخرج من بيته إذا لم يكن هناك إمام يدعوه إلى القتال ، فأما إذا دعاه الإمام وعنده غنى وقدرة لم يسعه التخلف .

قال : ( فإن اجتمعوا وتعسكروا بدأهم ) دفعا لشرهم لأن في تركهم تقوية لهم وتمكينا من [ ص: 426 ] أذى المسلمين والغلبة على بلادهم . وكان أبو حنيفة يقول : ينبغي للإمام إذا بلغه أن الخوارج يشترون السلاح ويتأهبون للخروج أن يأخذهم ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك ويتوبوا ، لأن العزم على الخروج معصية فيزجرهم عنها ، وفي حبسهم قطعهم عن ذلك ، ويكتفي المسلمون مئونتهم .

قال : ( فإذا قاتلهم فإن كان لهم فئة أجهز على جريحهم واتبع موليهم ) لأن الواجب أن يقاتلهم حتى يعودوا إلى الحق ، قال تعالى : ( حتى تفيء إلى أمر الله ) فإذا كان لهم فئة ينحازون إليها لا يزول بغيهم لأنهم ينحازون إلى فئة ممتنعة من البغاة فيعودون إلى القتال; وأما الأسير فإن رأى قتله لأن بغيه لم يزل ، وإن رأى أن يخلي عنه فعل ، فإن عليا رضي الله عنه كان إذا أخذ أسيرا استحلفه أن لا يعين عليه وخلاه ، وإن رأى أن يحبسه حتى يتوب أهل البغي فعل وهو الأحسن ، لأنه يؤمن شره من غير قتل .

وأما إذا لم يكن لهم فئة لم يجهز على جريحهم ولم يتبع موليهم ولا يقتل أسيرهم ، هكذا فعل علي رضي الله عنه بأهل البصرة ، وقال : لا يغنم لهم مال ولا تسبى لهم ذرية ، وقال يوم الجمل : " لا تتبعوا مدبرا ولا تقتلوا أسيرا ، ولا تذففوا على جريح " أي لا يتم قتله ، ولا يكشف ستر ، ولا يؤخذ مال ، وهو القدوة في الباب ، ولأن المقصود دفع شرهم وإزالة بغيهم وقد حصل .

قال : ( ولا تسبى لهم ذرية ولا يغنم لهم مال ويحبسها حتى يتوبوا فيردها عليهم ) لما تقدم من حديث علي رضي الله عنه ، ولأنهم مسلمون والإسلام عاصم ، وإنما يحبسها عنهم تقليلا عليهم ، وفيه مصلحة المسلمين ، فإذا تابوا ردت عليهم لزوال الموجب للحبس .

قال : ( ولا بأس بالقتال بسلاحهم وكراعهم عند الحاجة إليه ) معناه إذا كان لهم فئة فيقسم على أهل العدل ليستعينوا به على قتالهم ، ولأنه يجوز للإمام أن يأخذ سلاح المسلمين عند الحاجة فهذا أولى ، وهو مأثور عن علي رضي الله عنه أيضا يوم البصرة ، فإذا استغنوا عنه حبسه [ ص: 427 ] لهم ولا يدفعه إليهم لئلا يستعينوا به على المسلمين فيحبس السلاح ويبيع الكراع ويمسك ثمنه لأن ذلك أنفع وأيسر ، فإذا زال بغيهم يرده إليهم كسائر أموالهم . وما أصاب كل واحد من الفريقين من الآخر من دم أو جراحة أو استهلاك مال فهو موضوع لا دية فيه ولا ضمان ولا قصاص ، وما كان قائما في يد كل واحد من الفريقين للآخر فهو لصاحبه لما روى الزهري . قال : وقعت الفتنة فأجمعت الصحابة وهم متوافرون أن كل دم أريق بتأويل القرآن فهو هدر ، وكل ما أتلف بتأويل القرآن فلا ضمان فيه ، وكل فرج استبيح بتأويل القرآن فلا حد فيه ، وما كان قائما بعينه رد . قال محمد : إذا تابوا أفتيهم أن يغرموا ولا أجبرهم على ذلك لأنهم أتلفوه بغير حق ، فسقوط المطالبة لا يسقط الضمان فيما بينه وبين الله تعالى . وقال أصحابنا : ما فعلوه قبل التحيز والخروج وبعد تفرق جمعهم يؤخذون به ، لأنهم من أهل دارنا ، ولا منعة لهم فهم كغيرهم من المسلمين ، أما ما فعلوه بعد التحيز لا ضمان فيه لما بينا ، ولا يقتل من معهم من النساء والصبيان والشيوخ والزمنى والعميان لأنهم لا يقتلون إذا كانوا مع الكفار فهذا أولى وليسوا من أهل القتال ، فإن قاتلت المرأة مع الرجال لا بأس بقتلها حالة القتال ، ولا تقتل إذا أسرت وتحبس اعتبارا بالحربية .

قال : ( وإذا قتل العادل الباغي ورثه وكذلك إن قتله الباغي وقال : أنا على حق ، وإن قال : أنا على الباطل لم يرثه ) لأنه قتله بغير حق ولا تأويل . وقال أبو يوسف : لا يرث الباغي العادل في الوجهين لأنه قتل بغير حق . ولنا ما روينا من إجماع الصحابة ، ويكره حمل رءوسهم وإنفاذها إلى الآفاق لأنه مثلة ، ولم ينقل عن علي رضي الله عنه . وروي أنه حمل إلى أبي بكر رضي الله عنه رأس فأنكر حمله ، فقيل له : إن فارس والروم يفعلون ذلك ، فقال : أستنان بفارس والروم ؟ . وقد قال أصحابنا : إن كان ذلك رهنا لهم فلا بأس به ، لأن ابن مسعود حمل رأس أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية