صفحة جزء
[ ص: 438 ] فصل

[ في الاحتكار ]

ويكره في أقوات الآدميين والبهائم في موضع يضر بأهله ، ولا احتكار في غلة ضيعته وما جلبه ( سم ) ; وإذا رفع إلى القاضي حال المحتكر يأمره ببيع ما يفضل عن قوته وعياله ، فإن امتنع باع عليه ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس إلا أن يتعدى أرباب الطعام تعديا فاحشا في القيمة فلا بأس بذلك بمشورة أهل الخبرة به ; ولا بأس ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرا; ومن حمل خمرا لذمي طاب ( سم ) له الأجر ، ولا بأس ببيع السرقين ، ولا بأس ببيع بناء بيوت مكة ، ويكره بيع ( سم ) أرضها ; ويقبل في المعاملات قول الفاسق ، ولا يقبل في الديانات إلا قول العدل حرا كان أو عبدا ، ذكرا أو أنثى ويقبل في الهدية والإذن قول الصبي والعبد والأمة .


[ ص: 438 ] فصل

في الاحتكار

وهو مصدر احتكرت الشيء إذا جمعته وحبسته ، والاسم الحكرة بضم الحاء .

قال : ( ويكره في أقوات الآدميين والبهائم في موضع يضر بأهله ) والأصل في ذلك قوله تعالى : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) قال عمر رضي الله عنه : لا تحتكروا الطعام بمكة فإنه إلحاد ، وما روى ابن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : " الجالب مرزوق والمحتكر محروم " وفي رواية " ملعون " وعنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : " من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه " وروى أبو أمامة الباهلي " أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يحتكر الطعام " ، وروى عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : " من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس " ولأن فيه تضييقا على الناس فلا يجوز .

والاحتكار أن يبتاع طعاما من المصر أو من مكان يجلب طعامه إلى المصر ويحبسه إلى وقت الغلاء ، وشرطه أن يكون مصرا يضر به الاحتكار لأنه تعلق به حق العامة ، وشرط بعضهم الشراء في وقت الغلاء وينتظر زيادة الغلاء والكل مكروه .

والحاصل أن يكون يضر بأهل تلك المدينة حتى لو كان مصرا كبيرا لا يضر بأهله فليس [ ص: 439 ] بمحتكر لأنه حبس ملكه ولا ضرر فيه بغيره ، وعلى هذا التفصيل تلقي الجلب ، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عنه .

قال : ( ولا احتكار في غلة ضيعته وما جلبه ) أي من مكان بعيد من المصر أو ما زرعه ، لأن له أن لا يجلب ولا يزرع فله أن لا يبيع . وقال أبو يوسف : يكره فيما جلبه أيضا لعموم النهي . وقال محمد : يكره إذا اشتراه من موضع يجلب منه إلى المصر في الغالب لتعلق حق العامة به ، وما لا فلا .

قال : ( وإذا رفع إلى القاضي حال المحتكر يأمره ببيع ما يفضل عن قوته وعياله ، فإن امتنع باع عليه ) لأنه في مقدار قوته وعياله غير محتكر ويترك قوتهم على اعتبار السعة; وقيل إذا رفع إليه أول مرة نهاه عن الاحتكار ، فإن رفع إليه ثانيا حبسه وعزره بما يرى زجرا له ودفعا للضرر عن الناس . قال محمد : أجبر المحتكرين على بيع ما احتكروا ولا أسعر ، ويقال له : بع كما يبيع الناس وبزيادة يتغابن في مثلها ولا أتركه يبيع بأكثر .

والأصل في ذلك ما روى : " أن السعر غلا بالمدينة فقالوا : يا رسول الله لو سعرت ؟ فقال : إن الله هو المسعر " ولأن التسعير تقدير الثمن وإنه نوع حجر . وقول محمد : أجبرهم على البيع يحتمل وجهين : إما لما فيه من المصلحة العامة أو بناء على قولهما في الحجر .

قال : ( ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس ) لما بينا .

قال : ( إلا أن يتعدى أرباب الطعام تعديا فاحشا في القيمة فلا بأس بذلك بمشورة أهل الخبرة به ) لأن فيه صيانة حقوق المسلمين عن الضياع ، وقد قال أصحابنا : إذا خاف الإمام على أهل مصر الضياع والهلاك أخذ الطعام من المحتكرين وفرقه عليهم فإذا وجدوا ردوا مثله ، وليس هذا حجرا وإنما هو للضرورة كما في المخمصة ، ولو سعر السلطان على الخبازين الخبز فاشترى رجل منهم بذلك السعر والخباز يخاف إن نقصه ضربه السلطان لا يحل أكله لأنه في [ ص: 440 ] معنى المكره ، وينبغي أن يقول له : بعني بما تحب ليصح البيع; ولو اتفق أهل بلد على سعر الخبز واللحم وشاع بينهم فدفع رجل إلى رجل منهم درهما ليعطيه فأعطاه أقل من ذلك والمشتري لا يعلم رجع عليه بالنقصان من الثمن ، لأنه ما رضي إلا بسعر البلد . وقال أبو يوسف : الاحتكار في كل ما يضر بالعامة نظرا إلى أصل الضرر . وقال محمد : الاحتكار في أقوات الآدميين كالتمر والحنطة والشعير ، وأقوات البهائم كالقت نظرا إلى الضرر المقصود .

واختلفوا في مدة الاحتكار ، قيل أقلها أربعون يوما كما ورد في الحديث وما دون ذلك فليس باحتكار لعدم الضرر بالمدة القصيرة; وقيل أقله شهر لأن ما دونه عاجل ، ثم قيل يأثم بنفس الاحتكار وإن قلت المدة ، وإنما بيان المدة لبيان أحكام الدنيا .

فالحاصل أن التجارة في الطعام مكروه فإنه يوجب المقت في الدنيا والإثم في الآخرة .

قال : ( ولا بأس ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرا ) لأن المعصية لا تقوم بعينه بل بعد تغيره . قال : ( ومن حمل خمرا لذمي طاب له الأجر ) وقالا : يكره لأنه أعانه على المعصية . وفي الحديث : " لعن الله في الخمر عشرا " وعد منهم " حاملها " وله أن المعصية شربها ، وليس من ضرورات الحمل وهو فعل فاعل مختار ، ومحمل الحديث الحمل لقصد المعصية حتى لو حملها يريقها أو ليخللها جاز ، وعلى هذا الخلاف إذا أجر بيتا ليتخذه بيت نار أو بيعة أو كنيسة في السواد . لهما أنه أعانه على المعصية ، وله أن العقد ورد على منفعة البيت حتى وجبت الأجرة بالتسليم وليس بمعصية ، والمعصية فعل المستأجر وهو مختار في ذلك .

قال : ( ولا بأس ببيع السرقين ) لأنه منتفع به يلقى في الأراضي طلبا لكثرة الريع ، ويجري فيه الشح والضنة وتبذل الأعواض في مقابلته فكان ما لا يجوز فيجوز بيعه كسائر الأموال ، بخلاف العذرة فإنه لا ينتفع بها إلا بعد الخلط ، وبعد الخلط يجوز بيعها وهو المختار ، ويجوز الانتفاع بعد الخلط بها كزيت وقعت فيه نجاسة .

قال : ( ولا بأس ببيع بناء بيوت مكة ويكره بيع أرضها ) وكذا الإجارة . وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجوز بيع دور مكة وفيها الشفعة ، ويكره إجارتها في الموسم ، وقالا : لا بأس ببيع [ ص: 441 ] أرضها لأنها مملوكة لهم لاختصاصهم بها الاختصاص الشرعي فيجوز كالبناء . وله ما روى ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " مكة حرام وبيع رباعها حرام " وروى الدارقطني بإسناده أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " مكة مباح لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها " قال الدارقطني : وكانت تدعى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر السوائب ، من شاء سكن ومن استغنى أسكن ، ولأنها من الحرم يحرم صيدها ، ولا يحل دخولها لناسك إلا بإحرام فيحرم بيعها كالكعبة والصفا والمروة والمسعى ، وإنما جاز بيع البناء لأن البقعة محرمة ، وقفها إبراهيم صلوات الله عليه ، والبناء ملك لمن أحدثه فيجوز تصرفه فيه ، والطين وإن كان من الأرض وهو من جملة الوقف ، لكن من أخذ طين الوقف فعمله لبناء ملكه صار كسائر أملاكه . ووجه رواية الحسن أن الناس يتبايعونها في سائر الأعصار من غير إنكار .

قال : ( ويقبل في المعاملات قول الفاسق ) لأنها يكثر وجودها من الناس ، فلو شرطنا العدالة حرج الناس في ذلك ، وما في الدين من حرج ، فيقبل قول الواحد عدلا كان أو فاسقا ، حرا كان أو عبدا ، ذكرا أو أنثى ، مسلما أو كافرا دفعا للحرج .

قال : ( ولا يقبل في الديانات إلا قول العدل حرا كان أو عبدا ، ذكرا أو أنثى ) لأن الصدق فيه راجح باعتبار عقله ودينه ، سيما فيما لا يجلب له نفعا ولا يدفع عنه ضررا ، ولهذا قبلت رواية الواحد العدل للأخبار النبوية ، وإنما اشترطنا العدالة لأنها مما لا يكثر وقوعها كثرة المعاملات ، ولأن الفاسق متهم والكافر غير ملتزم لها فلا يلزم المسلم بقوله ، بخلاف المعاملات فإنه لا مقام له في دارنا إلا بالمعاملة ، ولا معاملة إلا بقبول قوله ، ولا كذلك الديانات والمعاملات كالإخبار بالذبيحة والوكالة والهبة والهدية والإذن ونحو ذلك ، والديانات كالإخبار بجهة القبلة وطهارة الماء ، فلو أخبره ذمي بنجاسة الماء لم يقبل قوله ، لأن الظاهر [ ص: 442 ] كذبه إضرارا بالمسلم للعداوة الدينية ولا يتحرى ، فإن وقع في قلبه صدقه لا يتيمم ما لم يرق الماء ، وإن توضأ به جاز; ولو أخبره بذلك فاسق أو من لا تعرف عدالته ، فإن غلب على ظنه صدقه سمع قوله وإلا فلا ، والأحوط أن يريقه ويتيمم .

قال : ( ويقبل في الهدية والإذن قول الصبي والعبد والأمة ) للحاجة إلى ذلك ، وعليه الناس من لدن الصدر الأول إلى يومنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية