صفحة جزء
[ ص: 451 ] فصل

[ في الكسب ]

وأفضل أسباب الكسب : الجهاد ثم التجارة ثم الزراعة ثم الصناعة ثم هو فرض ، وهو الكسب بقدر الكفاية لنفسه وعياله وقضاء ديونه ومستحب وهو الزيادة على ذلك ليواسي به فقيرا ، أو يجازي به قريبا ومباح ، وهو الزيادة للتجمل والتنعم ومكروه ، وهو الجمع للتفاخر والتكاثر والبطر والأشر وإن كان من حل .

أما الأكل فعلى مراتب : فرض ، وهو ما يندفع به الهلاك ومأجور عليه ، وهو ما زاد عليه ليتمكن من الصلاة قائما ويسهل عليه الصوم ومباح ، وهو ما زاد على ذلك إلى الشبع لتزداد قوة البدن وحرام ، وهو الأكل فوق الشبع إلا إذا قصد التقوي على صوم الغد أو لئلا يستحي الضيف ; ولا تجوز الرياضة بتقليل الأكل حتى يضعف عن أداء الفرائض ، ومن امتنع من أكل الميتة حالة المخمصة ، أو صام ولم يأكل حتى مات أثم ; ومن امتنع من التداوي حتى مات لم يأثم ولا بأس بالتفكه بأنواع الفواكه ، وتركه أفضل ، واتخاذ ألوان الأطعمة والباجات ووضع الخبز على المائدة أكثر من الحاجة سرف ، ووضع المملحة على الخبز ، ومسح الأصابع والسكين به مكروه ، ولكن يترك الملح على الخبز ، وسنن الطعام البسملة في أوله ، والحمدلة في آخره وغسل اليدين قبله وبعده ويستحب اتخاذ الأوعية لنقل الماء إلى البيوت ، واتخاذها من الخزف أفضل ، وينفق على نفسه وعياله بلا سرف ولا تقتير ، ومن اشتد جوعه حتى عجز عن طلب القوت ففرض على كل من علم به أن يطعمه أو يدل عليه من يطعمه فإن قدر على الكسب يلزمه أن يكتسب ، وإن عجز عنه لزمه السؤال ، فإن ترك السؤال حتى مات أثم ، ومن كان له قوت يومه لا يحل له السؤال ، ويكره إعطاء سؤال المساجد وإن كان لا يتخطى الناس ولا يمشي بين يدي المصلين لا يكره; ولا يجوز قبول هدية أمراء الجور ، إلا إذا علم أن أكثر ماله حلال ، ووليمة العرس سنة ، وينبغي لمن دعي أن يجيب ، فإن لم يفعل أثم ، ولا يرفع منها شيئا ، ولا يعطي سائلا إلا بإذن صاحبها; ومن دعي إلى وليمة عليها لهو إن علم به لا يجيب ، وإن لم يعلم حتى حضر إن كان يقدر على منعهم فعل ، وإن لم يقدر فإن كان اللهو على المائدة لا يقعد; وإن لم يكن على المائدة ، فإن كان مقتدى به لا يقعد ، وإن لم يكن مقتدى به فلا بأس بالقعود .


فصل

في الكسب

قال محمد بن سماعة : سمعت محمد بن الحسن يقول : طلب الكسب فريضة كما أن طلب العلم فريضة ، وهذا صحيح لما روى ابن مسعود عن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " طلب الكسب فريضة على كل مسلم " وقال عليه الصلاة والسلام : " طلب الكسب بعد الصلاة المكتوبة " أي الفريضة بعد الفريضة ، ولأنه لا يتوسل إلى إقامة الفرض إلا به فكان فرضا لأنه لا يتمكن من أداء العبادات إلا بقوة بدنه ، وقوة بدنه بالقوت عادة وخلقة . قال تعالى : ( وما جعلناهم جسدا لا يأكلون ) وتحصيل القوت بالكسب ولأنه يحتاج في الطهارة إلى آلة الاستقاء والآنية ، ويحتاج في الصلاة إلى ما يستر عورته ، وكل ذلك إنما يحصل عادة بالاكتساب والرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يكتسبون ، فآدم زرع الحنطة وسقاها وحصدها وداسها وطحنها وعجنها وخبزها وأكلها ; ونوح كان نجارا ، وإبراهيم كان بزازا ، وداود كان يصنع الدروع ، وسليمان كان يصنع المكاتل من الخوص ، وزكريا كان نجارا ، ونبينا رعى [ ص: 452 ] الغنم ، وكانوا يأكلون من كسبهم ، وكان الصديق رضي الله عنه بزازا ، وعمر يعمل في الأديم ، وعثمان كان تاجرا يجلب الطعام فيبيعه ، وعلي كان يكتسب فقد صح أنه كان يؤاجر نفسه .

ولا تلتفت إلى جماعة أنكروا ذلك وقعدوا في المساجد أعينهم طامحة وأيديهم مادة إلى ما في أيدي الناس يسمون أنفسهم المتوكلة ، وليسوا كذلك ، يتمسكون بقوله تعالى : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ( 22 ) ) وهم بمعناه وتأويله جاهلون ، فإن المراد به المطر الذي هو سبب إنبات الرزق ، ولو كان الرزق ينزل علينا من السماء لما أمرنا بالاكتساب والسعي في الأسباب ، قال تعالى : ( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ) وقال تعالى : ( أنفقوا من طيبات ما كسبتم ) . وفي الحديث : " إن الله تعالى يقول : يا عبدي حرك يدك أنزل عليك الرزق " وقال تعالى : ( وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ( 25 ) ) وكان تعالى قادرا أن يرزقها من غير هز منها ، لكن أمرها ليعلم العباد أن لا يتركوا اكتساب الأسباب ، فإن الله تعالى هو الرزاق ونظير هذا خلق الإنسان ، فإن الله تعالى قادر على خلقه لا من سبب ولا في سبب كآدم عليه السلام ، ويخلق من سبب لا في سبب كحواء ، وقد يخلق في سبب لا من سبب كعيسى ، وقد يخلق من سبب في سبب كسائر بني آدم; فطلب العبد الولد بالنكاح لا ينفي كون الخالق هو الله تعالى ، فكذلك طلبه الرزق بأسبابه لا ينفي كون الرازق هو الله تعالى ، والدلائل على ذلك كثيرة والأحاديث الواردة فيه متوافرة ، وكتابنا هذا يضيق عن استيعابها ، وفي هذا بلاغ ومقنع .

وطلب العلم فريضة ، قال عليه الصلاة والسلام : " طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة " وهو أقسام : فرض ، وهو مقدار ما يحتاج إليه لإقامة الفرائض ومعرفة الحق من الباطل ، والحلال من الحرام ، وهو محمل الحديث; ومستحب وقربة كتعليم ما لا يحتاج إليه ليعلم من يحتاج إليه كالفقير يتعلم أحكام الزكاة والحج ليعلمها من وجبا عليه ، وكذلك تعلم [ ص: 453 ] الفضائل والسنن كالأذان والإقامة والجماعة وسنة الختان ونحوها ، ومباح وهو الزيادة على ذلك للزينة والكمال; ومكروه وهو التعلم ليباهي به العلماء ويماري به السفهاء ، قال عليه الصلاة والسلام : " من تعلم علما ليباهي به العلماء ويماري به السفهاء ألجم بلجام من نار يوم القيامة " ولذلك كره أبو حنيفة تعلم الكلام والمناظرة فيه وراء قدر الحاجة .

والتعليم بقدر ما يحتاج إليه لإقامة الفرض فرض أيضا ، قال عليه الصلاة والسلام : " من سئل عن علم عنده احتاج الناس إليه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " حتى قالوا : يجب على المولى أن يعلم عبده من القرآن والعلم بقدر ما يحتاج إليه لأداء الفرائض ، ويفترض العلماء تعليمه إلى أن يفهم المتعلم ويحفظه ويضبطه ، لأنه لا يتمكن من إقامة الفرائض إلا بالحفظ .

ولا يجب على الفقيه أن يجيب عن كل ما يسأل إذا كان هناك من يجيب غيره ، فإن لم يكن يلزمه الجواب ، لأن الفتوى والتعليم فرض كفاية .

قال : ( وأفضل أسباب الكسب الجهاد ) لأن فيه الجمع بين حصول الكسب وإعزاز الدين وقهر عدو الله تعالى ( ثم التجارة ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام حث عليها فقال : " التاجر الصدوق مع الكرام البررة وقال : إن الله يحب التاجر الصدوق " .

( ثم الزراعة ) وأول من فعله آدم عليه السلام ، وقال عليه الصلاة والسلام : " الزارع يتاجر ربه " وقال : " اطلبوا الرزق تحت خبايا الأرض " ( ثم الصناعة ) لأنه عليه الصلاة والسلام [ ص: 454 ] حرض عليها فقال : " الحرفة أمان من الفقر " ومنهم من فضل الزرع على التجارة لأنه أعم نفعا ، قال عليه الصلاة والسلام : " ما زرع أو غرس مسلم شجرة فتناول منها إنسان أو دابة أو طير إلا كانت له صدقة " .

( ثم هو ) أنواع : ( فرض ، وهو الكسب بقدر الكفاية لنفسه وعياله وقضاء ديونه ) لما بينا أنه لا يتوسل إلى إقامة الفرض إلا به وهو قضاء الدين ونفقة من يجب عليه نفقته ، فإن ترك الاكتساب بعد ذلك وسعه . قال عليه الصلاة والسلام : " من أصبح آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " وإن اكتسب ما يدخره لنفسه وعياله فهو في سعة ، فقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام ادخر قوت عياله سنة .

( ومستحب ، وهو الزيادة على ذلك ليواسي به فقيرا ، أو يجازي به قريبا ) فإنه أفضل من التخلي لنفل العبادة ، لأن منفعة النفل تخصه ومنفعة الكسب له ولغيره ، وقال عليه الصلاة والسلام : " خير الناس من ينفع الناس " وقال عليه الصلاة والسلام : " تباهت العبادات فقالت الصدقة أنا أفضلها " وقال عليه الصلاة والسلام : " الناس عيال الله في الأرض وأحبهم إليه أنفعهم لعياله " .

[ ص: 455 ] ( ومباح ، وهو الزيادة للتجمل والتنعم ) قال عليه الصلاة والسلام : " نعم المال الصالح للرجل الصالح " وقال عليه الصلاة والسلام : " من طلب الدنيا حلالا متعففا لقي الله تعالى ووجهه كالقمر ليلة البدر " .

( ومكروه ، وهو الجمع للتفاخر والتكاثر والبطر والأشر وإن كان من حل ) فقد قال عليه الصلاة والسلام : " من طلب الدنيا مفاخرا مكاثرا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان " .

ثم اعلم أن الله تعالى خلق بني آدم خلقا لا قوام له إلا بالأكل والشرب واللباس ، وكل منها ينقسم إلى : مباح ومحظور وغيرهما ، وأنا أبينه بتوفيق الله تعالى .

( أما الأكل فعلى مراتب : فرض ، وهو ما يندفع به الهلاك ) لأنه لإبقاء البنية ، إذ لا بقاء لها بدونه وبه يتمكن من أداء الفرائض على ما مر ويؤجر على ذلك ، قال عليه الصلاة والسلام : " إن الله ليؤجر في كل شيء حتى اللقمة يرفعها العبد إلى فيه " فإن ترك الأكل والشرب حتى هلك فقد عصى ، لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة ، وإنه منهي عنه في محكم التنزيل .

قال ( ومأجور عليه ، وهو ما زاد عليه ليتمكن من الصلاة قائما ويسهل عليه الصوم ) قال عليه الصلاة والسلام : " المؤمن القوي أحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف " ولأن [ ص: 456 ] الاشتغال بما يتقوى به على الطاعة طاعة . وسئل أبو ذر رضي الله عنه عن أفضل الأعمال فقال : الصلاة وأكل الخبز إشارة إلى ما قلنا .

قال : ( ومباح ، وهو ما زاد على ذلك إلى الشبع لتزداد قوة البدن ) ولا أجر فيه ولا وزر ، ويحاسب عليه حسابا يسيرا إن كان من حل ، فقد روي : " أن النبي عليه الصلاة والسلام أتي بعرق فيه تمر ورطب فقال : إنكم لتحاسبون في هذا ) فرفعه عمر ورفضه وقال : أفي هذا نحاسب; فقال عليه الصلاة والسلام : إي والله والذي نفسي بيده إنكم لتحاسبون يوم القيامة في الماء البارد والماء الحار إلا خرقة تستر بها عورتك ، وكسرة خبز ترد بها جوعتك ، وشربة ماء تطفئ بها عطشك " وقال عليه الصلاة والسلام : " يكفي ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ولا يلام على كفاف " .

قال : ( وحرام ، وهو الأكل فوق الشبع ) لأنه إضاعة للمال وإمراض للنفس ولأنه تبذير وإسراف وقال عليه الصلاة والسلام : " ما ملأ ابن آدم وعاء أشر من البطن ، فإن كان لا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس " وتجشأ رجل في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب عليه وقال : " نح عنا جشاك ، أما علمت أن أطول الناس عذابا يوم القيامة أكثرهم شبعا في الدنيا ; " وقيل لعمر : ألا تتخذ جوارش ; فقال : وما يكون الجوارش; قالوا : هاضوما يهضم الطعام ، قال : سبحان الله أو يأكل المسلم فوق الشبع ؟ .

قال : ( إلا إذا قصد التقوي على صوم الغد ) لأن فيه فائدة ( أو لئلا يستحي الضيف ) لأنه إذا أمسك والضيف لم يشبع ربما استحى فلا يأكل حياء وخجلا ، فلا بأس بأكله فوق الشبع لئلا يكون ممن أساء القرى وهو مذموم عقلا وشرعا .

[ ص: 457 ] قال : ( ولا تجوز الرياضة بتقليل الأكل حتى يضعف عن أداء الفرائض ) قال عليه الصلاة والسلام : " إن نفسك مطيتك فارفق بها ) وليس من الرفق أن يجيعها ويذيبها ، ولأن ترك العبادة لا يجوز فكذا ما يفضي إليه ، فأما تجويع النفس على وجه لا يعجز عن أداء العبادات فهو مباح وفيه رياضة النفس وبه يصير الطعام مشتهى ، بخلاف الأول فإنه إهلاك للنفس; وكذا الشاب الذي يخاف الشبق لا بأس بأن يمتنع عن الأكل ليكسر شهوته بالجوع على وجه لا يعجز عن أداء العبادات على ما قال عليه الصلاة والسلام : " فإنه له وجاء " .

قال : ( ومن امتنع من أكل الميتة حالة المخمصة ، أو صام ولم يأكل حتى مات أثم ) لأنه أتلف نفسه لما بينا أنه لا بقاء له إلا بأكل ، والميتة حالة المخمصة إما حلال أو مرفوع الإثم فلا يجوز الامتناع عنه إذا تعين لإحياء النفس . وروي ذلك عن مسروق وجماعة من العلماء والتابعين ، وإذا كان يأثم بترك أكل الميتة فما ظنك بترك الذبيحة وغيرها من الحلالات حتى يموت جوعا .

قال : ( ومن امتنع من التداوي حتى مات لم يأثم ) لأنه لا يقين بأن هذا الدواء يشفيه ولعله يصح من غير علاج .

قال : ( ولا بأس بالتفكه بأنواع الفواكه ) لقوله تعالى : ( كلوا من طيبات ما رزقناكم ) وفيه نزل قوله تعالى : ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) قال : ( وتركه أفضل ) لئلا تنقص درجته ، ويدخل تحت قوله تعالى : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ) .

قال : ( واتخاذ ألوان الأطعمة والباجات ، ووضع الخبز على المائدة أكثر من الحاجة سرف ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام عده من أشراط الساعة . وعن عائشة : أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك إلا أن يكون من قصده أن يدعو الأضياف قوما بعد قوم حتى يأتوا على آخره لأن فيه فائدة . ومن الإسراف أن يأكل وسط الخبز ويدع حواشيه ، أو يأكل ما انتفخ [ ص: 458 ] منه ويترك الباقي لأن فيه نوع تجبر إلا أن يكون غيره يتناوله فلا بأس به كما إذا اختار رغيفا دون رغيف .

قال : ( ووضع المملحة على الخبز ، ومسح الأصابع والسكين به مكروه ولكن يترك الملح على الخبز ) لأن غيره يستقذر ذلك وفيه إهانة بالخبز وقد أمرنا بإكرامه . وقال عليه الصلاة والسلام : " أكرموا الخبز فإنه من بركات السماوات والأرض " قال عليه الصلاة والسلام : " ما استخف قوم بالخبز إلا ابتلاهم الله بالجوع " . ومن إكرام الخبز أن لا ينتظروا الإدام إذا حضر . ومن الإسراف إذا سقطت من يده لقمة أن يتركها . قال عليه الصلاة والسلام : " ألق عنها الأذى ثم كلها " .

قال : ( وسنن الطعام : البسملة في أوله والحمدلة في آخره ) فإن نسي البسملة في أوله فليقل إذا ذكر : باسم الله على أوله وآخره ، بجميع ذلك ورد الأثر ، وهو شكر المؤمن إذا رزق ، قال عليه الصلاة والسلام : " إن الله تعالى يرضى من عبده المؤمن إذا قدم إليه طعام أن يسمي الله في أوله ويحمد الله في آخره " .

قال : ( وغسل اليدين قبله وبعده ) قال عليه الصلاة والسلام : " الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم " والمراد بالوضوء هنا غسل اليدين ، والأدب أن يبدأ بالشباب قبله وبالشيوخ بعده ، ولا يمسح يده قبل الطعام بالمنديل ليكون أثر الغسل باقيا وقت الأكل ، ويمسحها بعده ليزول أثر الطعام بالكلية .

قال : ( ويستحب اتخاذ الأوعية لنقل الماء إلى البيوت ) لحاجة الوضوء والشرب للنساء [ ص: 459 ] لأنهن عورة وقد نهين عن الخروج ، قال تعالى : ( وقرن في بيوتكن ) فيلزم الزوج ذلك كسائر حاجاتها .

قال : ( واتخاذها من الخزف أفضل ) إذ لا سرف فيه ولا مخيلة . وفي الحديث : " من اتخذ أواني بيته خزفا زارته الملائكة " ويجوز اتخاذها من نحاس أو رصاص أو شبه أو أدم ، ولا يجوز من الذهب والفضة لما مر .

قال : ( وينفق على نفسه وعياله بلا سرف ولا تقتير ) ولا يتكلف لتحصيل جميع شهواتهم ، ولا يمنعهم جميعها ويتوسط ، قال تعالى : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ( 67 ) ) ولا يستديم الشبع ، قال عليه الصلاة والسلام : " أجوع يوما وأشبع يوما " .

فالحاصل أنه يحرم على المسلم الإفساد لما اكتسبه والسرف والمخيلة فيه ، قال الله تعالى : ( ولا تبغ الفساد في الأرض ) وقال : ( والله لا يحب الفساد ( 205 ) ) وقال : ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ( 31 ) ) وقال : ( ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) .

قال : ( ومن اشتد جوعه حتى عجز عن طلب القوت ففرض على كل من علم به أن يطعمه أو يدل عليه من يطعمه ) صونا له عن الهلاك ، فإن امتنعوا من ذلك حتى مات اشتركوا في الإثم ، قال عليه الصلاة والسلام : " ما آمن بالله من بات شبعان وجاره إلى جنبه طاو " . وقال عليه الصلاة والسلام : " أيما رجل مات ضياعا بين أقوام أغنياء فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله " وإن أطعمه واحد سقط عن الباقين ، وكذا إذا رأى لقيطا أشرف على الهلاك أو أعمى كاد أن يتردى في البئر وصار هذا كإنجاء الغريق .

[ ص: 460 ] قال : ( فإن قدر على الكسب يلزمه أن يكتسب ) لما بينا ( وإن عجز عنه لزمه السؤال ) فإنه نوع اكتساب لكن لا يحل إلا عند العجز ، قال عليه الصلاة والسلام : " السؤال آخر كسب العبد " ، ( فإن ترك السؤال حتى مات أثم ) لأنه ألقى بنفسه إلى التهلكة ، فإن السؤال يوصله إلى ما يقوم به نفسه في هذه الحالة كالكسب ، ولا ذل في السؤال في هذه الحالة ، فقد أخبر الله تعالى عن موسى وصاحبه أنهما أتيا أهل قرية استطعما أهلها . وقال عليه الصلاة والسلام لرجل من أصحابه : " هل عندك شيء فآكله ؟ " .

قال : ( ومن كان له قوت يومه لا يحل له السؤال ) لقوله عليه الصلاة والسلام : " من سأل الناس وهو غني عما يسأل جاء يوم القيامة ومسألته خدوش أو خموش أو كدوح في وجهه " ولأنه أذل نفسه من غير ضرورة وأنه حرام . قال عليه الصلاة والسلام : " لا يحل للمسلم أن يذل نفسه " .

قال : ( ويكره إعطاء سؤال المساجد ) فقد جاء في الأثر : ينادى يوم القيامة ليقم بغيض الله ، فيقوم سؤال المسجد .

( وإن كان لا يتخطى الناس ولا يمشي بين يدي المصلين لا يكره ) وهو المختار ، فقد روي أنهم كانوا يسألون في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى روي أن عليا رضي الله عنه تصدق بخاتمه في الصلاة فمدحه الله تعالى بقوله : ( ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) وإن كان يمر بين [ ص: 461 ] يدي المصلي ويتخطى رقاب الناس يكره ، لأنه إعانة على أذى الناس حتى قيل : هذا فلس يكفره سبعون فلسا .

قال : ( ولا يجوز قبول هدية أمراء الجور ) لأن الغالب في مالهم الحرمة . قال : ( إلا إذا علم أن أكثر ماله حلال ) بأن كان صاحب تجارة أو زرع فلا بأس به ، لأن أموال الناس لا تخلو عن قليل حرام والمعتبر الغالب ، وكذلك أكل طعامهم .

قال : ( ووليمة العرس سنة ) قديمة وفيها مثوبة عظيمة ، قال عليه الصلاة والسلام : ( أولم ولو بشاة " وهي إذا بنى الرجل بامرأته أن يدعو الجيران والأقرباء والأصدقاء ويذبح لهم ويصنع لهم طعاما .

( وينبغي لمن دعي أن يجيب ، فإن لم يفعل أثم ) لقوله عليه الصلاة والسلام : " من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله " فإن كان صائما أجاب ودعا ، وإن لم يكن صائما أكل ودعا ، وإن لم يأكل أثم وجفا لأنه استهزأ بالمضيف ، وقال عليه الصلاة والسلام : لو دعيت إلى كراع لأجبت " .

قال : ( ولا يرفع منها شيئا ولا يعطي سائلا إلا بإذن صاحبها ) لأنه إنما أذن له في الأكل دون الرفع والإعطاء .

قال : ( ومن دعي إلى وليمة عليها لهو إن علم به لا يجيب ) لأنه لم يلزمه حق الإجابة .

( وإن لم يعلم حتى حضر إن كان يقدر على منعهم فعل ) لأنه نهي عن منكر ( وإن لم يقدر فإن كان اللهو على المائدة لا يقعد ) لأن استماع اللهو حرام والإجابة سنة ، والامتناع عن الحرام أولى من الإتيان بالسنة ( وإن لم يكن على المائدة ، فإن كان مقتدى به لا يقعد ) لأن فيه شين الدين وفتح باب المعصية على المسلمين ، وما روي عن أبي حنيفة أنه قال : ابتليت بهذا مرة [ ص: 462 ] فصبرت كان قبل أن يصير مقتدى به ( وإن لم يكن مقتدى به فلا بأس بالقعود ) وصار كتشييع الجنازة إذا كان معها نياحة لا يترك التشييع والصلاة عليها لما عندها من النياحة كذا هنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية