صفحة جزء
[ ص: 464 ] فصل

[ الكلام ]

الكلام منه ما يوجب أجرا كالتسبيح والتحميد ، وقراءة القرآن ، والأحاديث النبوية وعلم الفقه ، وقد يأثم به إذا فعله في مجلس الفسق وهو يعمله ، وإن سبح فيه للاعتبار والإنكار ، وليشتغلوا عما هم فيه من الفسق فحسن ويكره فعله للتاجر عند فتح متاعه ، ويكره الترجيع بقراءة القرآن والاستماع إليه . ومنه ما لا أجر فيه ولا وزر كقولك : قم واقعد ، وأكلت وشربت ونحوه ومنه ما يوجب الإثم كالكذب والنميمة والغيبة والشتيمة ، ثم الكذب محظور إلا في القتال للخدعة ، وفي الصلح بين اثنين ، وفي إرضاء الرجل الأهل ، وفي دفع الظالم عن الظلم ويكره التعريض بالكذب إلا لحاجة ; ولا غيبة لظالم يؤذي الناس بقوله وفعله ، ولا إثم في السعي به إلى السلطان ليزجره ولا غيبة إلا لمعلومين ، فلو اغتاب أهل قرية فليس بغيبة ; وإذا أدى الفرائض وأحب أن يتنعم بمنظر حسن وجوار جميلة فلا بأس به ، ومن قنع بأدنى الكفاية ، وصرف الباقي إلى ما ينفعه في الآخرة فهو أولى .


فصل

[ الكلام ]

( الكلام : منه ما يوجب أجرا كالتسبيح والتحميد وقراءة القرآن والأحاديث النبوية وعلم الفقه ) قال تعالى : ( والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ) والآيات والأحاديث كثيرة في ذلك ( وقد يأثم به إذا فعله في مجلس الفسق وهو يعمله ) لما فيه من الاستهزاء والمخالفة لموجبه .

( وإن سبح فيه للاعتبار والإنكار ، وليشتغلوا عما هم فيه من الفسق فحسن ) وكذا من سبح في السوق بنية أن الناس غافلون مشتغلون بأمور الدنيا وهو مشتغل بالتسبيح ، وهو أفضل من تسبيحه وحده في غير السوق ، قال عليه الصلاة والسلام : " ذاكر الله في الغافلين كالمجاهد في سبيل الله " .

[ ص: 465 ] قال : ( ويكره فعله للتاجر عند فتح متاعه ) وكذلك الفقاعي عند فتح الفقاع يقول : لا إله إلا الله صلى الله على محمد فإنه يأثم بذلك لأنه يأخذ لذلك ثمنا ، بخلاف الغازي أو العالم إذا كبر عند المبارزة وفي مجلس العلم لأنه يقصد به التفخيم والتعظيم وإشعار شعائر الدين .

قال : ( ويكره الترجيع بقراءة القرآن والاستماع إليه ) لأنه تشبه بفعل الفسقة حال فسقهم وهو التغني ولم يكن هذا في الابتداء ، ولهذا كره في الأذان ، وقيل لا بأس به لقوله عليه الصلاة والسلام : " زينوا القرآن بأصواتكم " وعن النبي عليه الصلاة والسلام أنه " كره رفع الصوت عند قراءة القرآن والجنازة والزحف والتذكير " : أي الوعظ ، فما ظنك به عند استماع الغناء المحرم الذي يسمونه وجدا ؟ . وكره أبو حنيفة قراءة القرآن عند القبور لأنه لم يصح عنده في ذلك شيء عن النبي عليه الصلاة والسلام ، ولا يكرهه محمد ، وبه نأخذ لما فيه من النفع للميت لورود الآثار بقراءة آية الكرسي وسورة الإخلاص والفاتحة وغير ذلك عند القبور .

ومذهب أهل السنة والجماعة أن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره ويصل لحديث الخثعمية وقد مر في الحج ، ولما روي " أنه عليه الصلاة والسلام ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته " أي جعل ثوابه عن أمته . وروي : " أن رجلا قال : يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها فهل لها أجر إن تصدقت عنها ; قال : نعم ولك " ورفعت امرأة صبيها وقالت : يا رسول الله " ألهذا حج ؟ قال : نعم ولك أجر " والآثار فيه كثيرة ، ومنع بعضهم من [ ص: 466 ] ذلك وقال : لا يصل متمسكا بقوله تعالى : ( وأن ليس لإنسان إلا ما سعى ) وبقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " الحديث .

الجواب عن الآية من وجوه : أحدها : أنها سيقت على قوله : ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى . وإبراهيم الذي وفى ) فيكون إخبارا عما في شريعتهما فلا يلزمنا ، كيف وقد روينا عن نبينا عليه الصلاة والسلام خلافه ؟ . قال علي رضي الله عنه : هذا لقوم إبراهيم وموسى ، وأما هذه الأمة لهم ما سعوا وسعي لهم . الثاني أنها منسوخة بقوله تعالى : ( ألحقنا بهم ذريتهم ) أدخل الذرية الجنة بصلاح الآباء ، قاله ابن عباس . الثالث قال الربيع بن أنس : المراد بالإنسان هنا الكافر ، أما المؤمن له أجر ما سعى وسعي له . الرابع تجعل اللام بمعنى على وأنه جائز . قال : فخر صريعا لليدين وللفم ، فيصير كأنه قال : وأن ليس على الإنسان إلا ما سعى فيحمل عليه توفيقا بين الآية والأحاديث ، ولأنه معنى صحيح لا خلاف فيه ولا يدخله التخصيص . الخامس أنه سعى في جعل ثواب عمله لغيره فيكون له ما سعى عملا بالآية . السادس أن السعي أنواع : منها بفعله وقوله ، ومنها بسبب قرابته ، ومنها بصديق سعى في خلته ، ومنها بما يسعى فيه من أعمال الخير والصلاح وأمور الدين التي يحبه الناس بسببها فيدعون له ويجعلون له ثواب عملهم وكل ذلك بسبب سعيه ، فقد قلنا بموجب الآية فلا يكون حجة علينا .

وأما الحديث فإنه يقتضي انقطاع عمله ولا كلام فيه إنما الكلام في وصول ثواب عمل غيره إليه ، والحديث لا ينفيه ، على أن الناس عن أخرهم قد استحسنوا ذلك فيكون حسنا بالحديث .

قال : ( ومنه ما لا أجر فيه ولا وزر كقولك : قم واقعد وأكلت وشربت ونحوه ) لأنه ليس بعبادة ولا معصية ، ثم قيل لا يكتب لأنه لا أجر عليه ولا عقاب . وعن محمد ما يدل عليه ، فقد روى عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : إن الملائكة لا تكتب إلا ما كان فيه أجر أو وزر ، وقيل يكتب لقوله تعالى : ( ونكتب ما قدموا وآثارهم ) الآية ، ثم يمحى مالا جزاء فيه [ ص: 467 ] ويبقى ما فيه جزاء ، ثم قيل يمحى في كل اثنين وخميس وفيهما تعرض الأعمال . والأكثرون على أنها تمحى يوم القيامة .

قال : ( ومنه ما يوجب الإثم كالكذب والنميمة والغيبة والشتيمة ) لأن كل ذلك معصية حرام بالنقل والعقل .

( ثم الكذب محظور إلا في القتال للخدعة ، وفي الصلح بين اثنين ، وفي إرضاء الرجل الأهل ، وفي دفع الظالم عن الظلم ) لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يصلح الكذب إلا في ثلاث : في الصلح بين اثنين ، وفي القتال ، وفي إرضاء الرجل أهله " ودفع الظالم عن الظلم من باب الصلح .

قال : ( ويكره التعريض بالكذب إلا لحاجة ) كقولك لرجل كل ، فيقول : أكلت يعني أمس فلا بأس به لأنه صادق في قصده . وقيل يكره لأنه كذب في الظاهر .

قال : ( ولا غيبة لظالم يؤذي الناس بقوله وفعله ) قال عليه الصلاة والسلام : " اذكروا الفاجر بما فيه لكي تحذره الناس " ( ولا إثم في السعي به إلى السلطان ليزجره ) لأنه من باب النهي عن المنكر ومنع الظلم . قال : ( ولا غيبة إلا لمعلومين ، فلو اغتاب أهل قرية فليس بغيبة ) لأن المراد مجهول فصار كالقذف ، وكره محمد إرخاء الستر على البيت لأنه نوع تكبر وفيه زينة ، ولا بأس بستر حيطان البيت باللبود ونحوه لدفع البرد لأن فيه منفعة ، ويكره للزينة وقد مر .

قال : ( وإذا أدى الفرائض وأحب أن يتنعم بمنظر حسن وجوار جميلة فلا بأس به ) فإن النبي عليه الصلاة والسلام تسرى مارية أم إبراهيم مع ما كان عنده من الحرائر ، وعلي [ ص: 468 ] رضي الله عنه استولد محمد بن الحنفية مع ما كان عنده من الحرائر ; والأصل فيه قوله تعالى : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ) الآية .

قال : ( ومن قنع بأدنى الكفاية وصرف الباقي إلى ما ينفعه في الآخرة فهو أولى ) لأن ما عند الله خير وأبقى . واعلم أن الاقتصار على أدنى ما يكفيه عزيمة وما زاد عليه من التنعم ونيل اللذات رخصة وقد قال عليه الصلاة والسلام : فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه " ، وقال عليه الصلاة والسلام : " بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ولم أبعث بالرهبانية الصعبة " وفي الحديث : " لا يزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربعة : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفي ماذا صرفه ؟ " .

والذي يجب على المسلم أن يتمسك بخصال : منها التحرز عن ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ; ومنها المحافظة على أداء الفرائض في أوقاتها بواجباتها تامة كما أمر بها; ومنها التحرز عن السحت واكتساب المال من غير حله ; ومنها التحرز عن ظلم كل مسلم أو معاهد ، وما عدا ذلك فقد وسع الله تعالى علينا الأمر فيه ، فلا نضيقه علينا ولا على أحد من المسلمين . وفي الحديث : " أن النبي عليه الصلاة والسلام وعظ الناس يوما وذكر القيامة ، فرق له الناس وبكوا ، فاجتمع عشرة في بيت عثمان بن مظعون ، وهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن ، واتفقوا على أن يترهبوا ويجبوا مذاكيرهم ويلبسوا المسوح ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا في الأرض ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : " ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ؟ قالوا : بلى وما أردنا إلا خيرا ، فقال عليه الصلاة والسلام : إني لم آمر بذلك ، ثم قال : إن لأنفسكم [ ص: 469 ] عليكم حقا ، فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام وأصوم وآكل اللحم والدسم وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) . ثم خطب فقال : " ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا ، أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا ، فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع ، فإن سياحة أمتي الصوم ، ورهبانيتهم الجهاد ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وحجوا واعتمروا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، واستقيموا يستقم لكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم " ونزل قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) إلى قوله : ( واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) .

تم الجزء الرابع من " الاختيار لتعليل المختار " ويليه : الجزء الخامس ، وأوله : كتاب الصيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية