صفحة جزء
[ ص: 499 ] القتل المتعلق بالأحكام خمسة : عمد ، وشبه عمد ، وخطأ ، وما أجري مجرى الخطأ ، والقتل بسبب .

فالعمد : أن يتعمد الضرب بما يفرق الأجزاء : كالسيف والليطة والمروة والنار ، وحكمه المأثم والقود ، إلا أن يعفو الأولياء ، أو وجوب المال عند المصالحة برضى القاتل في ماله ، أو صلح بعضهم أو عفوه ، فتجب بقية الدية على العاقلة ، أو عند تعذر استيفائه لشبهة كقتل الأب ابنه فتجب الدية في ماله في ثلاث سنين ، ولا كفارة في العمد . وشبه العمد : أن يتعمد الضرب بما لا يفرق ( سم ) الأجزاء : كالحجر والعصا واليد ، وموجبه الإثم والكفارة والدية مغلظة على العاقلة ، وهو عمد فيما دون النفس ، والخطأ أن يرمي شخصا يظنه صيدا ، أو حربيا فإذا هو مسلم ، أو يرمي غرضا فيصيب آدميا ، وموجبه الكفارة والدية على العاقلة ، ولا إثم عليه .

وما أجري مجرى الخطأ : مثل النائم ينقلب على إنسان فيقتله فهو كالخطأ . والقتل بسبب : كحافر البئر وواضع الحجر في غير ملكه وفنائه فيعطب به إنسان ، وموجبه الدية على العاقلة لا غير ، وكل ذلك يوجب حرمان الإرث إلا القتل بسبب ، ولو مات في البئر غما أو جوعا فهو هدر ( سم ) ، والكفارة عتق رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين .


[ ص: 499 ] كتاب الجنايات ، وهي جمع جناية ، والجناية : كل فعل محظور يتضمن ضررا ، ويكون تارة على نفسه ، وتارة على غيره ، يقال : جنى على نفسه وجنى على غيره ، فالجناية على غيره تكون على النفس وعلى الطرف وعلى العرض وعلى المال ، والجناية على النفس تسمى قتلا أو صلبا أو حرقا ، والجناية على الطرف تسمى قطعا أو كسرا أو شجا ، وهذا الباب لبيان هاتين الجنايتين وما يجب بهما . والجناية على العرض نوعان : قذف وموجبه الحد وقد بيناه . وغيبة وموجبها الإثم ، وهو من أحكام الآخرة . والجناية على المال تسمى غصبا أو خيانة أو سرقة وقد بيناها وموجبها في كتابي السرقة والغصب - بعون الله تعالى ، ثم القصاص مشروع ثبتت شرعيته بالكتاب والسنة وإجماع الأمة . أما الكتاب فقوله - تعالى - : ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص ) الآية ، وقوله : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) أي أثبتنا لوليه سلطنة القتل . والسنة قوله - عليه الصلاة والسلام - : " من قتل قتلناه " ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : " كتاب الله القصاص " ، وعليه الإجماع والعقل ، والحكمة تقتضي شرعيته أيضا ، فإن الطباع البشرية والأنفس الشريرة تميل إلى الظلم والاعتداء وترغب في استيفاء الزائد على الابتداء سيما سكان البوادي وأهل الجهل العادلين عن سنن العقل والعدل كما نقل من عادتهم في الجاهلية ، فلو لم تشرع الأجزية الزاجرة عن التعدي والقصاص من غير زيادة ولا انتقاص لتجرأ ذوو الجهل والحمية والأنفس الأبية على القتل والفتك في الابتداء وإضعاف ما جني عليهم في الاستيفاء ، فيؤدي ذلك إلى التفاني ، وفيه من الفساد ما لا يخفى ، فاقتضت الحكمة شرع العقوبات الزاجرة عن الابتداء في القتل والقصاص المانع من استيفاء الزائد على المثل فورد الشرع بذلك لهذه الحكمة حسما عن مادة هذا الباب فقال : ( ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب ) [ ص: 500 ] قال : ( القتل المتعلق بالأحكام خمسة : عمد ، وشبه عمد ، وخطأ ، وما أجري مجرى الخطأ ، والقتل بسبب ) ، ومعناه القتل الواقع ابتداء بغير حق الذي يتعلق به القصاص أو الدية والكفارة هذه الخمسة ، وبيان الحصر أن القتل لا يخلو إما إن كان مباشرة أو لا ، فإن لم يكن مباشرة فهو القتل بسبب ، وإن كان مباشرة ، فإما إن كان عمدا أو خطأ ، فإن كان عمدا ، فإما إن كان بسلاح وما شابهه في تفريق الأجزاء أو بغير ذلك ، فإن كان فهو العمد ، إن كان بغيره فهو شبه العمد ، وإن كان خطأ ، فإما إن كان حالة اليقظة أو حالة النوم ، فإن كان حالة اليقظة فهو الخطأ ، وإن كان حالة النوم فهو الذي أجري مجراه ، ولئن قيل قتل المكره ليس مباشرة من المكره وقد جعلتموه عمدا حتى أوجبتم عليه القصاص . قلنا لما كان المكره مطلوب الاختيار لم يضف الفعل إليه فجعلناه كالآلة في يد المكره وانتقل فعله إليه ، فكأن المكره قتله بآلة أخرى فصار مباشرة تقديرا وشرعا ، وتمامه يعرف في الإكراه .

قال : ( فالعمد أن يتعمد الضرب بما يفرق الأجزاء كالسيف والليطة والمروة والنار ) ; لأن العمد فعل القلب لأنه القصد ، وذلك لا يوقف عليه إلا بدليله وهو مباشرة الآلة الموجبة للقتل عادة ، وأنه موجود فيما ذكرناه فكان عمدا ، ولو قتله بحديد أو صفر غير محدد كالعمود والسنجة ونحوهما فيه روايتان في ظاهر الرواية هو عمد نظرا إلى أنه أصل الآلة ، وفي رواية الطحاوي ليس بعمد لأنه لا يفرق الأجزاء ، ولو طعنه برمح لا سنان له فجرحه فهو عمد لأنه إذا فرق الأجزاء فهو كالسيف . وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة فيمن ضرب رجلا بإبرة وما يشبهه عمدا فمات لا قود فيه ، وفي المسلة ونحوها القود لأن الإبرة لا يقصد بها القتل عادة ويقصد بالمسلة ، وفي رواية أخرى إن غرز بالإبرة في المقتل قتل وإلا فلا .

قال : ( وحكمه المأثم والقود ) ، أما المأثم فبالإجماع ، ولقوله - تعالى - : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه ) ، وقال عليه الصلاة [ ص: 501 ] والسلام : " الآدمي بنيان الرب ملعون من هدمه " والنصوص فيه كثيرة ، وأما القود فلقوله - تعالى - : ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) ، والمراد به العمد لأنه لا قصاص في غيره ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : " العمد قود " أي حكمه وموجبه .

قال : ( إلا أن يعفو الأولياء ) لأن الحق لهم .

قال : ( أو وجوب المال عند المصالحة برضى القاتل في ماله ) لأن الحق له ، فإذا صالح عنه بعوض ورضى غريمه قليلا كان أو كثيرا جاز كما في سائر الحقوق ، ويجب في مال القاتل لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا تعقل العاقلة عمدا ولا صلحا " ، وهذا عمد وصلح فلا تتحمله العاقلة فيجب في ماله على ما شرطا من التأجيل والتعجيل والتنجيم ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " المؤمنون عند شروطهم " ، فإن لم يذكرا شيئا فهو حال كسائر المعاوضات عند الإطلاق ، والأصل فيه قوله تعالى : ( فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ) والمراد به الصلح ، وهذا لأن موجب العمد القود عينا فلا يجب المال إلا بالصلح برضا القاتل ، بيانه قوله تعالى : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) ، فلو وجب المال أو أحدهما لا يكون النفس بالنفس ، وشريعة من تقدمنا تلزمنا إلا أن يثبت النسخ ، وجميع أحاديث التخيير بين القصاص والدية أخبار آحاد لا ينسخ بها الكتاب ، وقوله تعالى : ( كتب عليكم القصاص ) وهو المماثلة لغة ، والمماثلة بين النفس والنفس لا بينها وبين المال ، أو نقول ذكر القصاص ولم يذكر الدية ، فلو ثبت التخيير أو الدية لثبت بخبر الواحد وأنه زيادة على الكتاب ، والزيادة نسخ والكتاب لا [ ص: 502 ] ينسخ به . وقال - عليه الصلاة والسلام - : " العمد قود " ، وقال : " كتاب الله القصاص " وقد مر التمسك به .

قال : ( أو صلح بعضهم أو عفوه ، فتجب بقية الدية على العاقلة ) لأنه حق مشترك بين الورثة ، فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - ورث امرأة أشيم الضبابي من عقله ، وإذا كان مشتركا بينهم فلكل منهم العفو عن نصيبه ، والصلح عنه كغيره من الحقوق ، فإذا صالح البعض أو عفا تعذر القصاص لأنه لا يتجزأ وقد سقط البعض فيسقط الباقي ضرورة ، وإذا سقط انقلب نصيب الباقي مالا لئلا يسقط لا إلى عوض ، ولا يجب على القاتل لأن الشرع ما أوجبه عليه كما مر ولا التزمه فيجب على العاقلة لأنه وجب بغير قصد من القاتل فصار كالخطأ ، وليس للعافي منه شيء لسقوط حقه بعفوه .

قال ( أو عند تعذر استيفائه لشبهة كقتل الأب ابنه فتجب الدية في ماله في ثلاث سنين ) وهذا لأن الأب لا يقتل بابنه ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " لا يقاد والد بولده " ، ولأنه جزؤه ، فأورث شبهة في القصاص فسقط ، وإذا سقط القصاص تجب الدية في ماله لأنه عمد ، وتجب في ثلاث سنين لما يأتي إن شاء الله تعالى .

قال : ( ولا كفارة في العمد ) لأن الله - تعالى - لم يوجبها فيه حيث لم يذكرها ولو وجبت لذكرها كما ذكرها في الخطأ ولأنه كبيرة ، وفي الكفارة معنى العبادة فلا يتعلق بها ولا يقاس على الخطأ فإن جناية العمد أعظم ، فلا يلزم من رفعها للأدنى رفعها للأعلى .

قال : ( وشبه العمد : أن يتعمد الضرب بما لا يفرق الأجزاء كالحجر والعصا واليد ) وقالا : إذا ضربه بحجر عظيم أو خشبة عظيمة فهو عمد ، وشبه العمد عندهما أن يتعمد الضرب بما لا [ ص: 503 ] يقتل غالبا كالسوط والعصا الصغيرة ; لأن معنى العمدية قاصرة فيهما لما أنه لا يقتل عادة ، ويقصد به غير القتل كالتأديب ونحوه فكان شبه العمد ، أما الذي لا يلبث ولا يتقاصر عن عمل السيف في إزهاق الروح فيكون عمدا . وروي أن يهوديا رضخ رأس جارية بالحجر ، فأمر النبي - عليه الصلاة والسلام - بالقصاص . ولأبي حنيفة قوله - عليه الصلاة والسلام - : " ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا ، وفيه مائة من الإبل " من غير فصل بين عصا وعصا . وروى النعمان بن بشير عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " كل شيء خطأ إلا السيف ، وفي كل خطأ أرش " ، وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال : شبه العمد : الحذفة بالعصا والقذفة بالحجر ، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - سماه خطأ العمد ; لأنه عمد من جهة الفعل خطأ من جهة الحكم ; لأن آلته ليست آلة العمد ، ولأن معنى العمدية فيه قاصر لكونه آلة غير موضوعة للقتل ولا مستعملة فيه ، وهذا لأنه لا يمكن قتله بها على غرة منه فيمكنه الاحتراز منه ، بخلاف السيف وأخواته فإنها تستعمل على غرة من المقتول فكان شبه العمد كالعصا والسوط الصغيرين ، ولأن القتل إفساد الآدمي صورة ومعنى ، أما صورة فبنقض التركيب ، وأما معنى فإفساد المنافع ، وقد وجد القتل ههنا معنى لا صورة ، فلو وجب القصاص وأنه يجب بالسيف عملا بالحديث يكون قتلا صورة ومعنى فلا توجد المماثلة الواجبة بالنصوص ، وأما اليهودي فالنبي - عليه الصلاة والسلام - قتله سياسة ، فإنه روي أنه كان اعتاد ذلك ، وعندنا متى تكرر منه ذلك فللإمام أن يقتله سياسة .

قال : ( وموجبه الإثم ) لأنه قتل عن قصد .

( والكفارة ) لشبهه بالخطأ ، وفيها معنى العبادة فيحتاط في إيجابها .

( والدية مغلظة على العاقلة ) ; لأن كل دية تجب بالقتل من غير صلح ولا عفو لبعض فإنها [ ص: 504 ] تجب على العاقلة على ما يأتي في الديات ، وسنبين كيفية وجوبها والتغليظ وقدرها إن شاء الله تعالى .

قال : ( وهو عمد فيما دون النفس ) ; لأن إتلاف النفس يختلف باختلاف الآلة ، وما دونها لا يختص بآلة دون آلة ، فبقي المعتبر تعمد الضرب وقد وجد فكان عمدا .

قال : ( والخطأ أن يرمي شخصا يظنه صيدا أو حربيا فإذا هو مسلم ) وهو خطأ في القصد .

( أو يرمي غرضا فيصيب آدميا ) وهو خطأ في الفعل .

( وموجبه الكفارة والدية على العاقلة ) لقوله - تعالى - : ( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ) .

( ولا إثم عليه ) قال - عليه الصلاة والسلام - : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " الحديث ، وقيل المنفي إثم القتل ، وإنما يأثم من حيث ترك الاحتراز والتثبت حالة الرمي ، ولهذا وجبت الكفارة .

قال : ( وما أجري مجرى الخطأ : مثل النائم ينقلب على إنسان فيقتله فهو كالخطأ ) في الحكم لأن النائم لا قصد له فلا يوصف فعله بالعمد ولا بالخطأ ، إلا أنه في حكم الخطأ لحصول الموت بفعله كالخاطئ .

قال : ( والقتل بسبب كحافر البئر وواضع الحجر في غير ملكه وفنائه فيعطب به إنسان ، وموجبه الدية على العاقلة لا غير ) ; لأنه متعد فيما وضعه وحفره فجعل دافعا موقعا فتجب الدية على العاقلة ، ولا يأثم فيه لعدم القصد ، ولا كفارة عليه لأنه لم يقتل حقيقة ، وإنما ألحقناه بالقاتل في حق الضمان فبقي ما وراءه على الأصل ، وسواء كان الواقع حرا أو عبدا أو دابة فضمانه عليه ، بذلك قضى شريح بمحضر من الصحابة من غير نكير منهم ، ولو سقاه سما فقتله فهو مسبب ; لأنه لم يقتله مباشرة ولا هو موضوع للقتل ، ولهذا يختلف باختلاف الطبائع ، وإن [ ص: 505 ] دفعه إليه فشربه فلا شيء عليه ولا على عاقلته ; لأن الشارب هو الذي قتل نفسه ، فصار كما إذا تعمد الوقوع في البئر .

قال : ( وكل ذلك يوجب حرمان الإرث إلا القتل بسبب ) قال - عليه الصلاة والسلام - : " لا ميراث لقاتل " ، والمسبب ليس بقاتل ولا متهم ; لأنه لا يعلم أن مورثه يقع في البئر وهو متهم في الخطأ لاحتمال أنه قصد ذلك في الباطن .

قال : ( ولو مات في البئر غما أو جوعا فهو هدر ) وقال محمد : يضمن الحافر فيهما . وقال أبو يوسف : يضمن في الغم دون الجوع ; لأن الغم بسبب البئر والوقوع فيها ، أما الجوع بسبب فقد الطعام ولا مدخل للبئر في ذلك . ولمحمد أن الجوع أيضا بسبب الوقوع إذ لولاه لكان الطعام قريبا منه . ولأبي حنيفة أنه لم يمت بالوقوع فلا يضمن ، وإنما مات لمعنى في نفسه وهو الجوع والغم ، وذلك غير مضاف إلى الحافر فلا يكون مسببا .

قال : ( والكفارة عتق رقبة مؤمنة ، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) لقوله - تعالى - : ( فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) ولا يجزئ فيها الطعام لأن الكفارات لا تعلم إلا نصا ولا نص فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية