صفحة جزء
[ ص: 547 ] باب المعاقل

وهي جمع معقلة وهي الدية ، والعاقلة الذين يؤدونها ، ويجب عليهم كل دية وجبت بنفس القتل ، فإن كان القاتل من أهل الديوان فهم عاقلته ، وتؤخذ من عطاياهم في ثلاث سنين ، وإن لم يكن من أهل الديوان فعاقلته قبيلته ، ولا يزاد الواحد على أربعة دراهم أو ثلاثة وينقص منها ، فإن لم تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسبا ، وإن كان ممن يتناصرون بالحرف فأهل حرفته ، وإن تناصروا بالحلف فأهله ، ويؤدي القاتل كأحدهم ، ولا عقل على الصبيان والنساء ، ولا على عبد ومدبر ومكاتب ، ولا يعقل كافر عن مسلم ولا بالعكس ، وإذا كان للذمي عاقلة فالدية عليهم ، وإن لم يكن له عاقلة فالدية في ماله في ثلاث سنين ، وعاقلة المعتق قبيلة مولاه ، وعاقلة مولى الموالاة مولاه وقبيلته ، وولد الملاعنة تعقل عنه عاقلة أمه ، فإن ادعاه الأب بعد ذلك رجع عاقلة الأم على عاقلة الأب ، وتتحمل العاقلة خمسين دينارا فصاعدا وما دونها في مال الجاني ، ولا تعقل العاقلة ما اعترف به الجاني إلا أن يصدقوه .

وإذا جنى الحر على العبد خطأ فعلى عاقلته .


باب المعاقل

( وهي جمع معقلة وهي الدية ) وسميت الدية عقلا لوجهين : أحدهما أنها تعقل الدماء من أن تراق ، والثاني أن الدية كانت إذا أخذت من الإبل تجمع فتعقل ثم تساق إلى ولي الجناية .

( والعاقلة الذين يؤدونها ) والأصل في وجوب الدية على العاقلة ما تقدم من حديث الجنين حيث قال - عليه الصلاة والسلام - لأولياء الضاربة : " قوموا فدوه " ، وروي : " أنه - عليه الصلاة والسلام - جعل على كل بطن من الأنصار عقولة " ، والمعقول أيضا يدل عليه ، وهو أن الخاطئ معذور ، وعذره لا يعدم حرمة النفس بل يمنع وجوب العقوبة عليه فأوجب الشرع الدية صيانة للنفس عن الإهدار ، ثم في إيجاب الكل عليه إجحاف واستئصال به فيكون عقوبة له ، فتضم العاقلة إليه دفعا للعقوبة عنه ، ولأن ذلك إنما يكون بظهر عشيرته وقوة يجدها في نفسه بكثرتهم وقوة أنصاره منهم ، فكانوا كالمشاركين له في القتل فضمنوا إليه لذلك كالردء والمعين لأنه يتحمل عنهم إذا قتلوا ويتحملون عنه إذا قتل فتكون من باب المعاونة كعادة الناس في التعارف ، بخلاف المتلفات لأنها لا تكثر قيمتها فلا يحتاج إلى التخفيف ، والدية مال كثير يجحف بالقاتل فاحتال إلى التخفيف .

قال : ( ويجب عليهم كل دية وجبت بنفس القتل ) كالخطأ وشبه العمد ، وهذا احتراز عما وجب بالصلح والاعتراف أو سقط القتل فيه بشبهة كالأب ، وإنما وجبت دية شبه العمد على العاقلة لحديث الجنين ، ألا ترى أنها تعمدت ضربها بالعمود فقضى - عليه الصلاة والسلام - بالدية على العاقلة ، ولأنه قتل أجري كالخطأ في باب الدية فكذلك في تحمل العاقلة . وقضى عمر - رضي الله عنه - بالدية في الخطأ على العاقلة بحضرة الصحابة من غير خلاف .

[ ص: 548 ] قال : ( فإن كان القاتل من أهل الديوان فهم عاقلته ) وهم الذين لهم رزق في بيت المال ، وفي زماننا هم أهل العسكر لكل راية ديوان على حدة ؛ وذلك لأن العرب كانوا يتناصرون بأسباب منها القرابة والولاء والحلف وغير ذلك ، وبقوا على ذلك إلى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء عمر ودون الدواوين صار التناصر بالدواوين ، فأهل كل ديوان ينصر بعضهم بعضا وإن كانوا من قبائل متفرقة .

وقد صح أن عمر - رضي الله عنه - فرض العقل على أهل الديوان وكان قبل ذلك على عشيرة الرجل في أموالهم ; لأنه أول من وضع الديوان فجعل العقل فيه ، وذلك بمحضر من الصحابة - رضي الله عنهم - فكان إجماعا منهم ، وهو على وفاق ما قضى به رسول الله - عليه الصلاة والسلام - معنى ؛ فإنهم علموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى به على العشيرة باعتبار النصرة ثم الوجوب بطريق الصلة ، فإيجابه فيما يصل إليهم صلة وهو العطاء أولى ، وأهل كل ديوان فيما يصل إليهم من ذلك كنفس واحدة .

قال : ( ويؤخذ من عطاياهم في ثلاث سنين ) لما تقدم من حديث عمر وهو مروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا وتعتبر الثلاث سنين من يوم القضاء لأن الدية تجب يوم القضاء ، وسواء خرجت في أقل أو أكثر لأنه إنما وجبت في العطاء تخفيفا ، فإذا حصلت في أي وقت حصل وجد المقصود فيؤخذ منه ، فإن تأخر خروج العطاء لم يطالبوا بشيء ، وإن تعجل الثلاث سنين أخذ منها الجميع لما ذكرنا ، وإذا وجب جميع الدية في ثلاث سنين كان كل ثلث في سنة فإذا وجب الثلث فما دونه كان في سنة ، وما زاد على الثلث إلى الثلثين في سنتين ، وما زاد إلى تمام الدية في السنة الثالثة ، وإن كانت العاقلة أصحاب الرزق أخذ من أرزاقهم في ثلاث سنين ، فإن خرجت أرزاقهم في كل سنة أخذ منها الثلث ، وإن خرجت في كل ستة أشهر أخذ منها السدس في كل شهر بحصته ، وعلى هذا فالحاصل أنه يؤخذ في كل سنة كيفما خرج ; لأن الأرزاق لهم كالأعطية لأهلها ، وإن كان لهم أرزاق في كل شهر وأعطية في كل سنة أخذ من أعطيتهم لأنه أسهل ، فإن الرزق يكون بقدر الكفاية لكل شهر أو لكل يوم فيشق عليهم الأخذ منه . أما العطاء يكون في كل سنة بقدر عنائه واختباره في الحروب لا بحاجته فكان الأخذ منه أسهل .

[ ص: 549 ] قال : ( وإن لم يكن من أهل الديوان فعاقلته قبيلته ) وهم عصبته من النسب لما روي " أنه - صلى الله عليه وسلم - أوجب الدية على عصبة القاتل " ، ولأن تناصرهم بالقرب .

قال : ( ولا يزاد الواحد على أربعة دراهم أو ثلاثة وينقص منها ) يؤخذ منه كل سنة درهم وثلث أو درهم لأن الأصل فيها التخفيف وتجب صلة ، فقدروه في كل سنة بالدرهم لأنه أقل المقدرات ، ويزاد ثلث درهم وهو المختار ليكون الأكثر من الأقل وما لم يبلغ النصف فهو في حكمه .

قال : ( فإن لم تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسبا ) تحرزا عن الإجحاف وتحقيقا لمعنى التخفيف فيضم إليهم الأقرب فالأقرب على ترتيب العصبات لأن التناصر يقع بذلك ، وكذلك أهل الديوان إذا لم يتسع الديوان للدية يضم إليهم أقرب الرايات إليهم نصرة إذا حزبهم أمر أو دهمهم عدو ، وهو مفوض إلى رأي الإمام إذ هو أعلم بذلك ، ومن لا عاقلة له في رواية تجب في بيت المال ; لأنه لو مات ولا وارث له ورثه بيت المال ، فإذا جنى يكون عليه ليكون الغنم بالغرم ، وفي رواية في مال الجاني لأن الأصل أن تجب عليه لأنه الجاني إلا أنا أوجبناه على العاقلة لما ذكرنا فإذا لم تكن عاقلة عاد إلى الأصل .

قال : ( وإن كان ممن يتناصرون بالحرف فأهل حرفته ) وإن تناصروا بالحلف فأهله .

لما بينا أن المعنى فيه هو التناصر ، ومن ليس له ديوان ولا عشيرة ، قيل يعتبر المحال والقرى والأقرب فالأقرب ، وقيل تجب في ماله ، وقيل إن كان القاتل مسلما تجب في بيت المال ; لأن الدية تجب باعتبار النصرة ، وجماعة المسلمين يتناصرون ويذب بعضهم عن بعض وعلى هذا الخلاف اللقيط . ولا تعقل مدينة عن مدينة ، وتعقل المدينة عن قراها لأن أهل المصر يتناصرون بديوانهم وأهل سوادهم وقراهم ، ولا يتناصرون بأهل ديوان مصر آخر ، والباديتان إذا اختلفتا كمصرين .

قال : ( ويؤدي القاتل كأحدهم ) لأنه إنما لم يجب عليه الكل مخافة الإجحاف ، ولا [ ص: 550 ] إجحاف في هذا ولأنه الجاني فلا أقل من أن يكون كأحدهم ولأنها تجب بالتناصر وهو أولى بنصرة نفسه .

قال : ( ولا عقل على الصبيان والنساء ) لقول عمر - رضي الله عنه - : لا يعقل مع العاقلة صبي ولا امرأة ولأنهما ليسا من أهل النصرة ، ولأن الدية تؤدى على طريق الصلة والتبرع والصبي ليس من أهلها .

( ولا على عبد ومدبر ومكاتب ) لأن العرب لا تستنصر بهم .

قال : ( ولا يعقل كافر عن مسلم ولا بالعكس ) لعدم التناصر ، والكفار يعقل بعضهم عن بعض ; لأن الكفر كله ملة واحدة إلا أن يكون بينهم معاداة وحراب فلا يتعاقلون لعدم التناصر .

قال : ( وإذا كان للذمي عاقلة فالدية عليهم ) كالمسلم لالتزامهم أحكامنا في المعاملات ولوجود التناصر بينهم .

( وإن لم يكن له عاقلة فالدية في ماله ) في ثلاث سنين .

كما قلنا في المسلم ، وهذا لأن الواجب عليه وإنما يتحول إلى العاقلة إذا وجدت فإذا لم يكن بقيت عليه .

قال : ( وعاقلة المعتق قبيلة مولاه ) قال - عليه الصلاة والسلام - : " مولى القوم منهم " ولأن نصرته بهم .

( وعاقلة مولى الموالاة مولاه وقبيلته ) لأن عقد الموالاة عقد يتناصرون به .

قال : ( وولد الملاعنة تعقل عنه عاقلة أمه ) لأن نسبته إليهم فينصرونه .

( فإن ادعاه الأب بعد ذلك رجع عاقلة الأم على عاقلة الأب ) لأنه ظهر أن الدية كانت [ ص: 551 ] واجبة على عاقلة الأب حيث أكذب نفسه وبطل اللعان وثبت نسبه منه ، فقوم الأم تحملوا مضطرين عن قوم الأب ما كان عليهم فيرجعون به عليهم في ثلاث سنين من حين قضي لعاقلة الأم على عاقلة الأب .

قال : ( وتتحمل العاقلة خمسين دينارا فصاعدا وما دونها في مال الجاني ) لما روينا أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى بالغرة على العاقلة وهي خمسون دينارا . وعن عمر مرفوعا وموقوفا : " لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا اعترافا ولا صلحا ولا ما دون أرش الموضحة " ، وعن ابن عباس مثله ، ولأن التحمل على العاقلة إنما كان تحرزا عن الإجحاف وهو في الكثير دون القليل . والقدر الفاصل بينهما ما ورد به الشرع وهو ما ذكرنا .

قال : ( ولا تعقل العاقلة ما اعترف به الجاني إلا أن يصدقوه ) لما روينا ، ولأنه لا يلزمهم إقراره عليهم ، إذ لا ولاية له عليهم ، فإذا صدقوه فقد رضوا به فيلزمهم . ولو تصادق القاتل وولي الجناية على أن قاضيا من قضاة المسلمين حكم على العاقلة بالدية وكذبتهما العاقلة فلا شيء عليهم ; لأن تصادقهما ليس بحجة عليهم ، وليس على القاتل شيء في ماله ; لأن الدية تقررت على العاقلة لتصادقهم وهو حجة في حقهما ، بخلاف الأول حيث تجب الدية في ماله باعترافه ، وتعذر إيجابها على العاقلة فتجب عليه .

قال : ( وإذا جنى الحر على العبد خطأ فعلى عاقلته ) لأنها بدل النفس فتكون على العاقلة كما في الحر . وروي عن أبي يوسف أنها في مال القاتل ، وحمل قوله - عليه الصلاة والسلام - : " ولا عبدا " فيما جنى عليه ، وجوابه أن المراد أنها لا تتحمل جناية العبد ; لأن المولى أقرب إليه منهم . وروي عنه أيضا أن قدر الدية على العاقلة لأنها ضمان النفس ، وما زاد في مال الجاني لأنه ضمان المال ، بناء على أن عنده تجب قيمته بالغة ما بلغت ، وقد تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية