صفحة جزء
الثالث : قال الطرطوشي : تجوز المفاوضة ، وهي أن يفوض كل واحد التصرف في البيع ، والشراء ، والضمان ، والكفالة ، والتوكيل ، والقراض ، وما فعله لزم الآخر إن كان عائدا إلى تجارتهما ، ولا يكونان شريكين إلا فيما يعقدان عليه الشركة من أموالهما دون ما ينفرد به كل واحد من ماله سواء اشتركا في كل ما يملكانه أو بعضه - كان رأس المال متفاضلا أم لا إذا كان الربح والعمل على قدر ذلك . وجوزها ( ح ) ، وخالفنا في أنها لا تصح إلا بالنقدين ، والفلوس الرائجة . ولابد أن يخرج عنده كل واحد جميع ما يملكه من ذلك ، ومنع تفاضل رأس المال . ولا تصح إلا من مسلمين حرين ، أو مكاتبين ، ولا تصح من حر ، ومكاتب ، ولا مسلم ، وكافر ، ولا صبي ، وبالغ . واشترط التساوي في الربح والخسران ، وفيما يحصل [ ص: 54 ] لأحدهما منفردا كأجرة خياطة ، ويلزمه ما يلزم الآخر من ضمان ، أو غصب ، أو سرقة ، أو عقد فاسد ، وفيما يشتريه الآخر بخالص ماله يشاركه الآخر فيه دون ما يرثه ، ويوهب له مما لا تصح فيه الشركة كالعروض ، والحيوان عنده . فخالفنا في هذه الأحكام . وقال ( ش ) : شركة المفاوضة فاسدة ، وإنما تجوز شركة العنان بأربعة شروط : الأول : استواء المالين في الجنس والصفة ، والثاني : خلطها ، والثالث : إذن كل واحد في التصرف ، والرابع : اتفاقهما على أن الربح والخسران على قدر المال .

ومنشأ الخلاف اشتمالهما على المفسد ، والمصحح ، فنحن غلبنا المصحح ، وهو غلب المفسد حتى قال : هي أشد من القمار ، ولا يبقى شيء فاسد إذا أجيزت .

لنا : قوله تعالى : ( أوفوا بالعقود ) وقوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم . وروي : إذا تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة ، وروي : تفاوضوا فإن المفاوضة أعظم اليمن ، وأعظم البركة ، وهو غير معروف الصحة . وبالقياس على شركة العنان ، ولأنها وكالة وكفالة ، فيصحان مجتمعين كما صحا منفردين . أو تقول الضمان يوجب ثبوت المال في الذمة فيثبت مع الشركة كالبيع ، ويؤكده أن الشركة منعقدة على الربح ، وهو غرر لا يدرى حصوله ، وضمان أحدهما وكفالته ليس بمعقود عليه ، فإذا لم يمنع الغرر في المعقود عليه - أولى ألا يمتنع في غير المعقود عليه الذي يأتي بالفرض . ولأن الربح يكون قبالة المال كشركة العنان ، وقبالة العمل كالقراض فيصح اجتماعهما في المفاوضة .

احتج بنهيه عن الغرر ، وهذا غرر ; لأن أحدهما ربما ضمن ما يأتي على المالين ، وبقوله " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط " وهذه ليست في كتاب الله ، أو لأنها تضمنت أخذ ربح مال انفرد به أحدهما فتمتنع كما إذا انفرد ؛ جمع المالين . أو نقول تضمنت أن لكل واحد ما استفاده الآخر ، فتبطل كما لو اشترط ما يرثه الآخر فهو له .

[ ص: 55 ] والجواب عن الأول : أن الغرر الغالب عليه عدم الحصول ، والغالب على الشركة السلامة ، وعن الثاني : أن هذه في كتاب الله تعالى لقوله تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) وقوله تعالى : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) وهذه تجارة ، وغنيمة ، وعن الثالث : منع الحكم في الأصل ثم الفرق حصول الرفق هاهنا ، وإنما يأخذ أحدهما ربحه ، له ملكه ، وحصول ربح الملك جائز بخلاف ربح بغير ملك ، وعن الرابع : أنه ينتقض بشركة العنان ثم الفرق برفق التعاون هاهنا بخلاف المقيس عليه .

واحتج ( ح ) بأن المفاوضة مأخوذة من المساواة لقول الشاعر :


لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا



فيستويان في جميع الوجوه . قلنا بجملة المساواة فيما يحصل الرفق ، ولا ضرورة إلى تكثير الغرر .

واعلم أن مذهبنا متوسط ، فالشافعي منع غررها جملة ، و ( ح ) جوزه جملة ، ونحن أجزنا ما تدعو إليه حاجة الارتفاق ، والغرر لا تكاد تعرى عنه البياعات ، فكيف الشركة التي خالفت الصرف ، والبيع في عدم المناجزة ، والتسليم لبقاء يد كل واحد على ما شارك به .

تفريع في الجواهر : إن كان العمل منهما جميعا ، ولا يستد به أحدهما سمي عنانا ، وإن كان أحدهما يجوز له الاستبداد في جميع التصرفات حضر الآخر أو غاب ، ويلزمه تصرفه في المفاوضة . قال في الكتاب : لا أعرف الشركة لعبدين من قول مالك ، ولا غيره من أهل الحجاز .

فائدة : اشتقاقهما . قال الطرطوشي : لأنهما يستويان في التصرف والأرباح كالفارسين إذا استويا في السير ، فإن عنانيهما يكونان سواء . وقيل : من عن الشيء [ ص: 56 ] إذا اعترض ، عنت لي حاجة إذا اعترضت ، ومنه عنان السماء - بفتح العين - جمع عنانة ، وهي السحابة المعترضة بين السماء . وكل واحد منهما عن له أن يشارك صاحبه ، أو لأنها شركة ظاهرة عن الشجر إذا ظهر . وليس في الشركات ما يثبت في أمر ظاهر إلا هي ; لأنها في مالين ظاهرين موجودين ، والمفاوضة تكون فيما لم يظهر . وكذلك الأبدان ، والوجوه ، أو لأن الفارس يمسك بأحد يديه عنان الفرس ، ويرسل الأخرى يتصرف فيها كيف شاء ، وهو هاهنا تنفيذ في مال الشركة ، ويتصرف في ماله كيف أحب ، وفي المفاوضة ليس لأحدهما الانفراد ، أو من المعاينة ، يقال : عاينت فلانا إذا عارضته بمثل ماله ، وهاهنا عارض أحدهما صاحبه بمثل ماله ، وهي لفظة عربية لقول الشاعر


وشاركنا قريشا في علاها     وفي أحسابها شرك العنان



والمفاوضة - قال صاحب التنبيهات : من التفويض لتفويض كل واحد الأموال لصاحبه كقوله تعالى : ( وأفوض أمري إلى الله ) وقيل : من التساوي كقوله تفاوضنا في الحديث .

وشركة العنان متفق على جوازها ، ولم يعرف مالك مرة اسمها ، أو تخصيصها بالجواز . ويقال : عنان - بكسر العين - وهو الأكثر لمن اشتقه من عنان الدابة ، وبالفتح إذا أخذ من عن لي الشيء إذا اعترض .

وفي الكتاب : إذا قامت البينة أنه مفاوضكما على الثلث ، أو الثلثين صح . ويتفاوضان ، لأحدهما عين ، أو عرض دون الآخر ، وإن قامت أنه مفاوضك ، فلا يختص أحدهما ، وجميع ما بأيديكما بينكما إلا ببينة تخصه ، وما ابتاع أحدكما بيعا صحيحا ، أو فاسدا لزم الآخر ، ويتبع البائع بالثمن أو القيمة أيكما شاء ، ولأحدكما قضاء ما يختص بالآخر من دين ، وللمأذون مفاوضة الحر .

قال اللخمي : إنما يكون جميع ما بأيديهما بينهما إذا أنكر المشهود عليه [ ص: 57 ] المفاوضة ، فلو أقر وقال : الثلث والثلثين اقتسما السدس نصفين على أصله إلا أن يكون قوم لا يتفاوضون إلا سواء . ولو قامت البينة على أن شريكه لم يفض بالشركة في جميع أملاكهما لصدق الاسم على بعض المال ، ولو أقر أني شريك فلان في القليل ، والكثير ، فكالمتفاوضين ، ولا يقبل إقرار أحدهما على الآخر بدين ، ولا وديعة . وإذا تقاررا بالشركة فما في أيديهما من التجارة بينهما دون مسكن ، وخادم ، وطعام . وإذا قال أحدهما هذا ليس من الشركة ، بل وراثة ، أو هبة ، أو بضاعة لرجل ، أو وديعة - صدق مع يمينه إلا أن تقوم بينة أنه اشتراه ، أو كان في يده يوم أقر .

فرع

في الكتاب : تجوز المفاوضة إما في جميع الأشياء ، أو في نوع كالرقيق أكره أن يخرجا مالا يتجران به ، وبالدين مفاوضة ، فإن فعلا ، فما اشترى كل واحد منهما بينهما ، وإن جاوز رأس ماليهما . ولو تفاوضا ، ولم يذكرا في العقد الدين ، فباع أحدهما به جاز على شريكه ; لأنه مما يعرض في المفاوضة . ولو تفاوضا بأموالهما في جميع التجارات ، وليس لأحدهما مال يخصه ، فاشترى أحدهما من مال الشركة جارية لنفسه ، وأشهد على ذلك خير شريكه في إجازتها ، وردها للشركة ; لأنه مقتضى العقد . قال ابن يونس : يريد : يخير ما لم يطأها بخلاف الغاصب ، والمتعدي في وديعة ابتاع بها سلعة لا يدفع إلا مثل الدنانير ; لأن الشريك مأذون له ، وليس له أن يختص بالربح ، بل هو كمبضع معه بشراء سلعة ، أو مفاوض ، أو وكيل يخير رب المال في الأخذ ; لأنهم مأذون لهم في عين ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية