صفحة جزء
[ ص: 107 ] الباب الثالث

في حكم المرتهن بعد القبض

قال في الكتاب : إذا ارتهن نصف ثوب ، فهلك الثوب عنده لم يضمن إلا نصفه كالمعطي لغريمه دينارا ليستوفي منه نصف دينار له عليه ، ويرد الباقي ، فزعم أنه ضاع ضمن النصف ، وهو أمين في الباقي ، ولا يحلف إلا أن يتهم .

فرع

قال : إذا استحق نصف الدار ، أو الدابة ، أو الثوب من يد المرتهن ، فباقيه رهن بجميع الحق لتناول عقد الرهن الرهن وأجزاءه كتناول الإيداع ، والغصب ، والعارية بالجملة ، والأجزاء . وإن أراد المستحق البيع باع الراهن والمرتهن معه ، ولا يسلم المرتهن الرهن لكن يباع وهو بيده ، فتصير حصة الراهن من الثمن رهنا بيد المرتهن بجميع الحق ، أو بيد من كان الرهن على يده . ولو ترك المستحق حصته بيد المرتهن ، وهو ثوب ثم ضاع لم يضمن المرتهن إلا نصف قيمته ; لأنه أمين للمستحق .

ولو وضع الراهن والمرتهن الرهن على يد المستحق ، أو غيره ، فضاع لم يضمن لخروجه من يده ، وبقي دينه بحاله . قال اللخمي : يراعى في استحقاق الرهن هل مضمون ، أو معين ؟ وهل المستحق قبل القبض ، أو بعده ؟ وهل غير المرتهن أم لا ؟ فغير المعين إذا أتى الراهن برهن ، ورضي المرتهن به فلم يقبضه حتى استحق أجبر الراهن على أن يأتي بغيره ، وإن استحق بعد القبض فعليه إخلافه عند سحنون كموته ، وقيل : لا ؛ كالبيع ، والأول أصوب ; لأن للمرتهن رهنا في الذمة ، والغرر في [ ص: 108 ] المضمون وغيره سواء . فإن كان معينا ، واستحق قبل القبض ، فقال ابن القاسم : يخير البائع في سلعته في إمضائها بغير رهن ، وردها إن كانت قائمة ، أو يأخذ قيمتها فائتة ، سواء أتى برهن آخر أم لا . وقال عبد الملك : إن تطوع برهن أجبر على قبوله ، وإلا خير على سلعته .

وعلى قول مالك لا مقال له في سلعته ، ولا قيمتها إن فاتت ، ولا رهن ولا غيره لقوله : إن تعدى الراهن ، فباع قبل القبض لا مقال للمرتهن ، وإذا سقط مقال في البيع ، فأولى في الاستحقاق . وإن استحق بعد القبض ، فلا مقال له إذا لم يغيره ، وإلا استوى قبل وبعد . واختلف في ذلك ، فقال ابن القاسم : لا يجبر الراهن على خلف ، وللمرتهن مقال في إمضاء سلعته ، وردها . وألزمه عبد المالك الخلف ، وخيره محمد ، فإن أخلف أجبر الآخر على القبول ، وإن لم يخلف عاد مقاله في سلعته ، وألزمه سحنون تعجيل الحق ، ورأى أن استحقاقه قبل القبض وبعده سواء ، والاستحقاق قبل القبض مخالف للموت ; لأن الموت طرأ بعد صحته ، والاستحقاق نقص له من أصله . ومتى غره خير بين إجباره على مثله ، أو يكون مقاله في سلعته كما تقدم . واختلف فيما يفيت السلعة ، فالمشهور حوالة الأسواق ، وقال محمد : لا يفيتها إلا العيوب المفسدة . ويلزمه إن باع سلعته بسلعة ، فاستحقت إحداهما أن لا يفيت الأخرى إلا العيوب ، وليس المرتهن أقوى من المشتري ، وقد تقدم بعض فروع الاستحقاق .

فرع

في الكتاب : ما وقع على يد عدل ، فضمانه من الراهن ، وما قبضه المرتهن مما لا يغاب عليه من ربع ، أو حيوان لا يضمنه المرتهن ، ويصدق في هلاكه ، وعطبه ، وإباقه ، أو حدوث عيب ، وما يغاب عليه يضمنه بالقبض إلا أن تقوم بينة على هلاكه من غير سببه بأمر من الله تعالى ، أو بتعدي أجنبي ، فذلك من الراهن . وله طلب المتعدي بالقيمة . ومتى أتى الراهن برهن ثقة أخذ القيمة ، وإلا جعلت القيمة رهنا .

في التنبيهات : قال ابن زمنين : يحلف فيما يغاب عليه لقد ضاع بغير دلسة دلسها فيه ، وما يعلم موضعه منذ ضاع . ووجه يمينه مع ضمانه ، فإن كان [ ص: 109 ] الغرم اليمين اتهامه على الرغبة فيه ، وعليه حمل بعض شيوخنا المدونة . وقال العتبي : لا يمين عليه ; لأنه يضمن ، فلا يجمع بين الغرم والحلف كالديون إلا أن يقول الراهن أخبرني صادق بكذبه ، وأنه عنده . وما يغاب عليه ، فقيل : يحلف على كل حال بخلاف المودع المختلف فيه ، وقيل : كالمودع تجري فيه الأقوال الثلاثة المعلومة ، وقيل : يحلف إن كان غير متهم ما فرطت ، ولا ضيعت ، ويزيد المتهم لقد ضاع . قال صاحب النكت : يحلف فيما يغاب عليه إذا لم يعلم إلا بقوله ، اتهم أم لا . وكذلك عارية ما لا يغاب عليه ، وبيع الخيار ، وضياع المشايد ( كذا ) ; لأن هذه الأشياء إنما أخذها لمنفعة نفسه بخلاف الوديعة المنفعة لغيره ، ولا يشكل عدم تحليف عامل القراض في دعوى الضياع إلا أن يكون متهما ، وإن قبض بمنفعة نفسه ; لأن منفعته غير متيقنة لتوقع عدم الربح ، ورأس المال الذي يرده منفعة له فيه .

قال ابن يونس : قوله عليه السلام : لا يغلق الرهن . قال مالك في الموطأ : معناه إن لم أقضك إلى الأجل ، فالرهن لك بما فيه . وفي الموازية : إن ضاع ما يغاب عليه ، ولم تعلم صفته ، ولا قيمته لا بقول الراهن ، ولا بقول المرتهن ، ولا غيرهما ، فلا طلب لأحدهما على الآخر ; لأنه قد يرهن في قيمته ، أو أقل ، أو أكثر ، فالعدل حمله على قيمته ; لأنه الوسط ، والقياس جعل قيمته من أدنى الرهون ; لأن الأصل براءة الذمة ، وقاله أشهب .

قال أصبغ : إن جهل المرتهن صفته ، ووصفه الراهن حلف ، فإن نكل بطل حقه ، وكان للراهن لما فيه . فلو شرط عدم ضمان ما يغاب عليه بطل لمنافاته لمقتضى العقد كما لو شرط الضمان في الوديعة ، وفي النكاح عدم الوطء ، وجوزهأشهب في العارية لقوله عليه السلام : المسلمون عند شروطهم . فإن شهدت البينة بهلاك ما يغاب عليه يضمن عند ابن القاسم لظهور البراءة ، ويضمن عند مالك ، وأشهب ، وكذلك العارية لقوله عليه السلام في سلاح صفوان : عارية مضمونة مؤداة ، أو لا بد من أدائها ، وإن شهد بهلاكها ، ولو شرط عدم ضمانه نفعه .

[ ص: 110 ] قاعدة : أسباب الضمان ثلاثة : الإتلاف كحرق الثوب ، والسبب للإتلاف كحفر البئر فيقع فيها ما يملك ، أو وضع اليد غير المؤمنة كيد الغاصب ، أو القابض المبيع الفاسد ، فتضمين الرهن اختلف في يمينه ، فقيل : وضع اليد ؛ لظاهر نص صفوان ، فلا يسقط الضمان بقيام البينة كالغاصب يقيم بينة ، وقيل : اتهامه في الإتلاف ، فتزول التهمة بالبينة . قال ابن يونس : قال ابن القاسم : وإنما يضمن قيمة ما ضاع وقت ضياعه لا وقت ارتهن ; لأن يده غير يد ضمان . قال اللخمي : يضمن كل ما يغاب عليه ، أو لا يستقل بنفسه .

وغير المضمون أربعة :

الأول : ما يغاب عليه ، ودخل على ألا يغيب عليه ، ويبقى في موضعه كثمار رءوس النخل ، والشجر ، والزرع القائم ، وما هو في الجرين ، والأندر لغيبة المرتهن عنه في الليل ، والنهار .

الثاني : ما يغاب عليه ، وهو مستقل بنفسه كالحيوان على اختلافه نحو الفرس ، والطير ، ويلزم على القول بضمان عارية الحيوان - ضمان الرهن . قال : وأرى ضمان ما يستخف ذبحه ، وأكله .

الثالث : ما يبان به ، ولا يغاب عليه كالسفن ترهن في ساحل البحر صغيرها ، وكبيرها ، وكذلك آلتها من الصاري ، والرجل ، والمري إذا دخل على بقائها في موضعها على الساحل ، أو غيره كالطعام في المخزن ، وكذلك أعدال الكتان في قاعات الفنادق ، فإن كان طعاما ، وزيتا مخزونا في دار الراهن ، ومفتاحه بيده ، أو طابعه عليه ، فهو في ضمان الراهن ، وكذلك إن كان في دار غيره ، أو في مخزن في الفندق لم يضمنه ، وإن كان مفتاحه بيده إلا أن يعلم أنه كان يتصرف إليه فينظر هل أخذ مثل ذلك ممكن في تكرره إليه أم لا ، وإن كان في مخزن المرتهن لم يصدق في ضياعه .

والرابع : ما لا يبان به ، وهو العقار على اختلاف أنواعه ، فإن فقد شيء من آلة الدار صدق في أنه لم يخن .

[ ص: 111 ] نظائر : قال اللخمي : واختلف في خمس مسائل : في سقوط الضمان ، وقيام البينة ، وشرط عدم الضمان ، أو اشترط الراهن الضمان فيما لا يغاب عليه ، فأسقطه ابن القاسم ، وضمان ما أصاب الرهن من سوس ، أو قرض فأر ، أو حرق نار ، فأسقطه مالك في سوس السجة . قال : ويحلف : ما أضعت ، ولا أردت فسادا ، وإن أغلفه ولم ينفضه ضمنه ابن القاسم ، وأرى أن عليه نفضه . قال : والقياس عدم الضمان ; لأن النفض لم يقتضه عقد الرهن إلا أن تكون عادة ، وأما الخشب ونحوه فضمانه من الراهن ; لأن سوسه لا من عدم التفقد .

تمهيد : قال ( ح ) : يضمن مطلقا مما يغاب أم لا ، قامت بينة أم لا ، هلك بيد المرتهن ، أو وضعوه على يد عدل ، ويضمن الأقل من قيمته ، أو الدين ، ونقض أصله بقوله : ولد المرهونة المتجدد بعد الرهن مرهون ، وهو غير مضمون ، وبقوله : الرهن في ضمان الدرك لا يضمن ، وبقوله : الرهن بأجرة النائحة غير مضمون ، وبقوله : لو رهن من غاصب لم يعلم له لم يضمن ، ونقض هذه النقوض بقوله : المقبوض على حكم الرهن الفاسد مضمون كما لو قبض رهنا بدين مجهول على أصله .

وقال ( ش ) : لا يضمن ما يخفى ، ولا ما لا يخفى ، قامت بينة أم لا ، في يد المرتهن أم لا ، وجعله أمانة مطلقا إلا في دعوى الرد . ومنشأ الخلاف بينهما أنه عند ( ش ) توثيق محض ، وعند ( ح ) توثيق وتعليق للدين بالرهن . ولما فرق أصحابنا بين ما يغاب عليه وغيره كان عسيرا لقياس الشافعية ما يغاب على غيره ، وقياس الحنفية على العكس ، فتعين الاستدلال .

ولنا على ( ش ) قوله عليه السلام : على اليد ما أخذت حتى ترده . وعلى ظاهره في اللزوم خص بما أجمعنا على عدم الضمان فيه فيبقى حجة في صورة [ ص: 112 ] النزاع . وقوله : حتى ترده أي إن وجد ، وإلا فالقيمة تقوم مقامه ، ولذلك سميت قيمة ، وإلا فالمضمون لا يرد إذ المردود غير مضمون مع أن هذا الحديث ضعفه الدارقطني ، ومعارض بقوله عليه السلام : الرهن من راهنه ، له غنمه ، وعليه غرمه . فيدل على عدم الضمان على المرتهن بقوله : من راهنه ، والمفهوم من ذلك أي من ضمانه ، وبقوله : عليه غرمه ، وهو عام في ذاته ، وأجزائه .

ويمكن الجواب بأن المراد بالغرم النفقة لكونه جعل قبالة الغلة إذ قبالة العدم الوجود ، وقبالة الغلة النفقة ، وهو ظاهر ; لأن الغرم لا يصدق على الهلاك . وكذلك قوله منه أي كلفته مأخوذة منه ، أو معناه : من ملك الراهن حذرا من قولهم إنه انتقل لملك المرتهن بالدين ، فنفى - عليه السلام - . ويفسره قوله - عليه السلام - : لا يغلق الرهن . ويظهر بمجموع الحديثين مذهبنا ، فنحمل أحدهما على ما يغاب عليه ، والآخر على ما لا يغاب عليه فيكون قولنا أولى . ويتأكد هذا الجمع بأن خلافه خلاف الإجماع فيتعين ; لأن كل من قال بالجمع قال به ، ولأن المقبوضات منها ما هو أمانة محضة ، وضابطه ما كان المنفعة فيه للمالك كالوديعة ، أو جل النفع له كالقراض ، ومنها ما هو مضمون لا أمانة فيه ، وضابطه ما كان النفع فيه للقابض كالقرض ، والمبيع ، أو تعديا كالغصب ، ومنها ما هو متردد بين القسمين كالرهن ، فنفع الراهن الصبر عليه لأجله ، ونفع المرتهن التوثق ، وشبه الضمان أقوى بوجوه : منها أن المرتهن أحق به ، وليس للراهن التصرف فيه ، ومنها أن تعلق الحق برقبته كالجاني ، ومنها حبسه للاستيفاء والبيع كالمبيع في يد البائع ، ومنها أنه لا يقبل قوله في رده كالغاصب بخلاف المودع ، ومنها لا يثبت إلا عن مال في [ ص: 113 ] الذمة كالمعاوضات ، ومنها أنه شرط في أصل البيع كالثمن ، فهذه ستة أوجه ، وشبه الأمانة نفع الراهن ، والصبر إلى الأجل ، وإباحته له بغير عوض .

وإذا تقرر هذا ، فنحن نجعل كونه مغيبا عليه مرجحا للضمان لكونه مظنة التهمة ، فهو مناسب ، ولاحظ القياس على الشهادة بجامع التوثق ، والقياس على الوديعة ، والشركة ، والمضاربة ، والوكالة ، فالقبض في هذه كلها لا يوجب ضمانا . وجوابه أن الشاهد لم يقبض شيئا يضمنه فافترقا ، وعن الثاني : الفرق بأن القبض هناك في تلك الصور لحق الدافع . واحتج ( ح ) بأن رجلا رهن فرسا له ، فنفق عند المرتهن ، فقال له النبي عليه السلام : ذهب حقك ، ولا يريد ذهب حقك من التوثق ; لأنه معلوم بالمشاهدة فيتعين الدين ، ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم . قال عمر - رضي الله عنه - : الرهن مضمون بأقل الأمرين ، وقال علي - رضي الله عنه - : يترادان الفضل بينهما ، وقال أنس - رضي الله عنه - : الرهن بما فيه ، ولأنه محبوس بحق ، فسقط الدين بتلفه كالمبيع في يد البائع ليقبض الثمن ، أو قياسا على موت الجاني بعد تعلق الجناية به ، ومقبوض يضمن فيه ما يغاب فيضمن غيره كالبيع .

والجواب عن الأول : منع الصحة ، فقد ضعفه المحدثون ، سلمنا الصحة لكن ذهب حقه من التوثق أي لا يجب الإتيان برهن آخر . وعن الثاني : أن قولهم معارض بقول غيرهم ، أو يحمل على ما يغاب عليه . وعن الثالث : أنه ينتقض بالعين المستأجرة ، فإنها محبوسة بحق مالكها ، ولا ضمان . وعن الرابع : نقضه بالكفيل ، فإن الحق تعلق به ، وموته لا يسقط الحق ، ثم الفرق أن الجاني تعلق الحق بعينه ، وفي الرهن بالذمة بدليل لو زادت الجناية على قيمة الرقبة لم يكن للمجني المطالبة بالفضل ، وعن الخامس : الفرق أن المبيع أخذه المشتري لمنفعة نفسه فقط ، والرهن فيه الشائبتان كما تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية