صفحة جزء
الوسيلة الرابعة : إزالة النجاسة ، والكلام في حقيقتها وحكمها ، والمستثنيات من أجناسها ، فهذه ثلاثة فصول . الفصل الأول : في حقيقتها ، ويتعلق الغرض بنفس الفعل ، وبماذا يكون ، وفي أي محل يكون ، فهذه ثلاثة أقسام .

القسم الأول : نفس الفعل .

وفي الجواهر : ولا بد من إذهاب عينها وأثرها ، فإن بقي الطعم ، فهي باقية ، وأما اللون ، والريح ، فإن كان زوالهما متيسرا أزيلا ، وإلا تركا كما يعفى عن الرائحة في الاستنجاء إذا عسر زوالها من اليد أو المحل .

فروع أربعة :

الأول : في الجواهر : إذا انفصلت الغسالة عن المحل متغيرة ، فهما نجسان ، وإلا فطاهران .

[ ص: 190 ] الثاني : لا يضر بقاء بعض الغسالة في المحل إذا كانت متغيرة ، ولا يشترط العصر .

الثالث : قال : إذا لم يتيقن محل النجاسة غسل الثوب ، أو الجسد كله لتحصيل يقين الطهارة .

الرابع : قال صاحب التلخيص : لا تشترط النية في إزالتها ، وقيل : تشترط .

قاعدة : التكاليف على قسمين : أوامر ، ونواه ، فالنواهي بجملتها يخرج الإنسان من عهدتها وإن لم ينوها ولا شعر بها نحو خروجنا عن عهدة شرب كل خمر لم نعلمه وقتل كل إنسان لم نعرفه ، ونحو ذلك .

والأوامر على قسمين : منها ما تكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحة بغير نية كرد المغصوب ، وأداء الديون ، والودائع ، ونفقات الزوجات ، والأقارب ، والرقيق ، والبهائم ، فإن الإنسان إذا فعل ذلك بغير نية خرج عن عهدتها لأن المصالح المقصودة منها الانتفاع بتلك الأعيان ، وقد حصلت ، فلا يضر فقد النية .

ومنها ما لا تكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحة كالصلاة ، والحج ، والصيام ، فإن المقصود منها تعظيم الرب تعالى ، وإجلاله ، والخضوع له بها ، وذلك إنما يحصل إذا قصد الله سبحانه وتعالى بها كمن عظم إنسانا بصنع طعام له ، فأكله غير من قصده ، فإن التعظيم للأول دون الثاني .

فمنشأ الخلاف في إزالة النجاسة : هل الله سبحانه وتعالى حرم على عباده المثول بين يديه ملابسين للنجاسات ، فتكون من باب المحرمات ، فيستغنى عن النية ، أو أوجب عليهم أن يتطهروا من الخبث كما يتطهرون من الحدث ، فتكون من باب المأمورات التي لا تكفي صورتها في تحصيل مصلحتها ، فتحتاج إلى النية .

[ ص: 191 ] تتمة : في الجواهر : إذا شك في إصابة النجاسة المحل نضحه لما في مسلم أنه عليه السلام أتي بحصير قد اسود من طول ما قد لبث ، فنضحه - صلى الله عليه وسلم - فصلى عليه .

فإن تحقق الإصابة ، وشك في النجاسة ، فقولان :

والفرق : أن الاستقذار سبب ، والإصابة شرط ، وتعلق الحكم بسببه أقوى من تعلقه بشرطه لأنه يلزم من وجود السبب وجود الحكم بخلاف الشرط ، فإن شك فيهما ، فلا ينضح لأن الأصل عدمها .

ثم هل يفتقر النضح إلى نية لكونه تعبدا لنشره النجاسة من غير إزالة ، فأشبه العبادات ، أو لا يفتقر لكونها طهارة نجاسة ؟

والنضح عام لما شك فيه إلا الجسد ، فيتعين غسله لقوله عليه السلام : إذا استيقظ أحدكم من نومه ، فليغسل يده ثلاثا ، فإنه لا يدري أين باتت يده منه .

فأمره بالغسل للشك ، وقيل ينضح طردا للعلة ، والقولان في المدونة لأنه أمر بغسل الأنثيين إن خشي أن يصيبهما مذي ، وهذا يقتضي استثناء الجسد من قاعدة النضح ، وقال أيضا فيها : النضح طهور لما شك فيه ، وهذا عام ، والأول هو الظاهر من كلام صاحب الطراز ، وصاحب النكت ، والقاضي في التنبيهات نقله عن العراقيين ، وهو الأظهر من كلام المدونة ، فإنه لما نص على خصوص الجسد أمر بالغسل ، وحيث عمم أدرجه مع غيره ، فيحتمل التخصيص .

وحكى ابن شعبان ، وجماعة القول الثاني ، وقال صاحب الجواهر : هو المشهور ، وفيه نظر لما ذكرته من قول المغاربة ، والعراقيين ، وظاهر المدونة .

فرع : في الجواهر مرتب على من أمر بالنضح فصلى بلا نضح قال ابن القاسم ، وسحنون : يعيد الصلاة لتركه فرضا ، وقال أشهب ، وابن نافع ، وعبد الملك : لا إعادة عليه ، وعلله القاضي أبو محمد بأن النضح مستحب على الخلاف ، في [ ص: 192 ] ذلك قال القاضي أبو بكر : النضح واجب ، ولما لم يكن مزيلا لمستقذر لم يكن شرطا في الصلاة بخلاف إزالة النجاسة ، وقال ابن حبيب : يعيد أبدا في العمد ، والجهل إلا أنه قد خفف فيمن احتلم في ثوبه ، فلم ينضح ما لم يره لخفة ذلك قال بعض المتأخرين : ولم يقل أحد من الأصحاب بالإعادة من النسيان .

نظائر خمسة : الأصل : أن الواجب لا يسقط مع النسيان ، وأسقطه مالك - رحمه الله - في خمسة مواضع : في النضح ، وغسل النجاسة ، والموالاة في الوضوء ، والترتيب في المنسيات ، والتسمية في الذكاة على القول بالوجوب في هذه الخمسة لضعف مدرك الوجوب بسبب تعارض المآخذ ، فقوي الإسقاط بعذر النسيان . القسم الثاني : بماذا يكون التطهير ، وهو إما إحالة : كالخمر يصير خلا ، أو إزالة كالغسل بالماء ، أو بهما كالدباغ .

فروع :

الأول : في الجواهر : لا يجوز التطهير بغير الماء لقوله تعالى : ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) . والطهور هو الذي يتطهر به كما سلف أول الكتاب ، فيكون ذلك نصا على سببيته ، والأصل عدم سببية غيره ، فإن قاس الحنفية غيره عليه بجامع المائعية منعنا صحة القياس في الأسباب ، وإذا سلمت صحته ، فرقنا باليسر ، والرقة ، واللطافة ، فإن قالوا : الخل ، وماء الليمون ألطف منه قلنا : لا نسلم بدليل أن الخبز لا يفرق أجزاءه الخل ولا الليمون بخلافه ، وأن الليمون إذا وضع في مواضع العرق سدها للزوجته ، ومنعها من الخروج بخلاف الماء . وإما إزالته لألوان المطبوع ، فذلك لإحالته اللون لا للطافته .

الثاني : إذا مسح السيف ، أو المدية الصقلين أجزأ عن الغسل لما في الغسل من إفسادهما ، وقيل لأنه لم يبق من النجاسة شيء ، ولو مسح البدن مسحا بليغا حتى تذهب النجاسة في الحس لم يطهر لبقاء بعض أجزائها غالبا ، وقيل يطهر .

[ ص: 193 ] الثالث : قال في الكتاب : يغسل مواضع المحاجم ، فإن مسح أعاد ما دام في الوقت قال القاضي أبو بكر : الصحيح أنه لا إعادة عليه ليسارة دم المحل .

الرابع : إذا مسح الدم من فمه بالريق حتى ذهب ، ففي افتقاره للغسل قولان قال القاضي أبو بكر : الصحيح تطهيره بالماء إن كان كثيرا ، وإلا عفي عنه ، ولا يطهر الريق شيئا .

القسم الثالث : في أي محل يكون التطهير .

والأعيان ثلاثة أقسام ، منها ما لا يقبل التطهير كلحم الميتة ، والدم ، والبول ، والعذرة ، ومنها ما يقبل التطهير كالجسد ، والثوب ، ومنها ما اختلف فيه ، وفيه صور ثلاث ، والثوب ، ومنها اختلف فيه ، وفيه صور ثلاث .

الأولى : جلد الميتة هل يطهر بالدباغ ، وقد تقدم .

الثانية : تطهير الخمر بوضع الملح فيها ونحوه حتى تصير خلا قال ابن رشد في المقدمات فيها ثلاثة أقوال : يجوز على كراهية ، أو يمنع ، والقولان لمالك - رحمه الله - ولسحنون : إن اقتناها امتنع ، وإن عمل عصيرا ، فصار خلا جاز .

الثالثة : الزيت النجس ، وفي الجواهر : روى ابن القاسم طهارته بالغسل ، وقيل لا يطهر لأن لزوجة الزيت تمنع إخراج الماء لنجاسته أما إذا كانت النجاسة لا تخرج مع الماء كميتة ، أو شحم خنزير ، فلا خلاف أنها لا تطهر .

وصورة الغسل أن يجعل في قربة ، أو جرة ، ويلقى عليه مثله ماء ، أو نحوه ، ويخضخض ، ثم يقلب فم الإناء إلى أسفل ، وهو مسدود ساعة ، فيصير الدهن إلى القعر ، ويبقى الماء عند الفم ، فيفتح ، فيخرج الماء ، ويمسك الدهن ، ثم يسكب عليه ماء آخر قال المازري : ثلاث مرات ، ونحوها .

التالي السابق


الخدمات العلمية