صفحة جزء
المظنة الثالثة : النوم : وليس حدثا في نفسه ، ونقل صاحب الطراز عن ابن القاسم قولا أنه حدث ، وإذا فرعنا على المذهب ، فهو يوجب الوضوء لكونه مظنة [ ص: 230 ] الريح لقوله عليه السلام : ( العينان وكاء السه ، فإذا نامت العينان انفتح الوكاء ) على أن أبا عمر قال في التمهيد : هذا حديث ضعيف لا يحتج به ، إلا أن معناه معلوم بالعادة ، وجرت عادة الفقهاء بذكره ، فذكرته .

والوكاء الخيط الذي يربط به الشيء ، والسه أصله العجز ، ويقولون رجل سته ، وامرأة ستهاء إذا كان الرجل ، أو المرأة كبيرة العجز ، ثم يستعمل مجازا في حلقة الدبر ، وهو المراد ها هنا ، وأصل اللفظة سته مثل قلم ، فحذفت التاء التي هي عين الكلمة ، فبقي سه ، ويروى بحذف لام الكلمة التي هي الهاء ، وإثبات العين التي هي التاء .

فشبه عليه السلام الإنسان بزق مفتوح لا يمنع خروج الريح منه إلا الحواس ، وذهابها بمنزلة ذهاب الخيط الذي يشد به الزق .

وقد اختلف الأصحاب في النوم الذي هو مظنة ، فضبطه اللخمي ، وغيره بالزمان ، وكيفية النوم ، فقال : طويل ثقيل ناقض بلا خلاف في المذهب ، وقصير خفيف غير ناقض على المعروف منه ، وخفيف طويل يستحب منه الوضوء ، وثقيل قصير فيه قولان .

وضبطه أبو محمد عبد الحميد بهيئة النائم ، فإن كان يتهيأ منه الخروج مع الطول نقض ؛ كالراقد ، وعكسه كالقائم والمحتبي لا ينقض ، وإن كان الطول فقط كالحالتين مستندا ، وعكسه كالراكع ، ففيهما قولان ، وهذا الضبط أشبه بروايات الكتاب ، ومقصود الجميع مظنة الخروج ، فإن كان بحيث لو خرج لم يشعر به انتقض ، وعكسه لا ينتقض ، وإن استوى الأمران ، فهو كالشاك في انتقاض وضوئه . وهذا الكلام على النوم من حيث الجملة ، فلنتكلم عليه من حيث التفصيل ، فنقول :

للنائم إحدى عشرة حالة :

الأولى : الساجد قال في المدونة : يجب منه الوضوء إذا استثقل خلافا [ ص: 231 ] ح لقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) الآية قال زيد بن أسلم : معناه قمتم من المضاجع ، فجعل النوم سببا ، واختار هذا التفسير مالك - رحمه الله - وجماعة من أصحابنا ; لأن الله تعالى لم يذكر النوم في نواقض الوضوء ، فوجب حمل هذا عليه .

وقال غيره : إذا أردتم القيام للصلاة محدثين على أي حالة كنتم ، ؛ لما في أبي داود ؛ لما قيل له عليه السلام : صليت ، وقد نمت ؟ فقال عليه السلام : ( تنام عيني ، ولا ينام قلبي ) فلو كان نوم القلب لا يؤثر في الوضوء لم يكن لهذا الكلام معنى . الثانية : الراكع إذا استثقل نوما وجب عليه الوضوء خلافا ح ؛ لما سبق .

الثالثة : المضطجع . قال صاحب الطراز : راعى مالك في المجموعة الاستثقال في الاضطجاع ، ولم يره القاضي في التلقين ها هنا ، ولا في السجود . الرابعة ، والخامسة : الراكب ، والجالس قال في الكتاب : إذا استثقل ، وطال أوجب الوضوء وإلا فلا ، قال : وبين العشائين طويل خلافا ش ، و ح . قال صاحب الطراز : قال ابن حبيب : لا وضوء على الراكب ، والراكع ، والجالس إن كان غير مستند ، ومراعاة الشافعية انضمام المخرج من الجالس في عدم الإيجاب ليس بشيء لأنه إذا ضعفت القوة الماسكة ، وانصب الريح إلى المخرج لم يمنعه الانضمام ، فإن الريح ألطف من الماء ، والماء لا ينضبط بسبب الضم ، فالريح أولى بذلك . السادسة : المحتبي ، قال في الكتاب : لا وضوء عليه لأنه لا يثبت لو استثقل بخلاف الجالس . قال صاحب الطراز : فرق مالك - رحمه الله - في العتبية بين من نام قاعدا ، وطال في انتظار الصلاة ، وبين من لا ينتظرها ، وقيل له وبما رأى الرؤيا قال : ذلك أحلام ; لأن منتظر الصلاة لا يمكن نفسه من كمال النوم بخلاف غيره ، وهو ضرورة تحصل للناس في انتظار الصلاة ، والحلم قد يكون [ ص: 232 ] حديث النفس ، ولأنه إنما يحصل مع خفة النوم ، ولذلك تكثر الرؤيا آخر الليل بعد أخذ النهمة من النوم .

فرع : قال صاحب الطراز : إذا سقط المحتبي قال ابن الصباغ من أصحاب الشافعي : إذا زالت أليتاه ، أو إحداهما قبل انتباهه انتقضت طهارته ، وإن انتبه لزوالهما لم تنتقض قال : وهذا حسن .

قال صاحب التنبيهات : المحتبي هو الجالس قائم الركبتين جامعا يديه على ركبتيه بالتشبيك ، والمسك .

السابعة : المستند ، قال القاضي في الإشراف : هو عند مالك - رحمه الله - كالجالس ; لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينتظرون الصلاة ، ولا يعرون عن النوم ، والاستناد قال ابن حبيب : هو كالمضطجع لأنه باستناده خرج عن هيئة الجلوس معتمد الأعضاء منحلها . قال صاحب الطراز : وهذا أحسن .

الثامنة : القائم .

التاسعة : الماشي .

العاشرة : المستند القائم : قال صاحب القبس : ما استثقل نوما في هذه الحالات ، فعليه الوضوء ، وإلا فلا .

الحادية عشرة : إذا استثفر ، وارتبط ، ثم نام قال الطرطوشي : الذي يأتي على المذهب أن لا وضوء عليه .

فائدة : الفرق بين السنة ، والغفوة ، والنوم أن الأبخرة متصاعدة على الدوام في الجسد إلى الدماغ ، فمتى صادفت منه فتورا ، أو إعياء استولت عليه ، وهو معدن الحس ، والحركة فيحصل فيه فتور ، وهو السنة ، فإن عم الاستيلاء حاسة البصر ، فهو غفوة ، وإن عم جميع الجسد ، فهو نوم مستثقل .

والأولان لا وضوء فيهما ؛ لما في مسلم كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينامون ، ثم يصلون ، ولا يتوضئون ، ومنه أيضا اعتم النبي عليه السلام ذات ليلة بالعشاء حتى [ ص: 233 ] رقد الناس ، واستيقظوا ، ورقدوا ، واستيقظوا ، فقام عمر رضي الله عنه ، وقال : الصلاة ، والأحاديث الصحيحة في هذا كثيرة ، وقال أبو حنيفة - رحمه الله - : من نام على هيئة من هيئات الصلاة اختيارا مثل الراكع ، والقائم ، والساجد ، والجالس فلا وضوء عليه ، وإنما الوضوء على المضطجع ، والمائل ، والمستند محتجا بما يروى في الترمذي ، وأبي داود عنه عليه السلام أنه نام ، وهو ساجد حتى غط ، ونفخ ، ثم قام يصلي قال ابن عباس : فقلت يا رسول الله : إنك قد نمت ، فقال : إن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعا ، فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله . وضعفه أبو داود ، وأنكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية