صفحة جزء
[ ص: 295 ] الباب الثالث

في تعقب الإقرار بما يرفعه

وهو ينقسم إلى استثنائه فإن [ . . . ] قسمان : مجهول ومعلوم ، فهذه ثلاثة أبحاث .

البحث الأول

في الاستثناء المعلوم ، وفيه خمس مسائل .

الأولى في الجواهر : يصح استثناء الأكثر نحو عشرة إلا تسعة ، فيلزمه درهم ، وقاله ( ش ) و ( ح ) ، وقال عبد الملك : لا يصح ، وقاله ابن حنبل وألزم أصل الكلام ، قال صاحب الجواهر : والأول المشهور ، والقاضي في المعونة وغيره ، وقال القاضي بن مغيث في وثائقه : لا يصح استثناء الأكثر ويلزم جميع العشرة ، وقال : هذا مذهب مالك وأصحابه ، وفي المدخل لابن طلحة : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ، في لزوم الثلاث له قولان ، بناء على أنه استثنى أو أنه لزم ، ومقتضاه جواز استثناء الكل من الكل ، مع أن العلماء حكوا في استثناء الأقل ، والمستغرق : الإجماع ، وحكوا في المساوي والجمع قولين ، وحكى الشلوبين وغيره من النحاة : الخلاف في جواز الاستثناء من أسماء الأعداد بناء على أن الاستثناء في لفظ العشرة مثلا في الثمانية إذا استثني اثنان ، وأسماء الأعداد نصوص لا تقبل المجاز ، ويقال : الاستثناء مع المستثنى منه لفظ واحد ، وضع لما بقي ، فللثمانية في لسان العرب عبارتان ، ثمانية وعشرة إلا اثنان ، فلا مجاز ، وفي الكتاب العزيز : ( فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين ) . وفي السنة : إن لله [ ص: 296 ] تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة . فهذه استثناءات في الأعداد ، لنا على جواز استثناء الأكثر قوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) . ومعلوم أن الغاوين أكثر ، وقوله تعالى : ( لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) . فمجموع الاثنين يبطل القول بمنع المساوي ، وحصر الجواز في الأقل ; لأن أحد الفريقين إن كان أقل من الآخر أكثر ، وقد استثني في الآية الأخرى ، وهذا الاستثناء اغتبط به جماعة من الفضلاء ، وهو لا يتم ; لأن المانع من استثناء المساوي ، والأكثر إنما مع ( كذا ) كون المتكلم مقدما في كلامه على حسن كثير ( كذا ) هو عالم حال التكلم ، فإن المستثنى إذا قال : له عندي مائة إلا تسعة وتسعين ، وهو يعلم أن أكثر كلامه هدر ، فإقدامه على ذلك قبيح ، فالآية ليست من هذا الباب ، فإن عند صدور هذا الخطاب لإبليس [ . . . ] لا يتعين الغاوي من المخلص فلا لمس [ . . . ] الكلام بالهدر ، بخلاف صورة النزاع ، ولذلك اتفقوا على جواز التقييد بالشرط ، وإن أبطل جملة الكلام كونه غير متعين حالة التعليق ، نحو أكرم بني تميم إن جاءوك ، يجوز أن لا يجيئه أحد فيبطل جميع كلامه عند عدم الشرط ، وما ذاك إلا لعدم التعيين ، فاعلم هذا الموضع فهو حسن .

ولنا قوله تعالى : ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا ) . فقد استثنى الثلثين ، وبالقياس على التخصيص فإنه يجوز في الأكثر إجماعا ; لأن الاستثناء مأخوذ من الشيء ، وهو الرجوع وهو مشترك بين القليل والكثير .

احتجوا بأن كلام العرب مبني على الاختصار ، وليس منه ما ذكرتموه ، [ ص: 297 ] بل هو حشو ، ولأنه على خلاف الأصل لكونه ببطل ما تقرر ، وأكثر الشيء في معنى جملته ، كما يقال للثور الأسود الذي فيه شعرات بيض أسود ، لكون القليل مغتفرا أما بصفة أبيض فلا ، ولأن دار [ . . . ] عن اللغة مع ذلك فلا يجوز .

والجواب عن الأول أن العرب أيضا قد تطنب وتطول وتكرر وتقيم الظاهر مقام المضمر لمقاصد تقتضي ذلك من التفخيم والتعظيم وتقريب المعنى في [ . . . ] إلى غير ذلك من المقاصد ، وكذلك هذا فيه مع ما ذكر استدراك الغلط العظيم الذي قد يسهو الإنسان عنه .

عن الثاني أن الأصل قد يخالف لما ذكرناه من المقاصد أيضا ، فإنه ضرورة مناسبة لمخالفة الأصل .

عن الثالث أنه معارض بنقل أكثر منه عن أئمة اللغة .

تفريع : في الجواهر : على المشهور إذا قال : له علي عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنان إلا واحد لزمه خمسة بناء على أن الاستثناء من النفي إثبات ، والإثبات نفي ، وأن الاستثناء الثاني يعود على الأول وعلى أصل الكلام ، فتكون التسعة منفية والثمانية موجبة والسبعة منفية ، فيؤول الأمر إلى خمسة أجزاء الأمر ، وعلى غير المشهور له عشرة إلا سبعة إلا خمسة إلا درهمين ، قال الحنابلة : يلزمه سبعة ; لأنه أخرج سبعة ورد منها خمسة إلا اثنين ، وذلك ثلاثة من سبعة فبقي منها أربعة ، وهو أقل العشرة فيلزمه تسعة ، فلم يسقطوا إلا إذا اتصل به ما يصيره أقل ، وإن قال : ثمانية إلا أربعة إلا درهمين إلا درهما لزمه خمسة ، وإن قال : له عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة إلا درهمين إلا درهما بطل الاستثناء كله على القول بمنع استثناء النصف ، وصح على الآخر ولزمه سبعة ، وعلى هذا التفريع تجري الاستثناءات على الخلاف .

الثانية في الجواهر : الاستثناء من غير الجنس جائز ، نحو : علي ألف درهم [ ص: 298 ] وإلا ثوبا أو عبدا إلا دابة ، وعند ( ش ) يجوز استثناء ما كان مكيلا أو موزونا أو معدودا فيجوز استثناء الحنطة من الدنانير ، والجوز من الرمان ، ونحوه مما يعد ، وقال محمد وابن يوسف : يصح من غير الجنس فيما يدخل تحت الذمة نحو ألف دينار إلا فلسا وإلا كر حنطة ، وإن كان مما يدخل تحت الذمة من غير المكيل والموزون نحو : إلا ثوبا أو إلا شاة فهو باطل ، ومنع ابن حنبل الجميع ، لنا قوله تعالى : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس ) . وهو من الجن لقوله تعالى في الآية الأخرى : ( كان من الجن ) وقوله تعالى : ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ) . والسلام ليس من اللغو ، وقوله تعالى : ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة ) . قال العلماء : هو [ . . . ] تقديره إلا أن تكون تجارة فكلوها بالسبب الحق ، وبالقياس على المكيل والموزون .

احتجوا بالقياس على ما إذا ما قال : بعتك بألف درهم إلا ثوبا ، وأن الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ، وهذا لا يدخل فلا يكن استثناء ، ولأنه من غير الجنس فلا يجوز كالتخصيص .

والجواب عن الأول : الفرق بأن البيع يحل به الغرر بخلاف الإقرار يجوز بالمجهول ، وإخراج ثوب من دينار يقتضي جهالة الثمن .

عن الثاني : أن الحد يقبل المعارضة بل عندنا أربعة أقسام ما لولاه لوجب دخوله ، نحو له عشرة إلا اثنين لكونه نصا ، وما لولاه الظن دخوله ، نحو : أقتل المشركين إلا زيدا لكونه ظاهرا ، وما لولاه لجاز دخوله من غير ظن ، نحو : صل إلا في المواطن السبعة فإنه لا يظن إرادتها من سماع الأمر ، وما لولاه لقطع [ ص: 299 ] بعد دخوله وهو المنقطع ، فالحد العام عندنا هو إخراج ما تناوله اللفظ له قبله أو عرض نفس المتكلم .

عن الثالث أننا لا نسلم أنه يمتنع التخصيص بخبر الجنس إذا أفضى الطرفان في العموم ; لأن [ . . . ] عندنا يعود بالبيان على اللفظ على ما سيأتي .

تفريع في الجواهر : قيل : الاستثناء من غير الجنس باطل ، ويلزمه ما أقر به كاملا ، وإذا فرعنا على المشهور ، يقال له : اذكر قيمة العبد الذي استكتبته ويكون مقرا بما بقي بعد قيمة العبد ، فإن استغرقت الألف لزمه الألف ، وبطل الاستثناء كالاستثناء إن استثنى الكل بطل ، وإلا صح ، وقاله الشافعية غير أنهم زادوا في التفريع ما يناسبه ، فقالوا : ينبغي أن تكون القيمة مناسبة للثوب لئلا يعد نادما ، قالوا : وهذا إذا استثنى مجهولا من معلوم ، فإن قيمة الثوب مجهولة وألف دينار معلوم ، وعكسه : له ألف إلا درهما بتفسير الألف ، ويعود الحكم إلى الاستغراق فلا يقبل ، وإلا قبل ، وإن استثنى مجهولا من مجهول نحو مائة إلا عشرة ، أو إلا ثوبا فعلى ما تقدم .

فرع

قال القاضي بن مغيث في وثائقه : قال ابن السراج : إذا قال له عندي مائة درهم إلا درهمين لزمه ثمانية وتسعون دينارا ( كذا ) ، وإلا درهما تلزمه المائة تامة ; لأن الرفع يقتضي أن إلا بمعنى غير على البدل ، فقد اعترف بمائة مغايرة لدرهمين فتلزمه ، نظيره قوله تعالى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) . أي غير الله .

الثالثة في الجواهر : يجوز الاستثناء من العين غير العدد ، نحو : له هذه الدار إلا ذلك البيت ، والخاتم إلا الفص ، وهؤلاء العبيد إلا واحدا ، ثم يعينه ، [ ص: 300 ] وله هذه الدار وبناؤها لي أو لفلان ، وهذا البستان إلا نخلة ، فإنها لي ، قال أشهب : إذا قال : غصبت هذه الدار ، وبناؤها لي ، أو بيته منها أو هذه البطانة ، ولي بطانتها إذا اتصل كلامه ; لأن الكلام بآخره ، والأصل براءة الذمة .

الرابعة قال الشافعية : إذا تقف ( كذا ) الاستثناء جملة منطوق به فهو كقوله علي عشرة إلا عشرة وقيل : عندهم يصح كما لو قال : علي درهمان إلا درهما ، وقاله المالكية في أنت طالق واحدة واحدة واحدة إلا واحدة تلزمه اثنتان ، وخالف ( ش ) في الطلاق وهو الأصل ، فإن أمكن العود إلى الجميع نحو له هذا الذهب وهذا الدينار وهذا التبر إلا مثقالا فالمنقول عن مالك و ( ش ) عوده إلى الجميع ; لأن الكلام بآخره ، وآخر الكلام إنما يتعين بالسكوت ، ولم يسكت عقيب شيء من الجمل ، وقال ( ح ) : يختص بالجملة الأخيرة ; لأن القرب يوجب الرجحان .

الخامسة قالوا : إذا تكررت استثناءات بحرف العطف تعين عودها على أصل الكلام ; لأن العرب لا تجمع بين إلا وحرف العطف ; لأن إلا للإخراج والعطف بالواو للتشريك فهما متناقضان ، نحو : له عندي عشرة إلا ثلاثة وإلا اثنين ، فإن استغرق الأصل سقط استثناؤه ولزمته العشرة ; لأنه أبطل جميع كلامه ، وقاله ( ح ) ، وقال صاحباه : يسقط الأخير لا لمقتضى الاستغراق ، ويصح ما عداه ; لأن الأصل اعتبار الكلام بحسب الإمكان .

التالي السابق


الخدمات العلمية