صفحة جزء
احتجوا بالقياس على ما إذا أقر بمعروف النسب ، وإذا كذبه المقر له أو كان أبوه نفاه باللعان ، والجامع إلى الأصل المقصود لم يثبت ، فلا يثبت فرعه الذي هو الإرث ، وكذا لو قال : تزوجت هذه ، وكذبته ، لم يثبت الصداق ، والمقصود [ . . . ] هو النسب ، بخلاف الصور المتقدمة ; لأنه لو استلحق ابنا فقد أثبت .

[ ص: 311 ] نفسه عليه النفقة والميراث وكثيرا من الحقوق مع أن الإقرار لا يوجب حقا للمقر بذلك ، على أن ما عدا النسب غير المعتبر البينة بل لا يقع إلا فيها ، أو يقول : أقر بحق ، فإنه حق لا ينفك أحدهما عن الآخر ، فإذا لم يثبت أحدهما لا يثبت الآخر ، فأما إذا قال : بعتك هذه السلعة بألف ، وأنكر المشتري ، فإذا لم يثبت الثمن لا يجب عليه تسليم السلعة .

والجواب عن الأول أن تلك الصورة لم يثبت النسب فيها على الإطلاق لقيام المعارض ، وهاهنا لا معارض ، ولأنه هاهنا فرضه قيام البينة ، ويرق بالإقرار كسائر الأموال ، وقيل : لا يرق لوجود مبطلها ، وأما قولهم إن النسب هو العمارة ، ( كذا ) وما عدا المبتع ( كذا ) فلا يلزم من ضعف أحد الأمرين [ . . . ] بالإقرار ; لأن أسباب إثبات الحقوق والبينات سوى الشرع فيها بين عظيم الحقوق وحقيرها ، فهذا الفرق ملغى بالإجماع .

عن الثاني أن أحد هذين قد ينفك عن الآخر ، فإن أحد الأخوين قد يرث الآخر من غير عكس لأجل قتل أو رق ، فقد انفك النسب عن الإرث ، وسقط الإرث عن السبب في الزوج والمولى ، قال الطرطوشي : فإذا ترك ابنا واحدا لا وارث له غيره فأقر بأخ لم يثبت نسبه ولا يثبت إلا بقول وارثين عدلين ، فإن كان جميع الورثة غير عدول لم يثبت بإقرارهم ، ووافقنا ( ح ) فإنه لا يثبت بالوارث الواحد ، وإن حاز جميع المال ، وقال : يثبت بوارثين غير معدلين ، وبرجلين وامرأتين ، وقال ( ش ) وابن حنبل : يثبت النسب والميراث للوارث الواحد إذا حاز جميع المال ذكرا كان أو أنثى ، وإن كانوا جماعة لا يثبت إلا بإقرار جميعهم ، ولا يعتبر الأئمة العدالة ، وأصل المسالة أن هذا القول شهادة فتشترط العدالة ، أو إقرار فلا تعتبر العدالة ، كما أنه إثبات نسبه على الغير فتشترط العدالة كالأجنبي ; لأن هذا القول يثبت الحقوق بين الأب والمقر له من النفقة [ . . . ] وسقوط العود في بعض الصور ، أو يقول : إنما يثبت النسب [ ص: 312 ] بمجرد الإقرار ممن يملك نفقته كالأب ، والوارث لا يملك بقيته ، فلا يثبت بإقرار ، أو رجل يملك استلحاق النسب فلا يثبت بإقراره كالأجنبي ، ولأن قبول شهادتهم على خلاف القياس ، لأنها شهادة لهم فيها حظ ، وإنما قبلت استحسانا ، فالإقرار أولى أن لا يقبل .

احتجوا بما في الصحاح أن سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ابن وليدة زمعة ، فقال سعد : هو ابن أخي عتبة ، عهد إلي إذا دخل مكة أن آخذ ولده منها ، وأنه ألم بها في الجاهلية ، وقال عبد بن زمعة : بل أخي وابن وليدة أبي ، ولد على فراشه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش ، وللعاهر الحجر . فقضى بقول عبد [ . . . ] أن الوارث يقوم مقام الموروث في ديونه ودعاويه وماله ، وعليه فكذلك للنسب ، ولأن ما ثبت بإقرار الاثنين ثبت بالواحد كالميراث والوصية والدين ، أو هو إقرار يثبت به الإرث ، فيثبت به النسب كإقرار الجد بابن ابنه .

والجواب عن الحديث من وجوه :

الأول أنه يحتمل أنه ألحقه به خاصة ، وليس في اللفظ عموم يبطل هذا الاحتمال ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لسودة : احتجبي منه فإنه ليس بأخ لك . وهو ظاهر في عدم إثبات النسب ; لأنه لو أثبته لكان أخا لعبد ، فيكون أخا لسودة .

الثاني أنه قضى له بالملك ; لأن قوله لك ظاهر في الملك ، وقد روي : هو لك عبد . فصرح بالملك ، ولذلك قال لسودة : احتجبي منه .

الثالث أنه متروك الظاهر ; لأنه أثبته بقول واحد ، وعندكم لا يثبت إلا بإقرار جميع الورثة ، وسودة من جملة الورثة ولم يعتبر إقرارها .

الرابع إنما أثبت النسب بالفراش [ . . . ] عبد ، وقد كان يثبت أنها فراشه بإقرار زمعة أنها فراشه ، فيثبت الفراش بقوله والنسب ضمنا ، كما لا يثبت النسب [ ص: 313 ] بشهادة النساء ، وتثبت الولادة بمشاهدتهن ويثبت النسب ضمنا ، والمكاتب يقيم شاهدا واحدا على أداء نجومه ويحلف معه فيصير حرا ، والحرية لا تثبت بالشاهد واليمين ، فإن قيل : كيف يقضي بالملك وعبد بن زمعة ادعى النسب وأقر بالحرية ، وقال صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش . والفراش سبب النساء لا سبب الرق [ . . . ] مترددة بين الاختصاص والملك ، أو هو أخ لك دون غيره فلا يتعين ، وأما قوله في تلك الرواية : هو لك عبد . فعلى حذف حرف النداء ، أي يا عبد ، وقوله احتجبي منه يا سودة . على سبيل الاحتياط لأجل ما رأى من الشبه ، فإن الحكم يتبع السبب لا الدعاوى ، وقوله : الولد للفراش [ . . . ] منه بالإجماع وثبوت حكم الفتيا يتوقف على ثبوت سببها ، فلم قلتم إن سببها . وحذف الأم ( كذا ) ظاهرة في الملك فيتعين ، لا سيما مع ما ذكرناه من القرائن ، وأما حذف حرف النداء فالأصل عدم الحذف ، فيتعين ما ذكرناه ، والحجب للاحتياط لا يستقيم ; لأن السبب إن ثبت فلا احتياط أو لا فتتعين الحجبة وعدم إلحاقها .

والجواب عن الثاني أن الوارث لو قام مورثه لكان له نفيه أو استلحاقه بعد نفي أبيه له ، وليس فليس ، ولأن الموروث يعترف على نفسه والوارث على غيره ، والاعتراف على الغير غير مقبول .

عن الثالث أنه يبطل بما إذا أنكر بعضهم ، وبالنصاب في الشهادات يثبت بأكثر من الواحد دون واحد .

عن الرابع أن أشهب قال : يستلحق الأب والجد ، وعن مالك لا يستلحق الجد فيمنع على هذا القياس ، ثم الفرق أن الجد يستلحق بنفسه وهاهنا بغيره ، فافترقا .

التاسع قال ابن يونس : إذا قال في صبي إنه ابنه فجمهور المدنيين لا يثبت النسب والاستلحاق إلا أن تكون أم الصبي كانت في ملكه بنكاح أو ملك ، فيكون أصل الحمل في ملكه ، وولد في يديه ، أو بعد خروج الأم من يديه [ ص: 314 ] بما يخرج به مثلها إلى ما يلحق به الأنساب ، وهو خمس سنين بدونه ، أو لم يكن للولد نسب معلوم ، فإن فقد من هذه شرط لم يقبل قوله ، هذا قول الجماعة وأحد قولي ابن القاسم ، ثم رجع إلى قبول قوله ، وإن لم يقبل للأم خبر إذا صدقه الولد ، أو هو صغير في حوزه لا يعرف عن نفسه إلا أن يتبين كذبه ; لأن الظاهر صدقه ، وحمل تصرف المسلمين على وجوه صحته ، وكذبه إما بأنه لا يولد ذلك لمثله ، أو له نسب معروف ، أو الولد محمول من أرض العدو أو بلد يعلم أن الأب لم يدخلها قط ، وتشهد البينة أن أمه لم تزل زوجة فلان غير هذا ، فإن شهدت أنها لم تزل أمة فلان حتى ماتت لا يمنع لاحتمال زواجها أمة ، وإذا أقر بأب وصدقه الأب فهو الفرع المقدم ; لأن بتصديق الأب صار مستلحقا له .

العاشر قال : إذا أقرت بزوج أو أقر بزوجة وصدقه الآخر صاحبه ، وهما غريبان طارئان قبل قولهما المدنيون ، ولم يكلفا بينة على عقد النكاح سدا لذريعة إباحة الإبضاع بغير سبب شرعي ، وإن أقر الرجل أو المعتق بمعتق أعتقه بثلث وهو الوارث إلا أن يتبين كذبه بأن يعرف ولاؤه لغيره ، أو هو معروف بأصالة الحرية ، ومن أقر بولد ، أو أب أو زوج أو مولى أو رجل بزوجته ، وله وارث معروف ، ذو سهم أو عصبة ، ورث المعروف مع المقر به كما لو ثبت بالسنة .

الحادي عشر قال : لا يصح عند جميع الناس استلحاق أخ أو ابن أخ أو ابن أب أو جد أو عم أو ابن عم ; لأنه استلحاق بفراش الغير ، ألا ترى أن المرأة لما لم يكن لها فراش ; لأن الفراش لزوجها لم يكن لها استلحاق الولد بخلاف الزوج والمولى والأب والزوجة ، فهؤلاء الأربعة هم الذين يجوز الإقرار لهم كما تقدم ، وحيث لا يثبت فمات المقر أو المقر به ، والميت وارث يحيط بالمال ، فلا شيء للمقر اتفاقا ، وإن فضل شيء عن المعروف فلبيت المال عند المدنيين ، ونقل عن ابن القاسم أن ما فضل للمقر إذا كان عصبة فإن لم يكن له وارث معروف فالمال لبيت مال المسلمين إلا ما نقل عن ابن القاسم ، وقال سحنون [ ص: 315 ] وأصبغ : إذا لم يكن له وارث ورثه المقر ولا يثبت نسب ، فإن أقام بعد ذلك آخر البينة أنه وارث أخذه من المقر ، وعن سحنون نحو الأول .

الثاني عشر ، قال : إذا ترك ابنا فأقر بأخ له يعطيه نصف جميع المال اتفاقا ، فإن أقر بعد ذلك بأخ آخر قال سحنون : ذلك كولدين ثابتي النسب يقر أحدهما بأخ ثالث لهم يدفع له ثلث ما في يديه ، وكذلك إذا أقر برابع أو خامس يدفع له الذي يستقبل بعد إقراره وعيتك ( كذا ) ما زعم أن له ، قال سحنون : وهو معنى قول ابن مغيرة ; لأن السابق بالإقرار صار كالمتصل بالبينة ، وقال أشهب : لا ينظر في هذا إلى ما يجب للمقر ، بل إلى ما يجب للمقر به ; لأن جميع المال كان في يد المقر ، وكان قادرا على أن يقر له به جميعا ، ولا يتلف على المقر به ثانيا شيء مما يجب ، فإذا أقر ثالثا فقد أقر أن الذي يجب للثالث ثلث جميع المال ، فيدفع ذلك إليه ، ويبقى في يده السدس ، فإن أقر برابع أعطاه من عنده ربع جميع المال ، فيعطيه السدس الذي بيده ، ويغرم له من ماله تمام ربع جميع المال ، وهو أضعف سدس ، وكذلك إن أقر بخامس غرم له من ماله مثل خمس جميع المال ، ثم على هذا سواء كان غرم الأول ما يجب له قبل إقراره بالثاني إن لم يغرم شيئا غرم للأول نقص أم لا ، أقر بالأول عاما بالثاني أم لا ; لأن جميع المال كان في يده فقد أتلف على المقر به الآخر حقه عمدا أو خطا ، وهما موجبان للضمان ، فإن أقر بثالث وأنكر الأول والثاني فعلى مذهب سحنون يقاسم الثالث ما بقي في يده نصفين ، وعلى مذهب أشهب يدفع للثالث مثل نصف جميع المال .

الثالث عشر قال : إذا أقر بأخ له فقال المقر به : صدق ولكني الوارث وحدي ، يصدق المقر عند أهل العراق ، ويعطيه نصف ما بيده ; لأنه أصله فيقام عليه ، وقال ابن نافع : للمقر به جميع ما بيده لأنهما قد اجتمعا على أن المقر به وارث ، واختلفا في ميراث المقر ، فالجميع عليه أولي ، قال ابن بكر منا : ويحتمل عنده أن للمقر ربع المال والباقي للمقر ، لأنها مسألة نزاع في النصف ، وأما النصف الآخر فقد سلمه المقر للمقر به ، فيقتسم المتنازع فيه بعد [ . . . ] وأما لو [ ص: 316 ] كان المقر ثابت النسب فلا يكون للمقر به إلا نصف المال اتفاقا ، ولو قال : فلانة بنت زوجتي ورثتها وأنت أخوها ترثها معي ، فقال المقر به : أنا أخوها ولكن لست أنت زوجها ، أو قالت امرأة ذلك في بنت إنه زوجها وأن فلانا أخوه ، وحجدها الأخ ، فالمال للأخ في قول أهل العراق ، وعند زفر لا يرث الزوج ولا الزوجة شيئا ولا يصدقان في النكاح إلا ببينة إلا أن يصدقهما الوارث ، والولاء كالزوجة في ذلك ، وليس هذا كالإقرار في الأنساب ، وقال الحسن بن خليفة : حكم الزوج والزوجة وغيرهما في الإقرار سواء ، يأخذ الزوج والزوجة ميراثهما والفاضل للمقر به ; لأن قول القائل : أقبل قول زيد في النكاح دون النسب كقوله أقبله في النسب دون النكاح ، قال ابن بكر وعلى طريق التداعي : للزوج الربع ، وللزوجة الثمن ، والباقي للمقر به .

الرابع عشر قال : إذا أقر أحد الابنين بثالث ثم أقر الثالث برابع فعلى قول ابن أبي زيد يدفع الابن المعروف إلى الذي أقر به ثلث ما في يديه ، وهو سدس المال ، وقول أهل المدينة ، ثم يعطي الثالث الرابع ربع ما في يديه وهو ثمن ما في يديهما ; لأن الرابع يقول للثالث : لما أقررت لي زعمت أن الواجب لي ربع جميع المال في يد المعروفين في يد كل واحد منهما ثمن المال ، فقد أخذت أنت من الذي أقر لك سدس المال ، وإن أدفعه على إقرارك ثمن المال ، ومعك فضل عن حقك ، وهو ثلث ثمن المال فيصح من أربعة وعشرين ، في يد المنكر اثنا عشر ، وفي يد المقر ثمانية ، وفي يد الثالث ثلاثة ، وفي يد الرابع واحد ، وفي قول يعطي المقر المعروف الذي أقر به وهو الثالث نصف ما في يديه ، وهو ربع المال ، ثم يعطي هذا الثالث للرابع نصف ما في يديه وهو ثمن المال ، يصح من ثمانية وفي يد المنكر أربعة ، وفي يد المقر اثنان وفي يد الثالث واحد وفي يد الرابع واحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية