صفحة جزء
فوائد في قوله تعالى : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ) .

الأولى ، دخل على إياس ابن معاوية الحسن فوجده يبكي ، فسأله عن ذلك فقال : قال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( القضاة ثلاثة : قاضيان في النار ) فذكر فيهم رجلا جهل فأخطأ ، فقال الحسن : إن فيما أنزل علينا لرحمة ، فذكر الآية ، فقال : أثنى الله تعالى على سليمان ، ولم يذم داود بل أثنى عليه باجتهاده ، قال الحسن ، فلولا هذه الآية لكان الحكام قد هلكوا ، قال صاحب المقدمات : والمخطئ إنما يكون له أجر إذا كان من أهل الاجتهاد ، وإلا فهو آثم لجرأته على الله بغير علم ، وتقدم مثله لابن يوسف .

الثانية ، قال صاحب المقدمات : معنى الآية عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنه - ما : دخل رجلان على داود صلى الله على نبينا وعليه وعلى الأنبياء أجمعين [ ص: 14 ] أحدهما : صاحب حرث ، والآخر : صاحب غنم ، فادعى إرسال الآخر غنمه في حرثه ليلا فلم يترك منه شيئا ، فقضى له بالغنم كلها ، فمر صاحب الغنم بسليمان ، فأخبره بقضاء داود عليه السلام ، فدخل سليمان على داود فقال : يا نبي الله ، إن القضاء سوى الذي قضيت ، فقال : وكيف ؟ فقال : إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه كل عام ، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث ، فقال له داود : قد أصبت . وقال غيره : الحرث كان كرما ، فعلى هذا تدل الآية على أن المصيب واحد ، كما قاله ( ش ) و ( ح ) ونقله القاضي عبد الوهاب عن مذهب مالك ، وحكى عنه صاحب المقدمات تصويب الجميع ، وأجاب بقوله تعالى : ( وكلا آتينا حكما وعلما ) فلو أخطأ ما أوتي حكما وعلما ، وجوابه أن الحكم المؤتى ومالق من هذه القضية .

الثالثة ، أن حكم داود عليه السلام لو وقع في شرعنا أمضيناه ، لأن قيمة الزرع يجوز أن يؤخذ فيها غنم لأن صاحبها أفلس ، أو غير ذلك ، وحكم سليمان عليه السلام لو وقع في شرعنا ما أمضيناه لأنه إيجاب القيمة مؤجلة ، ولا يلزم ذلك صاحب الحرث ، وإحالته له على أعيان لا يجوز بيعها الآن ، وما لا يباع لا يعاوض به في القيم ، فيلزم أحد الأمرين : إما أن لا تكون شريعتنا أتم في المصالح وأكمل في الشرائع ، أو يكون داود عليه السلام فهم دون سليمان ، وهذا موضع يحتاج للكشف والنظر حتى يفهم المعنى فيه ، والجواب : أن المصلحة زمانهم كانت تقضي أن لا يخرج عين مال الإنسان من بلده إما لقلة الأعيان ، وإما لعظم ضرر الحال ، أو لعدم الزكاة للفقراء بأن تقدم للنار التي تأكل القربان ، أو لغير ذلك ، وتكون المصلحة الأخرى باعتبار زماننا أتم ، فيعتبر الحكم - كما هو قولنا - في حكم النسخ باعتبار اختلاف المصالح في الأزمنة ، فقاعدة النسخ تشهد لهذا الجواب .

[ ص: 15 ] الرابعة ، قوله تعالى : ( وكنا لحكمهم شاهدين ( المراد بالشهادة ها هنا : العلم ، فما فائدته ؟ والتمدح به ها هنا بعيد لأنه تعالى لا يمتدح بحرفي ، وليس السياق عن هذا أيضا حتى يعلم ، والجواب : أن هذه القصص إنما ذكرت لتقرير أمر رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ، لقوله تعالى في صدر السورة : ( هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ) فبسط الله القول في هذه القصص ليبين أنه _ صلى الله عليه وسلم _ ليس بدعا من الرسل ، وأنه يفضل من يشاء من البشر وغيره ، ولا يخرج شيئا عن حكمنا ، ولا تدخل ذلك غفلة ، بل عن علم ، ولذلك ما فهمها سليمان دون داود عن غفلة ، بل نحن عالمون ، فهو إشارة إلى ضبط التصرف وإحكامه لا إلى غير ذلك ، كما يقول الملك العظيم : أعرضت عن زيد وأنا عالم بحضوره ، وليس مقصوده سياق تهديد أو ترغيب حتى يكون المراد المكافأة ، كقوله تعالى : ( قد يعلم ما أنتم عليه ) فيكشف أيضا التمدح بالعلم ، بل إحكام التصرف في ملكه ، وكذلك هاهنا .

فرع

قال صاحب المقدمات : كما وجب على الناس أن يكون منهم قضاة وأئمة ، وجب عليهم طاعة ولاة أمورهم من القضاة وغيرهم ، قال الله تعالى : ( وأولي الأمر منكم ) الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية