صفحة جزء
[ ص: 16 ] الباب الثاني

في

شروط من يولى وصفاته

وفي الجواهر والمقدمات : ما يشترط في صحة التولية ، ويقتضي عدمه الانفساخ ، وهو أن يكون ذكرا ، لأن مقتضى الأنوثة يمنع من زجر الظالمين ، وتنفيذ الحق ، وأن يكون حرا ، لأن الرق نقيصة ينافي منصب النبوة ويحجر سيده عليه ، وعاقلا ; لأن العقل هو النور الذي يهتدي به ، بالغا ; لتحصيل الوازع الشرعي عن اتباع الهوى ، مسلما ، لأن الكفر أعظم من نقيصة الرق ، عدلا ; لأن العدالة هو الوازع ، من أهل الاجتهاد والنظر ، لأن بالعلم يعتصم من المخالفة لحدود الله ، متوحدا ، لأن الكثرة في المنصب تخرق الأبهة ، وتسقط الحرمة ، فعدم شيء من هذه يمنع ابتداء ، وينفسخ العقد بحدوثه . انتهى . ولا يولى المقلد إلا عند الضرورة ، قال القاضي أبو بكر : فيقضي حينئذ بفتوى مقلد بنص النازلة ، قال : فإن قاس على قوله ، أو قال : يفهم من هذا كذا وكذا ، فهو متعد ، ولا يحل تولية مقلد في موضع يوجد فيه عالم ، فإن تقلد فهو جائر متعد ، ولا تصلح تولية حاكمين معا في كل قضاء ، ولا تصلح تولية فاسق ، وقال أصبغ : تصح توليته ويجب عزله ، فحصول العدالة من القسم الثاني ، وجوز أبو الوليد تولية غير العالم ورآه مستحبا لا شرطا .

تنبيه : قوله : فإن قاس على قوله فهو متعد ، قال العلماء : المقلد قسمان : محيط بأصول مذهب مقلده وقواعده بحيث تكون نسبته إلى مذهبه كنسبة المجتهد المطلق [ ص: 17 ] إلى أصول الشريعة وقواعدها ، فهذا يجوز له التخريج والقياس بشرائطه ، كما جاز للمجتهد المطلق ، وغير محيط فلا يجوز له التخريج ، لأنه كالعامي بالنسبة إلى جملة الشريعة ، فينبغي أن يحمل قوله في الكتاب على القسم الثاني فيثبت وإلا فمشكل .

القسم الثاني : ما يقتضي عدمه الفسخ وإن لم يشترط في الصحة : كونه سميعا بصيرا ، لأن عدم الحواس يمنع من معرفة المقضي عليه أو له ، ومن سماع الحجج الشرعية متكلما لنظر ما في نفسه من الاستفسارات والأحكام ، وعدم بعض هذه يقتضي فسخ العقد ، تقدمت أضدادها عليه أو طرأت بعده ، فينفذ ما مضى من أحكامه إلى حين العزل ، وإن كانت موجودة حين الحكم .

القسم الثالث : ما لا يشترط في الانعقاد ولا في التقابل ، مستحب نحو كونه ورعا غنيا ليس بمديان ولا محتاج ، من أهل البلد ، لأن الغنى يعين على التولية ويشجع النفس ، والبلدي أخبر بأهل بلده من الأجنبي فيعلم على من يعتمد ، ومن يجتنب ، معروف النسب ليسلم من نقيصة الطعن الكاذب ، ليس من ولد زنا ; لئلا يهتضم في أعين الناس ، ولا بابن لعان لذلك ، جزلا ، نافذا فطنا ، ليعرف دقائق حجاج الخصوم ومكايدهم ، غير مخدوع لعقله ، ليس محدودا في زنا لئلا يهتضم جانبه ، ولا قذف ، ولا مقطوعا في السرقة ذا نزاهة غير مستحي باللائمة ، يدير الحق على من دار عليه ، لا يبالي من لامه على ذلك ، حليم عن الخصوم ، لأن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ما انتقم لنفسه قط ، مستشيرا [ ص: 18 ] لأهل العلم لقوله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( ما ندم من استشار ، ولا خاب من استخار ) وقال أبو إسحاق بن محرز : لن يأتي بما نصب له حتى يكون ذا نزاهة ونصيحة ورحمة وصلابة ، ليفارق بالنزاهة التشوف لما في أيدي الناس ، وبالنصيحة يفارق حال من يريد الظلم ولا يبالي بوقوع الغش والخطأ والغلط ، وبالرحمة ، حال القاسي الذي لا يرحم الصغير واليتيم والمظلوم ، وبالصلابة من يضعف عن استخراج الحقوق وعن الإقدام على ذوي البطالة والقهر والظلم ، وقال القاضي أبو محمد : ينبغي أن يكون فطنا ، متيقظا كثير التحرز الحيل وميلهم على المغفل والناقص المتهاون ، وأن يكون عالما بالشروط عارفا بما لا بد منه من العربية واختلاف معاني العبارات ، فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات . وكذلك الدعاوى والشهادات ، ولأن كتاب الشروط هو الذي يتضمن حقوق المحكوم له والشهود سمع ما فيه ، فقد يكون العقد واقعا على وجه يصح أو لا يصح ، فيكون له علم بتفصيل ذلك ومجمله ، وينبغي أن يستبطن أهل الدين والأمانة والنزاهة ، فيستعين بهم على ما هو بسبيله ، ويتقوى بهم على التوصل بهم إلى ما ينويه ، ويخففون عنه فيما يحتاج إلى الاستعانة فيه من النظر في الوصايا والأحباس والقسمة ، وأموال الأيتام وغير ذلك مما ينظر فيه ، قال الأستاذ : وليس يكتفي بالعقل الذي هو شرط في التكليف ، وهو استدلاله بالشاهد على الغائب ، وعلمه بمدركات الضرورة ، بل لا بد أن يكون صحيح التمييز ، جيد الفطنة ، بعيدا من السهو والغفلة ، حتى يتوصل بذكائه إلى موضع ما أشكل ، وفصل ما عضل ، قال : وليس يستحق أيضا لزيادة في [ ص: 19 ] هذا الباب حتى يستوصي بصاحبه إلى الدهاء والمكر والخبث والخداع ، فإنه مذموم محذور غير مأمون إليه ، والناس منه في حذر ، وهو من نفسه في نصب ، وقد أمر عمر _ رضي الله عنه _ بعزل زياد بن أبيه وقال له : كرهت أن أحمل الناس على فضل عقلك ، وكان من الزهاد .

قال صاحب التنبيهات : الإجماع على اشتراط السمع والبصر إلا ما يحكى عن مالك في جواز قضاء الأعمى ، فغير معروف ولا يصح عن مالك ، ومتى ولي من فقد الإسلام أو العقل أو الذكورة أو الحرية أو البلوغ بجهل أو غرض فإنه لا يصح حكمه ويرد ، وينفذ من فقدت منه ما عدا إذا وافق الحق إلا الجاهل الذي حكم بداية ، والصحيح نفوذ حكم الفاسق إذا وافق الحق ، وقيل : يرد ، قال ابن يونس : قال سحنون : إذا كان الفقير أعلم أهل البلد وأرضاهم استحق القضاء ، ولا يجلس حتى يغنى ويقضى عنه دينه ، ولا بأس أن يستقضى ولد الزنا ، ولا يحكم في الزنا كما لا يحكم القاضي لابنه ، والمحدود في الزنا يجوز حكمه فيه دون شهادته ، لأن المسخوط يجوز حكمه دون شهادته ، وعن سحنون : لا يستقضى المعتق خوفا من أن تستحق رقبته فتذهب أحكام الناس ، وقال التونسي : قال مالك : لا أرى خصال العلماء تجتمع اليوم في واحد ، إذا اجتمع منها خصلتان ولي : العلم والورع ، قال ابن حبيب : فإن لم يكن علم وورع ، فعقل وورع ، فبالورع يقف ، وبالعقل يسأل ، وفي الكتاب : لا يستقضى من ليس بفقيه ، وقال عمر بن عبد العزيز : لا يستقضى حتى يكون عارفا بآثار من مضى مستشيرا لذوي الرأي ، وليس علم القضاء كغيره من العلم . وفي المقدمات : قال عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ : لا يصح أن يلي القضاء إلا من كان حصيف العقل ، شديدا من غير عنف ، لينا من غير ضعف ، قليل الغرة ، بعد الهيبة ، لا يطلع الناس [ ص: 20 ] منه على عورة ، ويستحب - على مذهبنا - أن لا يكون أميا ، وليس لأصحابنا في ذلك نص ، وعند ( ش ) : وجهان : المنع ، لضياع كثير من المصالح بعدم معرفة الخطوط ، والجواز ؛ لأن سيد المرسلين سيد الحكام ، وهو أمي ، ولأنه لا يلزمه قراءة العقود ، وينوب عنه في تقييد المقالات غيره ، قال : وإن للمنع وجها لما فيه من تضييق الحكم ، والفرق : أن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ معصوم .

قال عبد الملك وغيره : لا يكون صاحب رأي لا يعلم السنة والآثار ، ولا صاحب علم الحديث دون الفقه والقياس ، قال أصبغ : ويعزل الجاهل إلا أن لا يوجد غيره ، فيقر ويؤمر أن يستكثر من المشورة ، وينفذ أمره في كل حين ، فإن تعارض عدل مؤمن لا علم عنده بالقضاء ، وعالم ليس مثل الآخر في العدالة ولم يجد غيرهما ، قدم العالم إن كان لا بأس بحاله وعفافه ، وإن كان غير موثوق به في صلاحه ، ولعله يلابس ما لا ينبغي إلا أن يولي واحدا منهما إن وجد غيرهما ، والأولى : العدل القصير العلم ، ومن جمع العدالة والعلم فلا يولى غيره ، وإن لم يكن من أهل البلد ، قال صاحب المنتقى : اشتراط توحد القاضي إنما هو حيث لا يجوز أن يولى اثنان على وجه الاشتراك في كل قضية ، لأن ذلك يؤدي إلى بقاء التظالم والعناد بسبب اختلاف آرائهما ، وأما قاضيان في بلد ينفذ كل واحد منهما بالنظر فجائز بإجماع الأمة كما أن الأول لا يعلم أنه وقع في زمن من الأزمان في هذه الملة ، ويشكل على هذه القاعدة : الحكمان في الزوجين ، وفي جزاء الصيد ، لأنهما يحكمان في قضية واحدة .

وجوابه : أنها ليست ولاية ، قال : فإن اتفقا نقض حكمهما ، وإن اختلفا لم ينفذ ، وحكم غيرهما ، فليس في ذلك مضرة ، وعن سحنون : لا يحكم المحدود في الزنا كشهادة بجامع التهمة في المشاركة في النقيصة ، ووافقنا الحنابلة في جواز كونه أميا ، وزادوا معرفته بلسان أهل ولايته في شروط الكمال ، ونحن ما نخالف [ ص: 21 ] في ذلك ، ووافقنا الأئمة فيما تقدم من المشهور في شروط الصحة والكمال إلا للذكورة والعلم فعن الحنفية : تجوز ولاية العامي ويستفتي الفقهاء ويحكم ، ولا تفوت المصلحة ، لنا : قوله تعالى : ( لتحكم بين الناس بما أراك الله ) وهذا يتضمن الاجتهاد ، ولقوله _ صلى الله عليه وسلم _ لمعاذ ) بم تحكم ؟ قال بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ، قال : بسنة رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ : قال فإن لم تجد ، قال : أجتهد رأيي ) فلم يذكر التقليد ، فدل على أن الحكم به غير مشروع ، ويؤكد ذلك قوله _ صلى الله عليه وسلم _ في الحديث : ( الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله ) فدل على أن ترك التقليد هو الذي يرضي رسول الله - _ صلى الله عليه وسلم _ : وقوله _ صلى الله عليه وسلم _ ( إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ، وإن أصاب فله أجران ) يدل على أن منصب الحاكم الاجتهاد . وعند ( ح ) : يجوز أن تكون المرأة حاكما في كل ما تجوز فيه شهادة النساء ، وجوز الطبري مطلقا ، وعند ( ح ) : تقبل شهادة النساء في كل شيء إلا في الحدود والجراح . لنا قوله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( ما أفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة ) وفي حديث : ( لا يفلح قوم وليتهم امرأة ، فإذا لم يفلحوا أفسدوا ) وقوله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( أخروهن من حيث أخرهن الله ) وهذا غاية النقص لهن ، ومنعت أن تقوم بجنب الرجل [ ص: 22 ] في الصلاة خوف الفتنة ، فالقضاء - لأنه موطن ورود الفجار - أولى ولأنه _ صلى الله عليه وسلم _ قال : ( إذا ناب أحدكم في صلاته شيء فليسبح ، فإن التسبيح للرجال ، والتصفيق للنساء ) فمنع من صوتها لأنه عورة ، فيمتنع في القضاء أولى وقياسا على الإمامة العظمى . احتجوا بأنها صحت شهادتها فتصح ولايتها ، كالعدل ، ولأن ولاية الأحكام ومأخذها تتأتى من المرأة ، فقد قال _ صلى الله عليه وسلم _ : ( خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء ) يعني عائشة _ رضي الله عنه _ . والجواب عن الأول : الفرق بأن الشهادة أخفض رتبة من القضاء ؛ لأنها تصح شهادتها دون الإمامة العظمى ، والعدل يصح منه الأمران ، ولذلك لم يسمع في عصر من الأعصار أن امرأة وليت القضاء فكان ذلك إجماعا ، لأنه غير سبيل المؤمنين .

والجواب عن الثاني : أنها يمكنها ضبط ما تحتاج في الصلاة مع أنها لا تكون إماما فيها ، وأما ما رواه مالك استس ، أم سليمان قلدها بعض الصحابة على السوق ، فذلك في أمر جرى من الحبشة على قوم مخصوصين فلا يلحق به القضاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية