صفحة جزء
[ ص: 23 ] الباب الثالث

في

صفة تقاليد الولايات السابقة عليها

واختلاف أحكامها المترتبة عليها ، ولنقتصر من الولايات على مهماتها وهي سبعة :

الولاية الأولى : الخلافة العظمى ، وهي الولاية ، وهي واجبة إجماعا إلا الأصم ، ووجوبها على الكفاية ، أما وجوبها : فلقوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) فطاعتهم فرع وجودهم ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ولما في مسلم : ( اسمعوا وأطيعوا ولو كان عبدا حبشيا ) ولأن عدمها يفضي إلى الهرج والتظالم ، وذلك يوجب السعي في إزالته ، ولا طريق في مجرى العادة إلا الإمامة ، وأما كونها على الكفاية ، فلأن القاعدة أن كل فعل تتكرر مصلحته بتكررها فهو على الأعيان ، وما لا فعلى الكفاية ، فالأولى كالصلوات ، مقصودها : الثناء على الله تعالى وتعظيمه ، وذلك يتكرر بتعدد المصلين فشرع على الأعيان تكثيرا للمصلحة .

والثاني : كإنقاذ الغرقى فإن النازل لك بعد الإنقاذ لا يحصل مصلحة ، [ ص: 24 ] فشرعت على الكفاية نفيا لفعل العبث ، وقد تقدم بسط هذه المقدمات في مقدمة الكتاب ، فإن قام بها واحد سقط فرضها وإلا فلا . قال الماوردي الشافعي : يخرج من الناس فريقان : أهل اختيار الإمام ، وأهل الإمامة حتى يختار الأول شخصا من الفريق الثاني ، ولا حرج على بقية الأمة في تأخير الإمامة ، كما اتفق في خلافة عثمان _ رضي الله عنه _ ، لأن فرض الكفاية إنما يأثم بتأخيره من هو أهل له ، فلا يأثم بتأخير الجهاد النسوان ، ولا يترك إنقاذ الغريق من لا يعوم . قال ابن بشير منا في كتاب النظائر له : وشروط المختارين للإمام ثلاثة : العلم بشروط الإمامة ، والعدالة ، والحكمة والرأي الموديان للمقصود ، واختيار من هو الأصلح للناس وأقوم بالمصالح ، وقاله الماوردي ، ثم ليس لمن في بلد الإمام مزية على غيره من أهل البلاد ، وإنما قدم في العرف أهل بلد الإمام ؛ لأنهم أعلم في العادة بمن عندهم وشرائط الفتوى ، والكفاية في المعضلات ، وقال الماوردي من الشافعية : شرائطها سبعة : العدالة ، سلامة الحواس ، وسلامة الأعضاء من نقص يمنع استيفاء الحركة ، والشجاعة ، والنسب القرشي وهو مجمع عليه إلا ضرار فإنه جوزها في جميع الناس لنا : قوله صلى الله عليه وسلم : ( الأئمة من قريش ) والمبتدأ يجب انحصاره في الخبر ، وقال [ ص: 25 ] صلى الله عليه وسلم : ( قدموا قريشا ولا تقدموها ) والعلم المؤدي للاجتهاد في النوازل وصحة الرأي ، وينعقد باختيار أهل الحل والعقد كعثمان _ رضي الله عنه _ ، وكانوا ستة عينهم عثمان _ رضي الله عنه _ عنهم - واختلف في عددهم ، فقيل : لا بد من جمهور أهل الحل والعقد من كل بلد ، ليكون الرضا به عاما ، وهو يبطل ببيعة أبي بكر _ رضي الله عنه _ لأنها انعقدت بالحاضرين ، ولم ينتظر غائب ، وقيل : وكذلك يربع في الشورى ، وقيل : لا بد من خمسة ، أو يعقدها أحدهم برضاهم ، لأن بيعة الصديق انعقدت بخمسة ثم بايع الناس ، وهم عمر ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وأسيد بن حضير ، وبشير بن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ولأن الشورى كانت في ستة لا تعقد لأحدهم برضا الخمسة ، وعليه أكثر الفقهاء والمتكلمين من البصريين ، وقال بعض الكوفيين : ثلاثة يتولاها أحدهم برضا اثنين ليكونوا حاكما شاهدين كعقد النكاح ، ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌وقيل : واحد ، لأن العباس قال لعلي - رضي الله عنهم - أجمعين : امدد يدك أبايعك فيقول الناس : عم رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان ؛ ولأنه حكم ، فحكم الواحد يكفي ، فهذا أربعة مذاهب ، ويقدم أهل الحل والعقد أكثر المستحقين فضلا ، وأكملهم شرطا ممن يسرع الناس إلى طاعته ، فإذا عينوه عرضوها عليه فإن أجاب بايعوه ، ولزم جميع الأمة الدخول والانقياد ، فإن امتنع الجميع يقدم الأسن ، فإن بويع الأصغر جاز ، ويراعى تقديم الأشجع على الأعلم . أو العكس على ما يقتضيه الوقت من الحاجة إلى القتال ، أو المناظرة على الدين مع أرباب الأهواء ، فإن اختاروا واحدا من اثنين فتنازعاها : قيل : يكون ذلك قدحا فيهما ، لأن من طلب الولاية لم يعن عليها ، فيعدل إلى غيرهما ، وقال الجمهور : لا يقدح وقد [ ص: 26 ] تنازع فيها أهل الشورى فما رد عنها طالب ، واختلف فيما يقطع به التنازع مع التساوي ، فقيل : القرعة : باختيار أهل البيعة من غير قرعة ، لأنها ولاية لهم ، وحكى ابن بشير القولين عندنا ، فإن ظهر بعد بيعة الأفضل من هو أفضل منه لم يعدل عن الأول لصحة عقده ، وإن ابتدئ بالمفضول لغيبة الأفضل ، أو مرضه ، أو كون المفضل أطوع في الناس صح ، أو لغير عذر ، فقال الجاحظ وغيره : لا ينعقد لفساد الاجتهاد بالتقصير ، وقال الجمهور : ينعقد كما يجوز ذلك في القضاة يولى المفضول ، ولحصول شرائط الصحة ، ولأن الزيادة من باب التتمة لا من باب الحاجة ، فإن تعين واحد بالاتصاف بالشروط تعينت فيه ، وامتنع العدول عنه ، قال ابن بشير : وهل ينعقد بغير بيعة لأن مقصود العقد الاختيار وهذا متعين ، أو لا بد من العقد ، قاله الجمهور ، كالقضاء لا بد له من عقد ، ويأثم أهل العقد إذا امتنعوا ، وقال الفريق الأول يصير المنفرد قاضيا من غير عقد ، كما يصير المنفرد بشروط الصلاة إماما ، والفرق : أن القضاء ولاية خاصة ، يجوز صرفه عنها مع بقائه على صفته ، والولاية حق عام لا يجوز عزل المتصف بشروطها بعد ولايته .

فرع

قال الماوردي : إذا عقدت لاثنين ببلدين لم تنعقد إمامتهما لامتناع إمامين في وقت ، فقد قال : ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ) وجوزه من شذ ، واختلف في الإمام منهما فقيل : الذي في بلد الإمام الميت ؛ لأنهم بعقدها أخص وأحق ، وعلى سائر الأمصار تفويضها إليهم ، لئلا ينتشر اختلاف الآراء وقيل : على كل واحد التسليم للآخر دفعا للفتنة ، ليختار أهل العقد أحدهما أو [ ص: 27 ] غيرهما ، وقيل : يقرع بينهما ، والمحققون على تقديم السابق بيعة كالوالدين في نكاح المرأة إذا زوجاها باثنين فإن أبقا السبق فسخ العقدان ، وإن أشكل السابق وقفا على الكشف ، فإذا تنازعا السبق لم يحلف المدعي ولا غيره لأن الحق للمسلمين ولا حكم لليمين للنكول ، ولو سلمها أحدهما للآخر فلا بد من بينة تشهد بتقدمه ، فإن أقر له بالتقدم خرج المقر ولم يستقر للآخر إلا بعقد ، لحق المسلمين ، والإقرار لا يعتبر إلا في حق الإنسان الخاص به ، فإن شهد مع شاهد آخر سمع فإن دام اللبس في التقدم لم يقرع بينهما ، لأن الإمامة عقد ، والقرعة لا تدخل في العقود ؛ لأنها لا تدخل إلا فيما الاشتراك فيه كالأموال دون ما يمتنع كالمناكح فيبطل فيهما . قال ابن بشير فيما إذا تنازعاها ابتداء هل يقر إذ هي لأولهما ، أو يقدم الذي في بلد الإمام ؟ ثلاثة أقوال كما تقدم للشافعية .

فرع

قال الماوردي : وانعقادها بعهد من قبله ، مجتمع عليه لعهد الصديق لعمر - رضي الله عنهما - ، ولعهد عمر إلى أهل الشورى ، فخرج جميع الصحابة من الشورى ، وعلى الإمام بذل الجهد فيمن يصلح ، وينفرد بالعقد لغير الولد والوالد ، واختلاف أهل الرضا من أهل الحل والعقد شرط أم لا وهو الصحيح ، لأن بيعة عمر لم تتوقف على رضا الصحابة ، قال ابن بشير : وفي جواز تفرده بالولد أو الوالد خلاف ، فقيل : لا بد من الاستشارة فيرونه أهلا لأنها تزكية من الإمام تجري مجرى الشهادة له والحكم له والجواز ، لأنه أمين الأمة فلا . [ ص: 28 ] يقدح التهمة ولا لجواز الولد دون الولد لمزيد التهمة ، ويجوز للأخ ونحوه كالأجنبي ، قال الماوردي : ولا بد من قبول المولى ، وزمان القبول قيل بعد الموت ؛ لأنه أثبت نظرا ، والأصح أنه ما بين عهد المولي وموته حتى لا تتعطل المصالح ، وليس له عزله ما لم يتغير حاله ، بخلاف جميع نوابه ، لأنهم لحق نفسه ، وهذا لحق المسلمين ، كما لا يعزل لهما للعقد من بايعوه إذا لم يتغير حاله ، فلو عهد بعد عزل الأول الآخر بطل الثاني . فالأول باق ، ولا يصح الثاني بخلع الأول نفسه ، وإذا استعفى ولي العهد لم يبطل عهده حتى يعفى للزومه ، ويجوز إعفاؤه واستعفاؤه إن وجد غيره ، وإلا فلا وتعتبر شروط الإمامة في المعهود إليه وقت العهد ، فلا ينعقد العهد للصغير ولا للفاسق عند العهد ، وليس لولي العهد الرد إلى غيره ؛ لأن الخلافة لا تستقر له إلا بعد الموت ، أو بخلع الخليفة نفسه ، فينتقل إلى ولي العهد ، ولو عهد إلى اثنين اختار أهل الاختيار أحدها كأهل الشورى ، لأن عمر _ رضي الله عنه _ جعلها في ستة ، ويجوز للخليفة بيعة فلان ، فإن مات ففلان ، وتنتقل الخلافة كذلك ، كما استخلف رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ على جيش مؤتة زيد بن حارثة ، وقال : ( فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب ، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة ) .

فرع

قال ابن بشير : إذا مات ولي العهد قبل الخليفة ، هل له أن يعهد لغيره ؟ قولان ، وكذلك إذا فسق الخليفة ثم تاب ، هل يتوقف عوده على تجديد عهد [ ص: 29 ] فوز ، وإذا حدث له خرس ، أو صمم ، أو ذهبت إحدى عينيه ، فهل يخرج منها ؟ قولان .

فرع

قال الماوردي : إن استولى على الخليفة بعض أعوانه لا يقدح ذلك فيه بخلاف القهر بأسر العدو ، كان العدو مشركا أو مسلما ، فيقدح لفرط القهر ، وإن خلص قبل الإياس منه عادت إمامته ، والفرق بين الأسر والقهر من بعض الأعوان : أن بيعته على ذلك العون ، فإمامته باقيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية