صفحة جزء
الولاية السابعة : ولاية الحسبة ، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو وإن كان واجبا على كل مسلم بثلاثة شروط : أن يكون عالما به ، وأن لا يؤدي إلى مفسدة أعظم ، وأن يفيد إنكاره ، فإن انتفاء الشرطين الأولين ينفي الجواز ، وانتفاء الثالث ينفي الوجوب ويبقى الندب ، والفرق بين آحاد الناس والمحتسب المولى من تسعة أوجه : قال الماوردي : إن فرضه فرض عين له لأجل الولاية ، وهو على الناس فرض كفاية ، ولا يجوز له التشاغل عنه بغيره ، وغيره يجوز أن يتشاغل عنه بواجب آخر ، وهو منصوب للاستعداء ، ولا يستعدى لغيره ، وعليه إجابة من استعداه ، وليس ذلك على غيره ، وله البحث عن المنكرات الظاهرة ليصل إلى إنكارها ، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ، وغيره ليس له البحث ، وله أن يتخذ أعوانا لقهر المعاندين ، وليس ذلك على غيره وله التعزيز في المنكرات الظاهرة بخلاف غيره ، ويرتزق على الحسبة من بيت المال كالقاضي لأنهما من مصالح المسلمين العامة بخلاف غيره ، وله [ ص: 48 ] الاجتهاد في العوائد كالمقاعد في الأسواق وإخراج الأجنحة وليس ذلك لغيره في الدين ، والعلم بالمنكرات ليتمكن منهما ، وإلا فينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف وهو لا يشعر . والحسبة مرتفعة عن أحكام القضاة من وجهين ، ومقصورة عنها من وجهين ، وزائدة عليها من وجهين ، فيوافق في جواز الاستعداء ، وسماع دعوى المستعدى عليه من حقوق الآدميين في ثلاثة أنواع فقط : النجش والتطفيف في كيل أو وزن . والثاني : الغش والتدليس في بيع أو ثمن ، والثالث : المطل بالدين مع المكنة . واختص بهذه الثلاثة دون غيرها تعلقها بالمنكر الظاهر الذي نصب له ، لأنه موضوع منصب الحسبة في عرف الولايات .

والوجه الثاني الذي يوافق فيه : إلزام المدعى عليه الخروج من الحق المدعى به ، وهذا عام في جميع الحقوق ، وإنما هو خاص في الحقوق التي جاز له سماع الدعوى فيما إذا وجبت بالإقرار والمكنة واليسار . فيلزم المقر الموسر الخروج منها ، لأن في تأخيرها منكرا هو منصوب لإزالته ، وأما الوجهان في قصورها عن القضاة فلا يسمع عموم الدعاوى الخارجة عن ظاهر المنكرات في العقود والمعاملات وسائر الحقوق ، إلا أن يفوض ذلك إليه بنص صريح يزيد على منصب الحسبة . فيكون قاضيا ومحتسبا . فيشترط فيه شروط القضاء ، ويقتصر على الحقوق المعترف بها بخلاف ما جحد ، لاحتياجه لسماع البينات والأيمان ، وليس منصبه ، والوجهان الزائدان له على الأحكام : فتعرضه لوجوه المعروف والمنكر وإن لم ينه إليه ، بخلاف القاضي ، وله من السلاطة والحماية في المنكرات ما ليس للقضاة ، لأن موضوعه الرهبة ، وموضوع القضاء النصفة ، وهو بالأناة والوقار أولى ، فإن خرج القاضي إلى السلاطة خرج عن منصبه الذي وليه ، وتشابه الحسبة ولاية المظالم من وجهين ، وتخالفها من وجهين ، فتشابهها في الرهبة ، وجواز التعرض للاطلاع ، وتخالفها أن موضع ولاية المظالم ، [ ص: 49 ] فيما عجز عنه القضاة ، والحسبة ممارحه غرم القضاة ، فرتبة المظالم أعلى ، ولوالي المظالم أن يوقع للقضاة والمحتسبة ، والمحتسب لا يوقع لأحد منهما ، ويجوز لوالي المظالم أن يحكم ، وليس للمحتسب أن يحكم إذا تقرر الفرق بين هذه الولايات فللمحتسب أن يأمر بالجمعات ويؤدب عليها ، فإن رأى القوم أن جمعتهم تنعقد ، ورأى خلافه ، لا يعارضهم ، فإن رأى انعقادها ولم يؤده فيأمرهم لئلا تعطل الجمعة مع طول الزمان ، وقيل لا يأمرهم ؛ لأنهم لا يلزمهم مذهبه ، ويأمرهم بصلاة العيد وجوبا إن قلنا هي فرض ، وإلا فندبا ، ويندب إلى أمر الناس بالأذان والجماعات إذا تركه أهل البلد ولا يتعرض لآحاد الناس إذا ترك ذلك وهي قائمة في البلد ، ووعيده على ترك الجماعات بحسب شواهد الحال . فقد قال _ صلى الله عليه وسلم _ في الصحيح : ( لقد هممت أن آمر أصحابي أن يجمعوا حطبا ، وآمر بالصلاة فيؤذن لها وتقام ، ثم أخالف إلى منزل قوم لا يحضرون الجماعة فأحرقها عليهم ) وينهى من أخر الصلاة عن وقتها ، قال سببها : حثه على فعلها من غير تأديب ، أو تهاونا زجره وأمره بفعلها ، ولا يتعرض عن الناس فيما يخالف مذهبه في الطهارات وغيرها ، ويأمرهم ( بينا صورهم ) ، وإصلاح سرهم وعمارة مساجدهم ومراعاة بني السبيل من ذوي المكنة إذا لم يقم بيت المال بهذه المصالح ، ولا يلزم واحدا معينا من المال ما لا تطيب به نفسه . بل يقول : يخرج كل منكم ما تطيب به نفسه ، ويعين بعضهم بلا مصلحة ، فإذا حصلت كفاية المصلحة شرع فيها وألزم كل واحد بما التزمه ، وإن كانت هذه الدعوة لا تلزم في غير هذا الموطن ، إلا أن المصالح العامة يوسع فيها ما لا يوسع في المصالح الخاصة لعموم الضرر . وإذا عمت هذه المصلحة فلا بد من استئذان السلطان لئلا يفتات عليه ، فإن [ ص: 50 ] هذه إذا عمت ليست من معهود الحسبة ، إلا أن يتعذر استئذانه ، أو يخشى ضرر ، وله الأمر بالحقوق الخاصة كالمطل بالدين مع المكنة ، ولا يحبس فيه لأن الحبس حكم ، وهو ليس بحاكم ، وله أن يلازم عليها ، ولا يأخذ نفقات القارب لافتقاره إلى حكم شرعي فيمن يجب له ، ويجب عليه ، وكذلك كفالة من تجب كفالته من الأطفال حتى يحكم بها الحاكم . فيأمر حينئذ بها على شروطها . ويأمر الأولياء بإنكاح الأيامى ، والصالحين من أكفائهم إذا طلبن ، وإلزام النساء أحكام العدد ، وله تأديب من خالفته في العدة من النساء ، ولا يؤدب من امتنع من الأولياء ، وأما من نفى ولدا قد ثبت فراشه ولحق نسبه أخذه بأحكام الآباء ، وعزره على الباقي ، ويلزم السادة حقوق العبيد والإماء ، وحقوق البهائم ، من العلف وعمل الطاقة ، ومن أخذ لقيطا فقصر في كفالته ألزمه بها ، أو يسلمه إلى من يقوم به ، وكذلك واجب الضوال ، فهذا أمره بالمعروف ، وأما نهيه عن المنكر من غير عبادة عن وضعها ، ولا يأخذ بالتهم كما يحكى عن محتسب أنه سأل داخل المسجد بنعليه هل تدخل بهما بيت الطهارة ؟ وأنكر عليه ذلك وأراد إخلافه ، وكذلك لو ظن أنه غير غسل ، أو لم يصل ، أو لم يصم لم ينكر عليه ، لكن تجوز التهمة له ، والوعظ بعذاب الله تعالى ، ولو رآه يأكل في رمضان سأله عن السبب ، فإذا لم يذكر عذرا أدبه ، وكذلك ينكر عليه إذا علم له عذرا إذا جاهر بفطره ، لأنه عرض نفسه للتهمة ، واقتداء الجاهل به ، وأمر الزكاة لعمالها دونه ، وينكر على المتعرض للصدقة وهو غني ويؤدبه ، فلو رأى عليه آثار الغنى أعلمه أنها لا تحل لغني ، ولا ينكر عليه لجواز أن يكون فقيرا في الباطن ، ومن فوى العتار منعه من أخذ الصدقة ، ويعزر من تعرض لعلم الشرع من فقيه أو واعظ وخشي اغترار الناس به في سوء تأويل أو تحريف جواب ، أنكر عليه ، وأظهر أمره للناس ، ومن أشكل عليه لا ينكر عليه حتى يختبره ، فقد أقام علي _ رضي الله عنه _ القصاص ، ومر بالحسن وهو يتكلم فاختبره فقال له : ما عماد الدين ؟ قال : الورع ، قال : وما آفته ؟ قال : [ ص: 51 ] الظلم ، قال : تكلم الآن إن شئت ، ويمنع الناس مظان الريب ، فقد نهى عمر _ رضي الله عنه _ أن يصلي الرجال مع النساء ، ثم رأى رجلا يصلي معهن فضربه بالدرة ، فقال له الرجل : لئن كنت تقيا لقد ظلمتني ، وإن كنت أسأت فما أعلمتني ، فقال عمر رضي الله عنه : أما شهدت عزمتي ؟ قال : ما شهدت لك عزمة ، فألقى إليه عمر الدرة وقال : اقتص منى ، فقال : لا أقتص اليوم ، قال : فاعف ، قال : لا أعفو فافترقا على ذلك ، ثم لقيه من الغد فتغير لون عمر _ رضي الله عنه _ ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين كأني أرى ما كان أسرع مني قد أسرع فيك ، قال : أجل ، قال : فأشهدك أني قد عفوت عنك . وينهى عن وقوف الرجل مع المرأة في طريق خال ، ولا يعجل بالتأديب لئلا يكون محرما وليقل له إن كانت ذات محرم فصنها عن الريب ، أو أجنبية فخف الله تعالى من خلوة تؤديك إلى معصيته ، ويؤدب الذمي عن إظهار الخمر ، ويبطل آلات اللهو حتى تصير خشبا ، ويؤدب على المجاهرة بها وبالسكر ، وما لم يظهر من المنكرات لا يتعرض له ، ويخلي الناس في ستر الله إلا أن يخبره من يثق به أن رجلا خلا برجل ليقتله ، أو بامرأة ليزني بها فيكشف عن ذلك ، وذلك غيره من الناس إذا عرف ذلك ، وأما ما لا يخبر به من يثق به . فقد قال _ صلى الله عليه وسلم _ : ( من بلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله ، فإنه من يبد لنا صفحة وجهه نقم عليه حد الله ) أما مع الإمارة فيجوز . لما يروى أن المغيرة بن شعبة كانت تختلف إليه امرأة [ ص: 52 ] بالبصرة ، فبلغ ذلك أبا بكرة ، وسهل بن معبد ، ونافع بن الحارث ، وزياد بن عمير ، فرصدوه حتى دخلت عليه فهجموا عليه ، فشهدوا عليه عند عمر _ رضي الله عنه _ القضية المشهورة التي حد فيها أبا بكرة ، ولم ينكر أداء الشهادة ، وينكر العقود والمعاملات المجمع على فسادها دون المختلف فيها إلا ما كان الخلاف فيها ضعيفا ، وهى ذريعة المتفق عليه ، وكذلك عقود الأنكحة المتفق عليها دون المختلف فيها ، إلا أن يضعف الخلاف وتكون ذريعة للزنى كالمتعة ، وله اختبار من يكتال للناس وحرث ، واختبار القسام والزراع للقضاة لأجل أموال الأيتام ، كما أن اختبار الحراثين في الحرث والأسواق إلى الأمر ، فإن وقع في التطفيف تجاحد فالقضاة أولى به ؛ لأنه أحكام ، والتأديب فيه للمحتسب ، فإن تولاه الحاكم جاز لاتصاله بحكمه ، وينكر على العموم دون الخصوص الشائع بالمكاييل التي لم تولف ، فإن تراضى بها اثنان لم يعرض لهم ، ومتى كان حق آدمي صرف كالتعدي على جدار الجار ، فلا بد من طلب صاحب الحق ، فإن لم يكن بينهما تجاحد : زال المنكر من ذلك . وإلا فأمرهما للقضاة ، ومن ظلم أجيرا من غير تنازع منه وإلا فللقضاة ، وله أن يقر من الأطباء والصناع من هو أصلح الناس ، ويلزم أهل الذمة بلبس الغيار ، والمجاهرة بدينهم ، ويمنع المسلمين من أذاهم ، ويمنع من يطول على الناس في الصلاة ويضر بالضعفاء وذوي الحاجة ، كما أنكر رسول الله على معاذ ، ومن لم يمتنع منهم لا يؤدبه عليها ، بل يعزله ويولي غيره فالحاكم لا يحتجب عن الأحكام ، ووافقنا المعالج ، أو غير ذلك [ ص: 53 ] أنكر عليه ، ويمنع أرباب السفن من حمل ما لا تسعه ويخاف عليها منه ، ومن السير عند اشتداد الريح ، وإذا حمل فيها الرجال والنساء حجز بينهم بحائل ، وإذا اختص بعض الأسواق بمعاملة النساء اعتبر سيرته وأمانته ، ويزيل من مقاعد الأسواق ما يضر بالناس وإن لم يستبعد فيه ، وكذلك الرواشن وغيرها مما يستضر به الناس ، ويجتهد فيما يضر بما لا يضر ؛ لأنه من أهل الاجتهاد العرفي دون الشرعي ، والفرق : أن الشرعي مراعى فيه أصل ثبوت حكمه بالشرع ، والعرفي ثبت أصله بالعرف ، ويمنع من نقل الموتى حيث يمنع ، ومن خصاء الحيوان حيث يمنع ، ويؤدب عليه وإن استحق عنه قود أو دية أخذه لمستحقه ما لم يكن فيه تناكر ، ويمنع من الكسب بالكهانة ويؤدب عليه الآخذ والمعطي ، والمنكرات كثيرة ، وها أنا أذكر فروعا لمالك رحمه الله .

فرع

قال صاحب البيان : يمنع المحتسب من أخذ الحجام شعور الناس ليزور النساء به شعورهن إذا لم يكن لهن شعر ، لأن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ( لعن الواصلة والمستوصلة ) قاله مالك .

فرع

قال : قال مالك : يخرج من السوق من يغش الناس ، لأنه أشد عليه من الضرب وإن لم يكن معتادا للغش ، وعن مطرف وعبد الملك : يعاقب بالسجن والضرب والإخراج من السوق إن كان معتادا ولا يرجع حتى يظهر توبته وتعلم صحتها ، وغير المعتاد على قول مالك يرجع بعد مدة يرجى أنه تاب فيها وإن لم تظهر توبته ، وقيل : لا يؤدب بالإخراج إلا إذا كان إذا رجع إليه عرف وإلا فلا ، [ ص: 54 ] وأصل الإخراج : أن عمر _ رضي الله عنه _ كتب إلى أمير الأجناد أن لا يترك النصارى بأعمالهم جزارين ولا صرافين ، حذرا من غش المسلمين .

فرع

قال : قال مالك : إذا وجد الزعفران مغشوشا لا يحرق ، ويتصدق باللبن على المساكين إذا كان هو الذي غشه ، وكذلك الزعفران والمسك ، قال ابن القاسم : ذلك في الشيء الخفيف دون الكثير لئلا تذهب أموال عظيمة ، وسوى مالك بينهما ، وأما إن غش غيره فلا خلاف أنه لا يتصدق به ، بل تباع ممن يؤمن أن يغش به ، وكذلك المسك يباع من المأمون ويتصدق بثمنه ، قال : وقول ابن القاسم في التفرقة أحسن ، لأن العقوبات في الأموال إنما كانت في أول الإسلام كما روي عنه _ صلى الله عليه وسلم _ في مانع الزكاة أن يؤخذ منه شطر ماله عزمة من عزمات ربنا ، وعنه _ صلى الله عليه وسلم _ في حريسة الجبل أن فيها غرامة مثليها وجلدات نكالا ، وعنه _ صلى الله عليه وسلم _ : ( من أخذ من حرم المدينة شيئا فلمن أخذه مثله ) ثم نسخ ذلك بالإجماع ، وقال غيره محتجا لمالك : إن العقوبات بالأموال باقية في كفارة الظهار ، وجزاء الصيد إذا قتل عمدا ، وكفارة رمضان .

فرع

قال مالك : لا يباع القمح مغلوثا ويغربل إن كان أكثر من الثلث لعدم انضباطه ، وتستحب الغربلة إن كان يسيرا .

[ ص: 55 ] فرع

قال مالك : يمنع الجزار من نفخ اللحم لأنه يغير طعمه ، ويؤدب إن فعله ، قال : يعني النفخ بعد السلخ ليظهر سمن اللحم ، فهو غش ، ويعتبر من غير ضرورة بخلاف قبل السلخ .

فرع

قال : قال مالك : يمنع الرجل من إعطاء ولده في كتاب العجم يتعلم كتابة العجمية ، ويمنع المسلم من تعليم النصارى الخط وغيره ، لأن في التعليم في كتاب العجم إظهار الرغبة لهم وذلك من توليهم وإعزازهم ، وتعليم المسلم لهم الخط ذريعة لقراءتهم القرآن فيكذبونه ويهزءون به ، وجعل ابن حبيب ذلك مسقطا للشهادة .

فرع

قال : قال مالك : لا يستكتب النصراني لأنه يستشار ، والنصراني لا يستشار في أمور المسلمين .

فرع

قال : قال مالك : يمنع الذي ينظر في النجوم ويقول : الشمس تكسف غدا ، والرجل يقدم غدا ، فإن لم يمتنع أدب ، قال القاضي أبو الوليد : ليس في معرفة الكسوف من جهة الحساب ادعاء غيب ولا ضلالة ، لأنه أمر منضبط بحساب حركات الكواكب ، لكنه يكره الاشتغال به لعدم الفائدة : ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، وربما سمعه الجاهل فظن أنه من علم الغيب فيضر في الدين ، فيؤدب على ذلك لما يؤدي إليه من فساد العقائد ، وأما إخباره بغير ذلك من المغيبات : فقيل : ذلك كفر فيقتل ولا يستتاب ، لقوله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( أصبح من عبادي [ ص: 56 ] مؤمن بي وكافر بي ) الحديث ، وقيل : يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، قال أشهب : يزجر عن ذلك ويؤدب فقط ، قال : وعندي هذا ليس باختلاف ، بل بحسب أحوال ، فإن اعتقد أن النجوم فعالة لذلك ، وهو مستبشر بذلك فشهد عليه قتل بغير استتابة ، لأنه زنديق ، وغير مستبشر فإن تاب وإلا قتل ؛ لأنه كافر غير زنديق ، فإن اعتقد أن الله تعالى هو الخالق عندها أدب ، وقدح ذلك في شهادته ، ولا يحل تصديقه فيما يقول ، قاله سحنون ، لقوله تعالى : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) ولقوله تعالى : ( فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) .

تنبيه : إذا قال إنها فعالة : قال بعض العلماء : يكون ذلك كقول المعتزلة : الحيوانات كلها تفعل بذاتها وتستقل بتصرفاتها ، والصحيح : عدم تكفيرهم ، ولا يكفر أحد من أهل القبلة ، فما الفرق ؟ وإن ادعى أن الله تعالى يخلق عندها . فليس هذا من باب علم الغيب ، لأن الربط بينهما وبين هذه الأحكام إذا سلم كان هذا كالإخبار بمجرد الفصول الأربعة ، وليس من باب الإخبار بالغيب الذي استأثر الله تعالى به ، بل الذي استأثر الله تعالى به العلم بالغيب من غير سبب ، فإنه تعالى لا يحتاج في علمه إلى الأسباب ، بل النزاع مع هذا القائل في الربط فقط ، فنحن نمنعه ، وادعاؤه إياه جهل لادعاء علم غيب ، كما لو ادعى أن الماء يحرق ، والنار تروي ، ليس هذا من ادعاء علم الغيب في شيء ، وقد يخبر الأنبياء والأولياء عليهم السلام بالمغيبات بناء على كشف ، أو علم ضروري ، أو ظن غالب ، يخلقه الله تعالى لهم ، فهذا سبب أوجب لهم ذلك ، وقد قال الصديق في حديث مسلم لما قالت له عائشة _ رضي الله عنه _ : هذان أخواي فمن أختي ؟ قال : ذو بطن بنت [ ص: 57 ] خارجة أراها جارية ، فأخبر بأن الذي في بطن امرأته أنثى ، مع أن الله تعالى يقول : ( ويعلم ما في الأرحام ) من غير سبب . والصديق يعلمه بسبب ما خلقه الله في نفسه ، فينبغي أن يتنبه الفقيه لهذه القاعدة حتى يعلم ما يكفر به مما لا يكفر به ، وما وجب اختصاصه بالله مما لم يجب ، ويحصل له فهم المنقولات عن الصحابة وغيرهم ، والجمع بينها وبين الأدلة الشرعية .

فرع

قال : قال مالك : ينهى الذي يزعم أنه يعالج المجانين بالقرآن ، لأن الجان من الأمور الغائبة ، ولا يعلم الغيب إلا الله .

فرع

قال : قال مالك : لا يخلط الطيب من القمح أو الزيت أو السمن برديئه فيحرم ؛ لأنه غش إلا أن يبين عند البيع الخلط وصفة المخلوطين وقدرهما ، ويباع ممن لا يغش به ، وهذا فيما لا يتميز كالزيتين ، أما القمح بالشعير ، والطعام بالغلة ، والسمين مع المهزول ، فلا يباع الكثير منه حتى يميز أو يفرقا ، ويجوز في القليل ، وقيل إن خلطه للبيع منع ، أو للأكل جاز في اليسير ، قاله عبد الملك ومطرف .

فرع

قال : قال مالك : يمنع من يبيع للصبيان ، لأنه لا يدري هل أذن في ذلك أولياؤهم أم لا ، فيكره ذلك تنزيها .

فرع

قال : قال ابن القاسم : يحال بين المجذوم البين الجذام وبين رقيقه إذا كان يضر بهم كما لا يحال بينه وبين الحرة امرأته ، وقال سحنون : لا يمنع من وطء [ ص: 58 ] إمائه ، لقوله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( لا عدوى ولا طيرة ) الحديث ، وقد رأى عمر _ رضي الله عنه _ امرأة مجذومة تطوف بالبيت فقال لها : يا أمة الله ، لو جلست في بيتك ، لا تؤذي الناس ، فجلست ، وسحنون يقول : ضررهن أعلى ، لأنه يؤدي به الحال إلى الزنى أو العنة .

قاعدة :

كل حكم مرتب على عرف وعادة ، يبطل عند زوال تلك العادة ، كإيجاب النقود في المعاملات ، والحنث بالأمور المتعارفات ، وصفات الكمال والنقص في عيوب البياعات ، تعتبر في ذلك كله العادات إجماعا ، فإذا تغيرت تلك العوائد تغيرت تلك الأحكام إجماعا ، وولاية الحسبة وغيرها من الولايات ، ضابط ما يندرج فيها مما لا يندرج من الأحكام مبني على العوائد فيما يعرض لمتوليها ، فكذلك قيل : هذا للمحتسب دون القاضي ، وهذا للقاضي دون المحتسب ، فلو اختلفت العوائد اختلفت هذه الاختصاصات ، فاعلم ذلك ، والله عز وجل أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية