صفحة جزء
الأدب الثامن :

قال ابن يونس : ينصف بينهما مجلسهما ، والنظر إليهما ، واستماعه منهما ، ولا ينظر إلى أحدهما بطلاقة وبشر أكثر ، ولا يسارر أحدهما ، ولا يساررهما جميعا إذا لم يسمع أحدهما ما يسارر به الآخر ، قال سحنون : ولا يضيف أحدهما ، ولا يخلو به أو يقف معه ، فإن ذلك مما يوهن خصمه ويدخل عليه سوء الظن ، قال أشهب : ولا يجيب أحدهما في غيبة الآخر ، إلا أن يعرف أن ذا من المختلف أو لم يكن يعرف وجه خصومة المدعي فيسمع منه حتى يعلم أمرهما ، وإذا جلسا فلا بأس أن يقول لهما : ما خصومتهما ، أو يدعهما حتى يبتدئاها ، أو يقول : أيكما المدعي ، فإن علمه سأله عن دعواه ، ويسكت عن صاحبه حتى يسمع حجته ، ثم يأمره بالسكوت ، ويستنطق الآخر ، ولا ينبغي أن يبدئ المدعى عليه بالنطق بل المدعي ، لأن صاحب الحق أرجح شرعا فيقدم ولا يعود لأحدهما بالسؤال فيقول : ما لك ؟ أو تكلم ، إلا أن يعلم أنه المدعي ، وإذا قال أحدهما : أنا المدعي وسكت الآخر ولم ينكر ، فلا بأس أن يسأله عن دعواه ، والأحسن أن يسأله حتى يقر الآخر بذلك ، فإن قال أحدهما : المدعي هذا ولم ينكر الآخر ، فله أن يسأله ، فإن قال كل واحد عن الآخر : هو المدعي ولست مدعيا فللقاضي أن يقيمها حتى يأتي أحدهما للخصومة فيكون هو الطالب ، قاله أصبغ ، وقال ابن الحكم : إذا قال كل واحد : أنا المدعي ، فإن كان أحدهما استمع أو جلب الآخر ، سمع منه أولا ، وإن لم يدر من جلب صاحبه ، ابتدأ بأيهما شاء ، فإن كان أحدهما ضعيفا فأحب إلي أن يبدأ بالآخر ، لأن الظاهر هو القوي الطالب .

[ ص: 68 ] قال أصبغ : فإن أدلى المدعي بحجته : فقال القاضي للآخر : تكلم فإن تكلم نظر في ذلك ، وإن سكت أو قال له : أخاصمه إليك : قال له القاضي : إما خاصمت أو حلفت لهذا المدعي على دعواه ، وحكمت له إن كان مما يستحق من نكول المطلوب إن ثبتت له الخلطة ، لأن نكوله عن التكلم نكول عن اليمين ، وإن كان مما لا يثبت إلا بالبينة : طلب البينة ولا يسجنه حتى يتكلم ، ولكن يسمع صاحبه لأن البينة تحتمل التخريج من قبله ، وكان سحنون إذا شاغب الخصمان أغلظ عليهما ، وربما أمر القومة فزجروهما بالدرة ، وربما شاغبا حتى لا يفهم عنهما فيقول : قوما فإني لا أفهم عنكما ، وله الشد على عضد أحدهما إذا رأى ضعفه عن صاحبه وقربه منه ، ولا بأس أن يلقنه حجة له عمي عنها ، وإنما يكره أن يلقنه حجة الفجور ، وقد قال النبي _ صلى الله عليه وسلم _ : ( من ثبت عييا في خصومة حتى يفهمها ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام ) ومنع سحنون شد عضد أحدهما ، وتلقينه حجته ; لأنه ميل مع أحدهما ، وإذا أقر أحدهما في خصومته بشيء للآخر فيه منفعة ; فعلى الحاكم أن ينبهه على نفعه بذلك ، ويكتبه له . قال سحنون : إذا كان في أمرهما شبهة وإشكال فلا بد أن يأخذهما بالصلح ، وتخاصم رجلان صالحان من أصحابه ، فأقامهما ولم يسمع منهما وقال : استرا على أنفسكما ولا تطلعاني من أموركما على ما ستر عليكما ، وقال عمر _ رضي الله عنه _ : رددوا القضاء بين ذوي الأرحام حتى يصطلحوا . فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن ، وكان سحنون إذا سأله أحد عن مسألة من مسائل الأحكام لم يجبه وقال : هذه مسألة خصومة ، إلا أن يعلم منه إرادة التفقه .

قال مالك : لا يفتي القاضي في مسائل القضاء ، وأما غير ذلك فلا بأس ؛ لأنه عون على البخيل ، والقاضي لا يعين أحد الخصمين ، ولا يرفع الحاكم صوته على [ ص: 69 ] أحدهما دون الآخر ، قال أشهب : له أن يفعله ردعا له للدده ، ويعلم الله منه أنه لو كان من صاحبه ذلك ; لعمل به مثله ، فقد نهى رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ أن يقعد الخصمان بين يدي الحاكم ، وقال : ( إذا ابتلي أحدكم بالقضاء بين المسلمين فلا يرفع صوته على أحد الخصمين دون الآخر ) وفي النوادر : قال أشهب : جلوس الخصوم بين يديه هو الأصل ، فإن كان شأنه يجلس في أي موضع فواسع ، فإن عين المجلس لصداقة أو غيرها أجلسهما منه مجلسا واحدا ، ولا يضيف أحد الخصمين ولا يخلو به ولا يدخل عليه أحد الخصوم بينه ، وإن كان من إخوانه وقد كان يغشاه قبل ذلك ، إذا كان على الاختصاص ليس أمرا عاما ولا تكره له عيادة أحد الخصمين ، ولا شهود جنازة بعض أوليائه ، قال عبد الملك : ولا يدخل عليه أحد الخصمين في مجلس قضائه ، ولا وحده ولا في جماعة ، وإن كان من خاصته ، وليجلس خارجا حيث يأتيه الناس ؛ لأن ذلك كله موهن للآخر . قال اللخمي : قال أصبغ : يسوي بينهما في المجلس وإن كان أحدهما ذميا ، وقيل لا يسوي ، لقول النبي _ صلى الله عليه وسلم _ ( لا تساووهم في المجلس ) قال ( ش ) : وأرى أن يجلسا جميعا ويتقدمه المسلم بالشيء اليسير واقفا ، فإن قال أحدهما أنا الطالب وإنما أحدث الآخر الدعوى عندما طلبته قد المشخص أولى ، أو الثالث أولا إن علم ، وإلا صرفهما ، فإن أبى أحدهما إلا الخصومة قدمه ، وإن [ ص: 70 ] بقي كل واحد متعلقا بالآخر أقرع بينهما ، وإن كان لكل واحد طلب عند الآخر وتشاحا في التبدئة أقرع بينهما لأنه أطيب للنفوس ، وقيل : يخبر ، وقال ابن عبد الحكم : يبدأ بالنظر أضعفهما ، فإن لم يعترف المدعى عليه ولم ينكر : قال محمد : يحكم عليه بغير يمين ، وقال أصبغ : يقول له الحاكم : إما أن تختصم أو حلفت المدعي وحكمت له إن كان مما يستحق بالنكول مع اليمين إذا أثبت لطخا ، قال اللخمي : المدعي مخير بين ثلاث بين أن يأخذ المدعى به بغير يمين على أنه متى عاد المدعى عليه إلى الإنكار أو الخصومة كان ذلك له ، أو يحلف الآن ويحكم له بعد أن يعرف المدعى عليه ذلك ، ولا ينقض له الحكم بعد ذلك إن أتى بحجة إلا ببينة لم يعلم بها ، كمن خاصم ولم يسكت أو يسجن له حتى يقر أو ينكر ; لأنه يقول : هو يعلم أن حق ، وقد يقر إذا سجن فلا أحلف ، كالمشتري يكتم الشفيع الثمن ، اختلف فيه ، هل يسجن أو يقال للشفيع : خذ ولا وزن عليك حتى يثبت الثمن ، وهذا إذا كانت الدعوى في معين : دارا أو عبدا ، وفي الذمة وأقام لطخا ، وإن لم يقم لطخا لم تسمع دعواه . وإن ادعت الزوجة الطلاق فلم يقر ولم ينكر سجن ، ويحال بينه وبينها ، وتطلق عليه إن طال الأمر لحقها في الوطء ، فإن ادعت النكاح سجن ، حتى يقر أو ينكر وإن ادعى عليها نكاحا فلم تقر ولم تنكر ; حيل بينها وبينه حتى تقر أو ينكر ، وكذلك السيد يدعي عليه عبد العتق ، يسجن حتى يقر أو ينكر ، وإذا لفظ أحدهما بما ينفع الآخر فأغفل منفعته فيه ، فعلى الحاكم أن يقول لقائل ذلك : يلزمك على قولك كذا ، ولا يقول لخصمه : قل له كذا ، لأنه تعليم أحد الخصمين بالعناية له يوهن الآخر ، وليس كقوله له : يلزمك كذا ، لا حجة لك في قولك ، فإذا لم يبق لأحدهما حجة ، فإن قال : بقيت لي حجة ، قال محمد : إن كان من طريق العدد ضرب له أجلا ليس بالبعيد ، وإذا ادعى حجة قوية في دار في يديه أمهله الشهرين والثلاثة .

[ ص: 71 ] تمهيد : وفي كتاب ابن سحنون وغيره كتاب عمر _ رضي الله عنه _ لأبي موسى الأشعري ، في فصول القضاء ، ينبغي أن يحفظ أوله : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس ، سلام عليك . أما بعد : فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة ، فافهم إذا أدلى إليك الخصم بحجته فاقض إذا فهمت وانفذ إذا قضيت ، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ، آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك ، حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من عدلك ، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ، وإذا عرفت أهل الشغب والإلداد فأنكر وغير ، فإنه من لم يزع الناس عن الباطل ، لم يحملهم على الحق ، لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك ، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق ، فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ) وقاتل هواك كما تقاتل عدوك ، واركب الحق غير مضار عليه ، وإذا رأيت من الخصم العي والغباوة فسدد فهمه ، وبصره في غير ميل معه ، ولا جور على صاحبه ، وشاور أهل الرأي من جلسائك وإخوانك ) الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة ، ثم اعرف الأشباه والأمثال ، وقس الأمر عند ذلك ، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق ( فيما ترى ) واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه ، فإن أحضر بينته أخذت له [ ص: 72 ] حقه ، وإلا استحللت عليه القضاء ، فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى ، المسلمون عدول بعضهم على بعض ، إلا محدودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور ، أو ظنينا في ولاء أو نسب ، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ عنكم الشبهات ( والأيمان ) وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم ، والتنكر عند الخصومات ، فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ، ويحسن عليه الذخر - ويروى : الذكر - لمن صحت نيته ، وأقبل على نفسه ، كفاه الله ما بينه وبين الناس ، ومن تخلق للناس مما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله ، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام . فهذا الكتاب جمع أكثر أدب القضاء وأحكامه .

فوائد : هذه ولاية نبين تقليدها ، واللفظ المفيد الولاية شرعا ، وما معنى الإدلاء ، وما الفرق بين التنفيذ والحكم ؟ وما معنى : الحق قديم ؟ وما معنى : اركب الحق غير مضار عليه ؟ وكيف جعل المسلمين عدولا من غير كشف ، واكتفى بالعدالة الظاهرة كما قاله ( ح ) ؟ وما معنى النهي عن التنكير عند الخصومات ؟ وما معنى : من تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه ، شانه الله ، وما الجمع بينه وبين قول أبي موسى الأشعري : إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم ؟ والجواب عن الأول من وجهتين : لعل عقد الولاية تقدم ، وهذا للوصية [ ص: 73 ] فقط أو في ألفاظه ما يقوم مقام عقد الولاية ، وهو قوله : إذا أدلى إليك ، وقوله : استحللت عليه القضية ، ونحو ذلك .

وعن الثاني : معناه : أوصل إليه حجته ، ومنه قوله تعالى : ( فأدلى دلوه ) أي أوصله لغير .

وعن الثالث : أن إظهار الحجة الشرعية وكمال النظر فيها ، وإثبات وترتيب مقتضاها عليها من اعتقاده الاستحقاق وتصريحه بتلك حكم ، وإلزام الخصم وقهره لرفع الحق تنفيذ ، فهذا هو الفرق بين الإثبات والحكم والتنفيذ .

وعن الرابع :

أن الحق ها هنا حكم الله ، وهو كلامه النفساني ، وهو قديم ، وفيه إشارة إلى أن المصيب لذلك أحكم ، ففيه حض على بذل الجهد في طلب ذلك الحكم المعين ، أو يكون كلامه إشارة إلى أن بذل الجهد في طلب الحق وهو ما زال في جميع ، فهو قديم بمعنى طول المدة لا بمعنى انتفاء الأولية .

وعن الخامس :

أن معناه : أن يتمكن من الحق بانشراح صدر وطيب نفس ، سالما عن شغب الأهواء ، فإن الركوب يعبر به عن التمكن ، ومن كان ينازعه هواه ويكاد يغلبه الهوى ، فهو مضار في سلوك الحق ، فعلامة إشارة إلى توفير العزم .

وعن السادس من وجهين : أحدهما أن ذلك مذهبه فأخبر به ، لا أنه أمر به ، وثانيهما : أن المسلمين عدول بعد الكشف بخلاف الكفار ، وقيل : إنما قيل ذلك في عصر الصحابة حيث يغلب الخير ، فيلحق النادر بالغالب ، وأما اليوم فغلب الشر ، فيلحق الغالب بالنادر فينعكس الحال .

وعن السابع :

أن التنكر المراد به : الغضب الملهي عن الفكر .

[ ص: 74 ] وعن الثامن : أنه محمول على إظهار الطاعات والباطن بخلافه ، وكلام أبي موسى محمول على المدارة بالكلام ، والأمور المباحة دفعا للشرور واستجلابا للمصالح ، ووافقنا الأئمة على ما تقدم في هذا الأدب .

التالي السابق


الخدمات العلمية