صفحة جزء
المسألة العاشرة : في النوادر : إذا شهدت أنه غصبه إياها ، وشهدت أخرى أن هذا الحائز أقر أنك أودعته إياه ، قدمت بينة الغصب ؛ لأنها تقضي سبق يده ، قاله أشهب ، فإن ادعيت الشراء منه ، وأن بينة الغصب حضرت الشراء وشهدت عليه : قال سحنون : تقدم بينة الشراء لأنها ناقلة ، فإن كان المشتري من أهل الحوز ، فإن أقام بينة على صحة شرائه ، وإلا فسخ بعد يمين مدعي الغصب على إبطال الشراء ، قال ابن القاسم : وإذا شهدت أنك أعتقته ، ولا يعلمون له وارثا غيرك ، دفع إليك ميراثه بغير كفيل ، فإن جاء آخر بعدك بمثل ذلك نظر في حجته ، قال أشهب : ومن حجته أن ينظر من أعتق أولا فيقضى له ، وإن كانت بينة الآخر أعدل الشكل السابق قدم الأعدل ، قال عبد الملك : فإن استووا سقطوا وصار مالا وولاء بغير شهادة يقر بيد من هو بيده ، وإذا شهدت بأرض ذات نخل أنها ملكه وغرست نخلها ، وشهدت أخرى لمن هي بيده بذلك ، قضي بأعدلهما ، فإن استوتا ولم يوقتا أو وقتا وقتا واحدا بطلت شهادتهما في غرس النخل لتكافئهما ، وإن وقتا وقتا بطلت الشهادة في الأرض خاصة أيضا ، وإن [ ص: 193 ] وقتتا وقتا مختلفا قضي بالأرض لأولهما وقتا إلا أن يكون الآخر حاز عليه حيازة تقطع الدعوى فيقضى له بالحيازة ، وإن وقتت إحداهما قضي بالأرض لصاحب المؤقتة ، وإن كانت في يد من لم يوقت ببينة ، وقيل لمستحق الأرض : ادفع لرب النخل قيمتها الساعة قائمة ، وإلا أعطاك قيمة أرضك براحا ، فإن امتنعا كانا شريكين بقيمة الأرض بيضاء ، وقيمة النخل يوم الحكم ، فإن كان فيهما غير النخل : قطن ، قضي بالأرض والقطن لأعدلهما . فإن استوتا فلمن هي بيده قضي للحالف ، قال ابن عبدوس عن سحنون : إنما خالفت مسألة الأمة وأمها مسألة الأرض والغرس في التوقيت ؛ لأن الأمة إذا ولدت في ملكه فالولد له ، وقد يغرس فيما هو لغيرك ، قال : وينبغي في مسألة الأرض والغرس : إذا سقطت في الغرس أن تسقط في الأرض ؛ لأنها شهادة واحدة سقطت .

تمهيد : تقدم أن بينة صاحب اليد أولى عند التساوي أو هي أعدل ، سواء كانت الدعوى والشهادة بمطلق الملك أو بمضاف إلى سبب ، نحو : هو ملكي نسجته ، أو ولدت الدابة عندي في ملكي ، كان السبب المضاف إليه الملك يتكرر في الملك كنسج الخز وغرس النخل أم لا ، وقاله ( ش ) وقال ابن حنبل : بينة الخارج أولى ، ولا تقبل بينة المدعى عليه أصلا ، قال ( ح ) : تقدم بينة الخارج إن ادعى مطلق الملك وإن كان مضافا إلى سبب يتكرر ، وادعاه كلاهما فكذلك ، أو لا يتكرر كالولادة وادعياه وشهدت البينة به فقالت كل بينة ، وله على ملكه قدمت صاحب اليد ، لنا على ابن حنبل : ما روي عن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ أنه تحاكم إليه رجلان في دابة ، وأقام كل واحد [ ص: 194 ] البينة أنها له فقضى بها رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ لصاحب اليد ؛ ولأن اليد [ . . . ] ولنا على ( ح ) ما تقدم ، والقياس على المضاف إلى سبب لا يتكرر ، احتجوا بأن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ قال ( البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ) وهو يقضي صنفين من [ . . . ] اليمين حجته فبينته غير مشروعة فلا تسمع كما أن [ . . . ] أو لأنها لا تعارض في سبب لا يتكرر كالولادة ، شهدت هذه بالولادة ، والأخرى [ . . . ] فسقطتا فبقيت اليد ، فلم يحكم له بالبينة ، أما ما يتكرر له تعين السبب مهم ، بعد بينة إلا ما أفادته يده فسقطت لعدم الفائدة ؛ ولأن صاحب اليد إذا لم تقم للطالب بينة لا تسمع بينته ، وإن لم تسمع في هذه الحالة - وهي أحسن حالتيه - فكيف إذا أقام الطالب بينة ؟ لا تسمع بطريق الأولى ، فإنه في هذه الحالة أضعف ؛ ولأنا إنما أعملنا بينة في صورة النتاج ؛ لأن دعواه إفادة الولادة ولم تعدها يده ، وشهدت البينة بذلك ، فأفادت البينة غير ما أفادت اليد فقبلت .

الجواب عن الأول : القول بالموجب ، فإن الحديث جعل بينة المدعي عليه ، وأنتم تقولون : له فيتعين أن يكون المراد بها بينة ذي اليد ؛ لأنها هي التي عليه ، سلمنا عدم القول بالموجب ، لكن المدعي إن فسر بالطالب ، فصاحب اليد طالب لنفسه ، فتكون البينة مشروعة في حقه ، وإن فسرنا ضعف المتداعيين سببا فالخارج لما أقام بينته ، صار الداخل أضعف فوجب أن يكون مدعيا تشرع البينة في حقه ، سلمنا دلالته ، لكنه معارض بقوله ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) والعدل : التسوية في كل شيء حتى يقوم المخصص فلا تسمع بينة أحدهما دون الآخر ، وبقوله _ صلى الله عليه وسلم _ لعلي [ ص: 195 ] _ رضي الله عنه _ : ( لا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر ) وهو يفيد وجوب الاستماع منهما ، وإن من قويت حجته حكم بها ، وأنتم تقولون : لا يسمع بينة الداخل .

وعن الثاني : أنه ينتقض بما إذا تعارضتا في دعوى طعام ادعيتما زراعته ، وشهدتا بذلك ، والزرع لا يزرع مرتين كالولادة ، ولم يحكموا به لصاحب اليد ، وبالملك المطلق في المال لاستحالة ثبوته لكما في الحال ؛ ولأنه لو حكم له باليد دون البينة لما حكم له إلا باليمين ؛ لأنه شأن اليد المنفردة ، ولما لم يحتج اليمين علم بأنه إنما حكم له بالبينة ، ولأنه لما حكم له حيث كذبت بينته أولى أن تحكم له إذا لم تكذب بينته ؛ ولأن اليد أضعف من البينة ، بدليل أن اليد لا يقضى بها إلا باليمين ، ويقضى بالبينة من غير يمين ، ولو أقام الخارج بينة قدمت على يد الداخل إجماعا ، فعلمنا أن البينة تفيد ما لا تفيده اليد .

وعن الثالث : أنه إنما لم تسمع بينة الداخل عند عدم بينة الخارج ؛ لأنه حينئذ قوي باليد ، والبينة إنما تسمع من الضعيف فوجب سماعها للضعف ، ولم يتحقق إلا عند إقامة الخارج بينة .

وعن الرابع : أن الدعوى واليد لا تفيد مطلقا شيئا ، وإلا لكان مع المدعى عليه حجج اليد والدعوى والبينة يخيره الحاكم فيها أنه متى أقام كمن شهد له شاهدان ، وشاهد وامرأتان ، خير بينهما وبين اليمين مع أحدهما ، فعلم بأن المفيد إنما هو البينة ، واليد لا تفيد ملكا وإلا لم يحتج معها لليمين كالبينة ، بل تفيد التبعية عنده حتى تقوم البينة ؛ ولأنها لو أفادت وأقام المدعي بينة بأنه اشتراها منه لم يحتج إلى يمين

تنبيه : خالفنا الأئمة أيضا في الترجيح بزيادة العدالة ، ووافقونا في عدم الترجيح بالعدد . لنا [ . . . ] اعتبرت لما تثيره من الظن في الأعدل أقوى [ ص: 196 ] فيقدم ، كأخبار الآحاد إذا رجح أحدها [ . . . ] بلا عدد فيكون هو المعتبر ، لقوله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( أمرنا أن نحكم بالظاهر ) ولأن إلا [ . . . ] في الشهادة أكثر من الروايات ، بدليل جواز العبد والمرأة المنفردة في الرواية دون الشهادة [ . . . ] لما كان الاحتياط مطلوبا أكثر في الشهادة ، وجب أن لا يعدل عن الأعدل ، والظن الأقوى فيها قياسا على [ . . . ] المدرك في هذا الوجه : الاحتياط ، وفي الوجه الأول الجامع إنما هو الظن ، وإذا اختلفت الجوامع في القياسات تعددت ، احتجوا : بأن الشهادة مقررة في الشرع فلا تختلف بزيادة المأخوذ فيه ، فدية الصغير كدية الشريف البطل العالم ؛ ولأن البطل العظيم من الفسقة يحصل من الظن أكثر من الشاهدين ، وهو غير معتبر ، فعلم بأنها تعبد لا يدخلها الاجتهاد ، وكذلك الجمع من النساء والصبيان ، إذا كثروا ؛ ولأنه لو اعتبرت زيادة العدالة - وهي صفة - لاعتبرت زيادة العدد وهي بينات معتبرة إجماعا ، فيكون اعتبارها أولى من الصفة ، ولا يعتبر العدد فلا تعتبر الصفة الضعيفة .

والجواب عن الأول : أن وصف العدالة مطلوب في الشهادة ، وهو موكول إلى اجتهادنا ، وهو متزايد في نفسه ، فما رجحنا إلا في موضع اجتهاد لا في موضع التقرير .

وعن الثاني : أنا لا ندعي أن الظن كيفما كان يعتبر ، بل ندعي أن مزيد الظن بعد حصول أصل معتبر ، كما أن قرائن الأحوال لا تثبت بها الأحكام والفتاوى ، وإن حصلت ظنا أكثر من البينات والأقيسة وأخبار الآحاد ؛ لأن [ ص: 197 ] الشرع لم يجعلها مدركا للفتيا والقضاء ، ولما جعل الأخبار والأقيسة مدارك للفتيا دخلها الترجيح إجماعا ، وكذلك هاهنا أصل البينة معتبر لعد العدالة والشروط المخصوصة فاعتبر فيه الترجيح . وعن الثالث : أن الترجيح بالعدد يفضي كثرة النزاع ، وطول الخصومات ، فكما رجح أحدهما بمزيد سعى الآخر وطلب الإمهال ليحصل زيادة بينته فيطول النزاع ، وليس في قدرته أن يجعل بينته أعدل فلا يطول النزاع ، ولأن العدد مقرر بعين ما تقدم ، فامتنع الاجتهاد فيه ، بخلاف وصف العدالة ، وكذلك أنه يختلف باختلاف الأمصار والأعصار ، فعدول زماننا لم يكونوا يقبلون في زمان الصحابة ، وأما العدد فلم تختلف ألبتة مع أنا نلتزم الترجيح بالعدد على أحد القولين عندنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية