صفحة جزء
النظر الثاني : في بيان حقيقة المدعي والمدعى عليه

وأصله قوله :

لو أعطي الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، ولكن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر فليس كل طالب [ ص: 8 ] مدعيا ، بل قد يكون مدعى عليه كاليتيم إذا بلغ ، وادعى عدم قبض ماله تحت يد الوصي ، فإنه مدع ، عليه البينة ، وطالب الوديعة التي سلمها ببينة مدعى عليه ، ولا يقبل قول المطلوب المودع إلا ببينة أن الوصي ما يؤمنه الله في الدفع لأمره إياه فيه بالإشهاد ، والمودع لم يؤمن المودع عنده ، لأنه أشهد عليه عند الدفع ، فقد أمنه على الحفظ دون الرد ، ونظائره كثيرة ، فلذلك قال الأصحاب : المدعي من خالف قوله أصلا ، كدعوى الدين أو عرفا كالوديعة المشهود بها ، فإن العادة : أن من أشهد عليه لا يعطي إلا ببينة ، والمدعى عليه من وافق قوله أصلا أو عرفا ، وقيل : المدعي هو أضعف المتداعيين سببا ، والمدعى عليه هو أقوى المتداعيين سببا ، وهو راجع إلى الأول ، فاليمين أبدا من جهة المدعى عليه ، والبينة على المدعي ، ليكون هذا شأنك في الترجيح بالعوائد وما يشبه من الأثمان وظواهر الأحوال وهي أمور غير منحصرة ، فمن رجح بواحد منها فهو المدعي ، غير أنه قد أجمعت الأمة على أن الطالح إذا ادعى على الصالح فلسا أو بالعكس ، فإن الثاني مصدق منهما كائنا من كان ، ولا يصدق الصالح على الطالح ولو وصل الصالح إلى أقصى مراتب الصلاح ، والآخر إلى أقصى مراتب الكذب والفساد ، بل المرجحات تفتقر إلى دليل شرعي يدل على اعتبارها ، وبهذا ينتقض قول الأصحاب : المدعي من خالف قوله عرفا أو أصلا ، فإن الفاسق إذا كذب الصديق في دعوى الفلس ، العادة تكذبه مع أنه مدعى عليه إجماعا ، فاعلم ذلك .

تنبيه : قال بعض العلماء : اختلاف العلماء في تقديم الأصل على الغالب ليس على إطلاقه ، فقد انعقد الإجماع على تقديم الأصل على الغالب في هذه الصورة ، وعلى تقديم الغالب على الأصل في البينة ، لأن غالبهما الصدق ، والأصل : براءة ذمة المشهود عليه ، والبينة مقدمة إجماعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية