صفحة جزء
( الفصل الثالث ) في المتيمم به

في الجواهر : هو التراب ، والحصباء ، والسباخ ، والجص والنورة غير مطبوخين ، وجميع أجزاء الأرض إذا لم تغيرها الصنعة بطبخ ، أو نحوه سواء وجد التراب ، أو لم يوجد خلافا ش ، وابن شعبان منا في قصر التيمم على التراب ، وخصص ابن حبيب الإجزاء بعدم التراب ، ويجوز بالملح عند مالك ، وابن القاسم ، ولا يجوز عند أشهب ، وقال اللخمي : في الملح ثلاثة أقوال : المنع لمالك لأنه طعام ، والجواز لابن القصار لأنه أجزاء من الأرض احترقت ، والتفرقة بين المعدني فيجوز لأنه أجزاء الأرض احترقت بحر الشمس ، وبين المصنوع لمخالطته لغيره بالصنعة ، وقال ابن يونس : قال مالك - رحمه الله تعالى - : لا يتيمم على الرخام كالزمرد ، والياقوت ، ولا الشب ، والزاج ، والزرنيخ ، والكحل ، والكبريت لأنها عقاقير .

قال سليمان في السليمانية : إن أدركه الوقت في أرضها ، ولا يمكنه الخروج حتى يخرج الوقت أجزأه قال : وقال مالك : يتيمم على المغرة لأنه تراب منه الأحمر ، والأصفر ، والأسود ؛ يريد إذا كان غير مطبوخ . قال صاحب الطراز : المتولد في الأرض منه ما يشاكلها كالزرنيخ ، والكحل ، والمغرة فيجوز به التيمم ، وقال أبو بكر الوقاد : لا يتيمم ، وأما المنطرقة كالفضة ونحوها ، فلا يتيمم به قولا واحدا ، وأما النخيل ، والحلفاء ، والحشيش ، ونحوه إذا لم يقدر على قلعه قال الأبهري ، وابن القصار : يتيمم به فيضرب بيده الأرض عليها ، وأجازه الوقاد في الخشب إذا علا وجه الأرض كما في الغابات لأنه ضرورة ، ولأنه لو حلف لا يبرك على الأرض ، فبرك على هذه المواضع حنث ، ولو برك على جذع ، وشبهه لم يحنث .

[ ص: 347 ] فتلخص أن المتيمم به ثلاثة أقسام : جائز اتفاقا ، وهو التراب الطاهر ، وغير جائز اتفاقا ، وهو المعادن ، والتراب النجس ، ومختلف فيه ، وهو ما عدا ذلك .

حجتنا على الشافعي رضي الله عنه قول الله تعالى : ( فتيمموا صعيدا طيبا ) قال ثعلب ، وجماعة من أئمة اللغة كأبي عبيدة ، والأصمعي : الصعيد وجه الأرض من الصعود ، وهو العلو ، ومنه سميت القتاة صعدة لعلوها ، فكل ما صعد على وجه الأرض ، فهو صعيد يجوز التيمم به إلا ما خصه الدليل .

فإن قيل : قوله تعالى : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) وصيغة منه تقتضي التبعيض ، والتبعيض إنما يتصور في التراب لا في الحجر ، وكذلك لفظ المسح لا يتصور إلا مع التراب إذ لا يصدق مسحت يدي بالمنديل إلا وفي اليد شيء يزال .

قلنا : السؤالان جليلان ، والجواب عن الأول من وجوه :

الأول : أن من كما تكون للتبعيض تكون لابتداء الغاية كقولنا : بعت من ها هنا إلى ها هنا ، وابتداء الفعل في التيمم هو المسح من الحجر .

الثاني : أنها تكون لبيان الجنس كقوله تعالى : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) فيكون المراد : امسحوا من هذا الجنس الطهور الطاهر ، فإنه المراد عندنا بالطيب احترازا من النجس .

الثالث : أن الحجر لو سحق لم يصح التيمم به مع إمكان التبعيض فيكون ظاهر اللفظ عندكم متروكا فيسقط الاستدلال .

وعن الثاني : أن نقول : الغالب على الحجر وسائر أنواع الأرض إذا مرت عليها اليدان أن يتعلق بهما ما يغبرهما ، فصح المسح لذلك ، وأما الحجر الذي دلك مرارا ، أو غسل ، وهو بين الغسل فنادر ، والخطاب مبني على الغالب .

[ ص: 348 ] وأما الطيب ، فليس المنبت خلافا له ، حيث استدل بقوله تعالى : ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ) لأن الطيب في اللغة هو الملائم للطباع المستحسن اللائق بالسياق ؛ يدل على ذلك قوله تعالى : ( والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ) وليس المراد المنبتات بل البعيدات من الدناءات الشرعية ، وقوله عليه السلام : من تصدق بكسب طيب ، ولا يقبل الله إلا طيبا . المراد الحلال لأنه المناسب للسياق في الإنفاق ، وقوله : ( والبلد الطيب ) إنما حمل على المنبت ; لأن السياق في الزراعة ، والسياق فيما نحن فيه في الطهارات ، فوجب أن يكون المراد بالطيب الطاهر ; لأن المناسب للسياق التطهر ، وفي الصحيحين عنه عليه السلام أنه قال : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ، وبعثت للأحمر ، والأسود ، وجعلت لي الأرض مسجدا ، وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة صلى . الحديث ، وأما قوله عليه السلام في بعض طرقه : وترابها طهورا . فلا حجة فيه للشافعي ; لأن الأرض مشتملة على التراب وغيره ، والقاعدة الأصولية أن تخصيص بعض أنواع العام بالذكر لا يقتضي تخصيصه . نعم يدل على شرفه ، ونحن نقول به .

تنبيه : قال صاحب الطراز : قوله في الكتاب سئل عن الحصا ، والجبل يكون عليه ، وهو لا يجد ترابا أيتيمم عليه قال : نعم ، ليس المراد أن عدم التراب شرط بل وقع ذلك اتفاق في السؤال . فروع أربعة :

الأول : قال في الكتاب : إذا وجد الطين ، وعدم التراب وضع يديه عليه ، ويجففه ما استطاع ، ويتيمم به خلافا ش في قوله : الطين لا يسمى صعيدا ، وهو ممنوع ; لأن الطين تراب وماء ، والماء أفضل من التراب ، والأفضل لا يوجب قصورا في المفضول و .

[ ص: 349 ] الثاني : قال في الكتاب : إذا تيمم على موضع نجس أعاد في الوقت قال : وكان مالك يقول : من توضأ بماء غير طاهر أعاد في الوقت ، وكذلك هذا عندي ، وقال القاضي في الإشراف عن ابن عبد الحكم والأبهري : لا يجزيه ، وهو مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ، ونقض أبو حنيفة أصله في أن الشمس تطهر . قال صاحب الطراز : قال أبو الفرج : أظن أن ابن القاسم رأى أن النجاسة لما لم تظهر عليه كان كالماء المشكوك فيه ، فلا ينجسه إلا ما غيره كالماء قال : ويمكن أن يقال : إن التيمم لا يجب إيصال التراب فيه إلى البشرة إذ لو تيمم على الحجر الصلد أجزأه ، وإنما الواجب قصد الأرض ، وضربها باليد ، والمرتفع من التراب النجس إلى الأعضاء لم يحصل به خلل في طهارة الحدث ، وإنما هو حامل لنجاسة لم يتعمدها فيعيد في الوقت على قاعدة إزالة النجاسة ، أو لأن الغبار ينتقل مع الريح الجارية على هذا المكان ، والتيمم إنما يقع على أعلى المنتقل الطاهر ، ولما كان المذهب في الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره أنه نجس احتاج الأصحاب ها هنا إلى الفرق بينه وبين التراب الذي لم يتغير .

فقال أبو الفرج : الماء ينقل المحدث إلى كمال الطهارة ، فاشترط فيه ما لم يشترط في التراب الذي لا ينقل إلى كمال الطهارة ، وقال غيره : الماء يتوصل إلى نجاسته بالحواس بخلاف التراب ، فإن المطلوب فيه الاجتهاد ، فإذا أخطأ ، فلا شيء عليه ; لأن المنتقل إليه من التراب لا يقطع بطهارته ، وإنما يمكن فيه ذلك ، فنقض الظن بالعلم متجه ، وأما نقض الظن بالظن فلا ، كالمجتهد في الكعبة إذا أخطأ في اجتهاده حيث يؤمر بالاجتهاد ، ولو أمكنه العلم بالكعبة أعاد أبدا ، قال ابن حبيب ، وأصبغ : هذا إذا لم يعلم نجاسته ، فإن علم أعاد أبدا ، ووجه عدم الإجزاء قوله تعالى : ( فتيمموا صعيدا طيبا ) والطيب ها هنا الطاهر على ما تقدم ، وهذا ليس بطاهر ، ولأن الطهارة لا تحصل بالنجاسة .

[ ص: 350 ] قال صاحب الطراز : ولو تغير بالنجاسة لم يجزه وفاقا .

فرع : مرتب : إذا منعنا التيمم من التراب المذكور ، فهل نكرهه بالتراب الذي تيمم به مدة لأجل طهارة الحدث كما في الماء ؟ فلابن القاسم في النوادر : لا بأس به ، وهو مذهب الشافعي ، والفرق بينه ، وبين الماء المستعمل أن المستعمل من التراب هو ما علق باليدين ، أما ما بقي فهو كالماء الباقي في الإناء ، فإنه طاهر إجماعا ، وإنما الخلاف في الساقط الذي بقي من الأعضاء . الثالث : في الجلاب : لا يتيمم على لبد ، ولا حصير ، وإن كان فيهما غبار خلافا ح .

لنا : أنها ليست بصعيد ، فلا يجزئ .

الرابع : في الجواهر : من لم يجد ماء ، ولا ما يتيمم به كالمصلوب ، والخائف من النزول عن الدابة ، والمريض لا يجد من يناوله ذلك ، فأربعة أقوال :

يصلي ، ويقضي إذا وجد ماء ، أو ترابا لابن القاسم في العتبية ، وعبد الملك ، ومطرف ، وابن عبد الحكم ، والشافعي ، ولا صلاة ، ولا قضاء لمالك ، وابن نافع ، ويقضي ، ولا يصلي في الحال لأصبغ ، وأبي حنيفة ، ويصلي ، ولا يقضي لأشهب .

فوجه الصلاة في الحال ما في الصحيحين أنه عليه السلام أرسل أناسا في طلب قلادة عائشة رضي الله عنها ، فأدركتهم الصلاة ، فصلوا بغير وضوء ، ولم يكن إذا ذاك تيمم ، فشكوا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت آية التيمم ، ولم ينكر عليهم ، فكان شرعا عاما حتى يرد رافعه .

ووجه القول بعدم الصلاة في الحال قوله عليه الصلاة والسلام : لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، وما لا يقبل لا يشرع فعله ، ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجنب ، ولم يعلم أن الجنب يتيمم ، فلم يصل ، وهو في الصحيحين .

ووجه القول بعدم الإعادة أنه فعل ما أمر به ، فلا إعادة إلا بأمر جديد [ ص: 351 ] والأصل عدم ذلك ، قياسا على المريض والمسافر يصليان كما أمرا ، ولا يعيدان ، ولأنه عليه السلام لم يأمر من ذهب للقلادة بإعادة .

وقال ابن بشير : منشأ الخلاف هل الطهارة شرط في الوجوب ، أو في الأداء ، فمن رأى أنها شرط في الوجوب لم يوجب الصلاة في الحال ، وهذا مشكل منه - رحمه الله تعالى - ، فإن الأمة مجمعة على أن الوجوب ليس مشروطا بالطهارة ، وإلا لكان لكل مكلف أن يقول أنا لا تجب علي الصلاة حتى أتطهر ، وأنا لا أتطهر ، فلا يجب علي شيء ; لأن وجوب الطهارة تبع لوجوب الصلاة ، فإذا سقط أحدهما سقط الآخر ; لأن القاعدة أن كل ما هو شرط في الوجوب كالحول مع الزكاة ، والإقامة مع الجمعة والصوم لا يتحقق الوجوب حالة عدمه ، ولا يجب على المكلف تحصيله ، فإن كان مراده أمرا آخر ، فلعله يكون مستقيما .

التالي السابق


الخدمات العلمية