صفحة جزء
الجناية الثانية

الردة


نسأل الله تعالى العافية منها ومن غيرها ! والنظر في حقيقتها وحكمها !

النظر الأول : في حقيقتها : وهي عبارة عن قطع الإسلام من مكلف - وفي غير البالغ خلاف - إما باللفظ أو بالفعل كإلقاء المصحف في القاذورات ، ولكليهما مراتب في الظهور والخفاء ، ولذلك لا تقبل الشهادة فيها إلا على التفصيل ، ولختلاف المذاهب في التكفير .

والأصل : حمله على الاختيار في دار الحرب وغيره حتى يثبت الإكراه فيسقط اعتباره لقوله تعالى : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) .

وفي هذا الطرف سبع مسائل :

الأولى : في الجواهر : روى ابن القاسم ، إن أسلم ، ثم ارتد عن قرب ، وقال : أسلمت عن ضيق ، إن عرف أنه عن ضيق ناله أو خوف ونحوه عذر ، وقاله ابن القاسم ، وقال أشهب : لا يعذر ويقتل وإن علم أنه عن ضيق ، وقاله ( ش ) ; لأن الإكراه على الإسلام مشروع كما في الحربيين ، جوابه : أنه مسلم فيهم لعدم العهد ، أما الذمي : فعهده يمنع الإكراه فلا يثبت منه إسلام حقيقي مع اختيار .

قال أصبغ : قول مالك أحسن ، إلا أن يثبت على الإسلام بعد الخوف . قال محمد [ ص: 14 ] في النصراني : يصحب القوم في سفر فيظهر الإسلام ويتوضأ ويصلي وربما أمهم ، فلما أمن قال : تحصنت بالإسلام لئلا تؤخذ بناتي ونحو ذلك ، له إن أشبه ما قال ، ويعيدون ما صلوا خلفه في الوقت وبعده ، وقالهمالك ، وقال سحنون : إن كان في موضع يخاف على نفسه فدارى عنها وعن ماله فلا شيء عليه ، ويعيد القوم صلاتهم ، أو في موضع هو فيه آمن عرض عليه الإسلام ، إن أسلم لم يعيدوا صلاتهم وإلا قتل وأعادوا .

قاعدة : الإكراه مسقط لاعتبار الأسباب كالبيع والطلاق وغيرهما ، والردة سبب الإهدار والإسلام سبب العصمة فيسقطان مع الإكراه ، غير أن ( ش ) اشترط الإكراه على غير الذمي يقضي بإسقاطه فلا بد أن يلزمه على الطلاق . وإلا لا يسقط ، وكذلك سائر الأسباب ، ونحن نلاحظ المعنى ، فمتى ألجئ للشيء بالخوف على غيره وإن لم يقصده المكره له ، عد إكراها فيه ، وهو مقتضى الفقه ; لأن المقصود وقوع التصرف على خلاف الداعية والاختيار ، وأنه صار كالآلة ، وما فيه من الداعية منسوب للمكره ، لا له .

الثانية : في النوادر . قيل لراهب : أنت عربي عرفت فضل الإسلام فما منعك منه ؟ قال : كنت مسلما زمانا ولم أره خيرا من النصرانية فرجعت إليها ، وقال : عند [ ص: 15 ] الإمام كنت كاذبا ، قال ابن وهب : لا يعاقب ولا يستتاب إلا أن يشهد عليه من رآه يصلي ولو ركعة .

الثالثة : قال : قال ابن القاسم : إن قال أسلمت مخافة الجزية أو أمر أظلم فيه ، قبل منه ، وليس كالمرتد ، ولو اشترى مسلمة فأخذ معها فقال : أنا مسلم ، واعترف أنه إنما قال ذلك لمكانها ، لا يلزمه إلا الأدب دون السبعين سوطا ( قاله ابن القاسم ) .

الرابعة : قال : إن ارتد ولد المسلم المولود على الفطرة وعقل الإسلام ولم يحتلم ، قال ابن القاسم : يجبر على الإسلام بالضرب والعذاب ، فإن احتلم على ذلك ولم يرجع قتل ، بخلاف الذمي يسلم ثم يرتد وقد عقل ، ثم يحتلم على ذلك ، وفرق بينهما ، وليس كذلك المرتد ، وجعلهم أشهب سواء ، ويرد إلى الإسلام بالسوط والسجن . وقال ( ش ) : لا تنعقد ردة الصبي والمجنون ولا إسلامهما ، وله في السكران بمعصية قولان . ومنع ( ح ) في السكران الإسلام والردة ، وقال أصبغ وابن حنبل : يصح إسلام الصبي وردته ، غير أن ( ح ) قال : تبين امرأته ويزول ملكه ولا يقتل ، وقال ابن حنبل : يقتل بعد البلوغ بثلاثة أيام للاستتابة .

لنا قوله عليه السلام : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) في الحديث ، و ( من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ) وقياسا على الصلاة والحج ، وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، فأول الصبيان إسلاما علي - رضي الله عنه - [ ص: 16 ] وهو ابن ثمان ، وكذلك الزبير ابن ثمان ، وهو كثير ، وإذا صح إسلامه فكذلك ردته ، لأنهما معنيان يتقرران في القلب كالبالغ .

احتجوا بقوله - عليه السلام - : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ) ، وأنه لا يصح إقراره ولا طلاقه ولا عقوده ، فلا تصح ردته وإسلامه كالمجنون .

والجواب عن الأول : أن رفع القلم رفع الإثم ، ونحن لا نؤثمه حينئذ ، بل نعتبره شيئا يظهر أمره بعد البلوغ .

الجواب عن الثاني : أن هذه أعظم خطرا ، فاعتبرت بخلاف غيرها ، فإن قاسوا على قتل الآدمي فإنه لا يوجب عليه قتلا بعد البلوغ قريبا بذلك ، ويؤكد ما قلناه أن الأسباب العقيلة معتبرة من الصبي والمجنون ، كالاصطياد والاختطاف وإحبال الإماء ، والكفر والإيمان فعلان للقلب فاعتبرا .

قاعدة : خطاب التكليف يفتقر إلى العلم والقدرة وأهلية التكليف ، وخطاب الوضع لا يفتقر لشيء من ذلك في أكثر صوره ، وهو وضع الأسباب والشروط والموانع ، كالتطليق بالإعسار ، والتوريث بالأسباب ، والضمان بالإتلاف ، والزكاة بملك النصاب ، وغير ذلك . ومقتضى هذه القاعدة اعتبار الإسلام والكفر من الصبيان ; لأنهما سببان للعصمة والإهدار ، وكذلك الطلاق والقتل [ ص: 17 ] والبيوع والعقود والتصرفات كلها ، لأنها أسباب ، غير أن ثمة فروقا وأسرارا نذكرها في أبواب الفقه في هذه الفروع ، غير أن هذه القاعدة في هذه المسألة معنا ، فننبه بهذه القاعدة على فروعها ، والسعي في الفرق مما استثني عنها فإنها جليلة .

تنبيه : الطلاق والعقود ينبني عليها فوات مصالح في الأعراض والمعوضات ، فاشترط فيها رضاه المطابق للمصلحة غالبا ، وذلك إنما يكون بعد البلوغ وكمال العقل المدرك لذلك ، فلم يعتبر قبل البلوغ ، والكفر والإيمان حق الله تعالى ، فلم يكن رضاه المعتبر معتبرا فيها ، إذ ألحق لغيره ، كالجنايات بالإتلاف وغيره ، فهذا سرها من حيث الإجمال ، والتفصيل يذكر في مواضعه .

فرع :

قال ابن القاسم : إن طلقت النصرانية وغفلت عن ولدها منك حتى احتلم على النصرانية ترك ( وكذلك إن أسلم وترك ) ولده الصغير حتى كبر ، قاله مالك ، وقال ابن القاسم وأشهب : يجبر على الإسلام ; لتعين إسلامه الحكمي بإسلام أبيه ، وقال ابن عبد الحكم : إلا أن يكون وقت الإسلام ابن اثنتي عشرة سنة ، لستقلاله بالنظر حينئذ ، وإن مات أبوه وقف ميراثه ، إن ثبت بعد البلوغ نصرانيا لم يرثه ، وإلا ورث ، وإن أسلم قبل البلوغ ورث أيضا ، إن كان وقت الإسلام ابن ست فهو مسلم . قال مالك : إن أسلم والولد مراهق ، وقف الميراث إلى البلوغ ، إن أسلم ورث وإلا ترك ولم يرث . قال ابن القاسم ، ولا يقبل منه قبل البلوغ إن قال لا أسلم وإن احتلمت ، وإن أسلم الآن لم يعط الميراث للبلوغ ، والمرتد قبل البلوغ لا يصلى عليه [ ص: 18 ] ولا تؤكل ذبيحته . قال سحنون : من رأى عدم الصلاة عليه كانت ردته فرقة من امرأته وإلا فلا ، والأولى قول ابن القاسم في الصبي والصبية ، وإن أسلم وعقل الإسلام ، وارتد قبل البلوغ ومات ورثه أهله لضعف إسلامه ; لأن مالكا يكرهه بالضرب وإن بلغ ، والمغيرة يقتله إن تمادى بعد البلوغ ، وأما المرتد من أولاد المسلمين فأجمع أصحابنا على قتله إذا بلغ وتمادى . قال مالك : إن تزوجت نصرانية فلما بلغ أولادها قالوا لا نسلم ، لا يجبرون على الإسلام ولا يقتلون ; لأن الخلاف في تبعهم لأمهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية