صفحة جزء
قاعدة :

الكفر : هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية ، إما بالجهل بوجوده أو صفاته ، أو بفعل ، كرمي المصحف في القاذورات ، والسجود للصنم ، أو التردد للكنائس بزي النصارى في أعيادهم ، أو جحد ما علم من الدين بالضرورة ، فقولنا : خاص ، احتراز من المعاصي ; فإنها انتهاك وليست كفرا ، وألحق الشيخ أبو الحسن الأشعري بذلك إرادة الكفر ، كبناء الكنائس ليكفر فيها ، أو قتل نبي مع اعتقاد صحة رسالته ليميت شريعته ، ومنه تأخير إسلام من أتى يسلم ، ولا يندرج في ذلك الدعاء بسوء الخاتمة [ ص: 29 ] للعدو وإن كان إرادة الكفر ; لأنه ليس مقصودا فيه حرمة الله بدلالة المدعو عليه . واستشكل بعض العلماء الفرق بين السجود للشجرة أو للوالد ، في أن الأول كفر دون الثاني ، مع أن كليهما قصد به التقرب إلى الله تعالى ، لقولهم : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) مع أن القاعدة : أن الفرق بين الكفر بالكبيرة والصغيرة إنما هو بعظم المفسدة وصغرها ; لاشتراك الجميع في النهي وما بين هاتين الصورتين من المفسدة التي يعملها ما يقتضي الكفر .

قال صاحب الشفا : وللإجماع على تكفير من جحد أن الله تعالى عالم ، أو متكلم ، أو غير ذلك من صفاته الذاتية ، فإن جهل الصفة ، ولم ينكرها ، كفره الطبري وغيره ، وقيل : لا يكفر ، وإليه رجع الأشعري ; لأنه لم يصمم على اعتقاد ذلك ، ويعضده الحديث القائل : ( لئن قدر الله علي ) ، وحديث السوداء ، فأكثر الناس لو كوشفوا عن الصفات لم يعلمها .

فرع :

في الشفا : إذا تزندق الذمي لا يقتل عند مالك ; لأنه خرج من كفر إلى كفر ، وقال عبد الملك : يقتل ; لأنه لا يقر بالجزية عليه .

فرع :

قال : السكران والمجنون ما علم أنهما قالاه في حال لا يميزان فيه فلا عبرة به [ ص: 30 ] وما قالاه في حال الميز وإن فقد العقل الموجب للتكليف ، أدبا ، ويوالى أدبهما على ذلك ، كما يؤدبان على قبائح أفعالهما ; استصلاحا لهما ، كالبهائم تراض . قال القابسي : إن قال السكران : أنا الله ، إن تاب ، أدب ، وإن عاد لقوله طولب مطالبة الزنديق ، فإنه كفر المتلاعبين .

فرع :

قال : إن أتى بسخيف القول غير قاصد للكفر والاستخفاف ، كالقائل لما نزل عليه المطر : بدأ الخراز يرش جلوده ، أفتى جماعة بالأدب فقط ; لأنه عبث ، وأفتى جماعة بقتله ; لأنه سب ، هذا إن كان يتكرر منه ، أما الفلتة الواحدة ، فالأدب . وأفتى ابن القاسم في القائل لرجل لما ناداه : لبيك اللهم لبيك : إن كان جاهلا ، وقاله سفها ، فلا شيء عليه . وقول بعض الجاهلية :


رب العباد ما لنا ومالك قد كنت تسقينا فما بدا لك ؟     أنزل علينا الغيث لا أبا لك

ونحو ذلك ممن لا تهذبه الشريعة والعلم ، فيعلم ويزجر .

فرع :

قال : وكل نبي أو ملك حكمه في ذلك كما تقدم ، إن أجمعت الأمة على أنه نبي أو ملك ، وإلا لم ينته الأمر إلى القتل ، بل الأدب بقدر حال المقول فيه ، كهاروت وماروت من الملائكة ، والخضر ولقمان وذي القرنين ومريم وآسية وخالد بن سنان المقول : إنه نبي أهل الداسر ، وزرادشت الذي تدعي المجوس والمؤرخون نبوته ، وأما [ ص: 31 ] إنكار نبوته ، وكونه من الملائكة فإن كان المنكر عالما ، لم يتعرض له - لأنها مسألة خلاف - أو جاهلا زجر عن الخوض فيه ، فإن عاد أدب ، إذ ليس لهم الكلام في مثل هذا . قال القاضي : وأجمع المسلمون أن الملائكة مؤمنون فضلا ، وأن المرسل منهم معصوم ، واختلف في عصمة غير المرسل ، والصواب عصمة الجميع . وإن لم يرو في هاروت وماروت وخبرهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء ، وإنما هو اختلاف المفسرين . قال الطرطوشي ، في الآية دليل على أن من الملائكة من يعصي ويستحق العقاب ، ولا يعارض قوله تعالى : ( لا يعصون الله ما أمرهم ) يحمل على جمهورهم والمعصومين منهم ، وكلامه يخالف كلام القاضي .

فرع :

قال ابن سحنون : يقتل القائل : المعوذتان ليستا من كتاب الله ، إلا أن يتوب ، وإن قال : لعن الله التوراة بعد التأويل في صرفها للباطلة .

فرع :

قال مالك : من انتسب إلى بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يضرب ضربا وجيعا ، ويشهر ، ويحبس طويلا ، حتى تظهر توبته ; لأنه استخف بحق الرسول عليه السلام .

السادسة : ( في النوادر ) . قال ابن القاسم : يقتل المتنبي أسر ذلك ، أو أعلنه .

السابعة : قال الطرطوشي : للسحر حقيقة ، وقد يموت المسحور أو يتغير طبعه وعادته ، وإن لم يباشره ، وقاله ( ش ) وابن حنبل . وقال أصحاب ( ح ) : [ ص: 32 ] إن وصل إلى بدنه ، كالدخان ونحوه ، جاز أن يؤثر ، وإلا فلا ، وقال القدرية : لا حقيقة له .

لنا : الكتاب والسنة والإجماع . أما الكتاب فقوله تعالى : ( يعلمون الناس السحر ) وما لا حقيقة له لا يعلم ، ويلزم صدور الكفر من الملائكة ; لأنه قرئ الملكين - بكسر اللام - أو ملكان ، وأذن لهما في تعليم الناس ; ليفرق بين السحر والمعجزة ; لأن مصلحة الخلق كانت تقتضي ذلك في ذلك الوقت ، ثم صعدا إلى السماء ، وقولهما : ( فلا تكفر ) أي : لا تستعمله على وجه الكفر ، كما يقال : خذ المال ولا تفسق به ، أو يكون معنى قوله تعالى : ( يعلمون الناس ) أي : يقع التعليم لا عن التسليم ، وقولهما : ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) يدل على أن تعلم السحر كفر ، وفي الصحيحين : أنه - عليه الصلاة والسلام - سحر فكان - عليه السلام - يخيل إليه أنه يأتي النساء وما يأتيهن ( الحديث ) وقد سحرت عائشة - رضي الله عنها - جارية اشترتها .

وخبر السحر ووقوعه كان معلوما للصحابة - رضوان الله عليهم - فهم مجمعون عليه ، ولأن الله تعالى قادر على خلق ما يشاء ، عقيب كلام مخصوص ، أو أدعية مخصوصة .

احتجوا بقوله تعالى : ( يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) ولأنه لو [ ص: 33 ] كان له حقيقة ، لأمكن أن يدعي النبوة ، فإنه يأتي بالخوارق على اختلاف أنواعها .

والجواب عن الأول : أنه حجة لنا ; لأنه تعالى أثبت السحر وإنما لم ينهض بالخيال إلى السعي ، نحن لا ندعي أن كل سحر ينهض إلى كل المفاسد .

والجواب عن الثاني : أن إضلال الله تعالى للخلق ممكن ، لكن الله تعالى أجرى عادته بضبط مصالحهم ، فما يسر ذلك على السحرة ، فكم من ممكن منعه الله تعالى من الدخول في العالم لأنواع من الحكم . إذا ثبت هذا قال مالك وأصحابه : الساحر كافر ، فيقتل ولا يستتاب ، سحر مسلما ، أو ذميا كالزنديق .

قال محمد : إن كان أظهره قبلت توبته . قال أصبغ : إن أظهره ولم يتب فقتل فماله لبيت المال ، وإن استسر فلورثته من المسلمين ، ولا آمرهم بالصلاة عليه ، فإن فعلوا فهم أعلم . ومن قول علمائنا القدماء : لا يقتل حتى يثبت أنه من السحر الذي وصفه الله بأنه كفر‌‌ . قال أصبغ : يكشف عن ذلك من يعرف حقيقته ، ولا يلي قتله إلا السلطان ، فإن سحر المكاتب أو العبد سيده ، لم يل سيده قتله ، بل الإمام ، ولا يقتل الذمي إلا أن يضر المسلم سحره ، فيكون نقضا للعهد فيقتل ، ولا يقبل منه الإسلام ، وإن سحر أهل ملته ، فيؤدب ، إلا أن يقتل أحدا فيقتل به ، وقال سحنون : يقتل إلا أن يسلم كالساب - وهو خلاف قول مالك - وإن ذهب لمن يعمل له سحرا ولم يباشر ، أدب تهديدا ; لأنه أمر لم يكفر ، وإنما ركن للكفر .

وأما حقيقة السحر ، ففي الموازية : إن قطع أذنا ثم ألصقها ، أو أدخل السكاكين في جوف نفسه ، إن كان سحرا قتل وإلا فلا ، واختلف الأولون فقال بعضهم : لا يكون إلا رقى أجرى الله عادته أن يخلق عنده افتراق المتحابين . قال الأستاذ أبو إسحاق : بل يقع به التغيير والضنى : وربما أتلف وأبغض وأحب وأوجب [ ص: 34 ] الصلة ، وفيه أدوية مثل المرائي والأكباد والأدمغة فهذا الذي يجوز عادة ، وأما طلوع الزرع في الحال ، ونقل الأمتعة ، والقتل على الفور ، والعمى والصمم ونحوه ، وتعلم الغيب ممتنع ، وإلا لم يأمن أحد على ماله ونفسه عند العداوة .

وقد وقع القتل والقتال بين السحرة ، ولم يبلغ أحد ما بلغ فيه القبط ، وقطع فرعون أيديهم وأرجلهم ، ولم يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم ، والهروب والتبديل ، وحكى ابن المجوسي : أن أكثر علمائنا جوزوا أن يستدق جسم الساحر حتى يلج في الكوة ، ويجري على خيط مستدق ، ويطير في الهواء ، ويقتل غيره ، قال القاضي : ولا يقع فيه إلا ما هو مقدور للبشر ، وأجمعت الأمة على أن السحر لا يصل إلى إحياء الموتى ، ولا إبراء الأكمه والأبرص ، وفلق البحر ، وانطاق البهائم ، ولولا الإجماع لجاز هذا عقلا . إذا ثبت هذا فتعلمه وتعليمه كفر عند مالك .

وقال الحنفية : إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر ، وإن اعتقد أنه تخيل وتمويه لم يكفر ، وقال الشافعية يصفوه : فإن وجدنا فيه ما هو كفر كالتقرب للكواكب ، أو يعتقد أنها تفعل ما يلتمس منها هو كفر ، وإن لم نجد فيه كفرا فإن اعتقد إباحته فهو كفر . قال الطرطوشي : وهذا متفق عليه ; لأن القرآن نطق بتحريمه . قال الشافعية : إن قال : سحري يقتل غالبا وقتلت به ، وإن كان الغالب منه السلامة فعليه الدية مغلظة في ماله ; لأن العاقلة لا تحمل الإقرار ، وقال ( ح ) : إن قال قتلته بسحري لم يجب عليه القود ; لأنه قتل بمثقل ، وإن تكرر ذلك منه قتل ; لأنه سعي في الفساد في الأرض .

[ ص: 35 ] لنا : مفهوم قوله تعالى : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) أي : بتعليمه ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) ولأنه لا يتأتى إلا ممن يعتقد أنه بقدرته على تغيير الأجسام ، والجزم بذلك كفر . أو نقول : هو علامة الكفر بإخبار الشرع ، فلو قال الشارع : من دخل موضع كذا فهو كافر ، اعتقدنا كفر الداخل وإن لم يكن الدخول كفرا ، وإن أخبرنا هو أنه مؤمن ، لم نصدقه . قال : فهذا معنى قول أصحابنا ; لأن السحر كفر ، أي : دليل الكفر ، لا كفر في نفسه ، كأكل الخنزير ، وشرب الخمر ، والتردد إلي الكنائس في أعياد النصارى ، فنحكم بكفر فاعله . وإن لم تكن هذه الأمور كفرا ، لا سيما وتعلمه لا يتأتى إلا بمباشرته ، ( كمن أراد أن يتعلم الزمر أو ضرب العود ) والسحر لا يتم إلا بالكفر ، كقيامه إذا أراد سحر سلطان لبرج الأسد مائلا خاضعا متقربا له ، ويناديه يا سيده يا عظيم أنت الذي إليك تدبير الملك والجبابرة والأسود ، أسألك أن تذلل لي قلب فلان الجبار .

احتجوا بأن تعلم صريح الكفر ليس بكفر ، فالسحر أولى ، ولو قال الإنسان : أنا تعلمت كيف يكفر بالله ; لأتجنبه ، أو كيف يزنى ويحصن ، ولا أفعله لم يأثم .

والجواب : لا نكفره به ، بل بأن صاحب الشرع أخبر أنه لا يتعلمه ; ولأنه لا يتأتى علمه إلا بمباشرته ، كضرب العود ونحوه ، وعنه - عليه السلام - ( حد [ ص: 36 ] الساحر ضربه بالسيف ) ، وقال عمر - رضي الله عنه - : يقتل كل ساحر وساحرة ، وقاله جماعة من الصحابة .

تنبيه : هذه المسألة في غاية الإشكال ، فإن السحرة يعتمدون أشياء تأبى قواعد الشريعة تكفيرهم بها . منها : أنهم يرمون الكلب بالحجر فيعضه الكلب ، فيجعل الحجر في زير الشرب بعد أن يكتب عليه آية من القرآن على ما أنزلت ، فيحدث أثرا مخصوصا ، ومن هذا النحو كثير مما يعتمده المغاربة وكثير من الناس في المحبة والبغضة والرحيل والعقد عن الوطء ، وغير ذلك آيات من كتابه تعالى مضافة إلى تضميم الفاعل على تأثير ذلك ، وخاصية نفسه ، فتحصل تلك الآثار - ويسمونه علم المخلاة - فلا يمكن تكفيرهم بالقرآن ، ولا باعتقادهم أن الله يفعل عندها ذلك ، فإنهم جربوه فوجوده كالعقاقير ، ولا لخواص نفوسهم ، لأنها ليست من كسبهم ، وأما اعتقادهم أن الكواكب تفعل بغير قدرة الله فهي قريب من الكفر ، مع أن بعض العلماء قد أورد عليه اعتقاد المعتزلة أن الحيوانات كلها تفعل بغير قدرة الله تعالى ، مع أن الصحيح عدم تكفيرهم بخلق الأفعال .

ومنهم من فرق بأن الكواكب في جهة العلو ، وتبعد كثيرا فيكون ذلك تقريبا من دعوى إلاهية لها ، بخلاف الحيوانات . وورد عليه أن البقر عبد كثيرا ، وبالجملة ، والتكفير به ليس مشكلا ، بل تكفر المعتزلة بذلك .

وأما قول الأصحاب : إنه علم على الكفر فمشكل ; لأنا نعلم أن حال الإنسان في إيمانه قبل السحر كحاله بعده ، والشرع لا يخبر على خلاف الواقع ، فإن أرادوا الخاتمة فمشكل أيضا ; لأنا لا نكفر في الحال بكفر متوقع في المآل ، كما أنا لا نجعله مؤمنا في الحال ، وهو يعبد الأصنام لأجل إيمان يتوقع ، بل لكل حال حكم شرعي ; لأنها أسباب شرعية ، ولا يترتب الحكم الشرعي قبل سببه ، وإن قطع بوقوعه ، كما أنا نقطع بغروب الشمس ولا نرتب أحكامه قبله من الفطر ، وصلاة المغرب وغير ذلك ، وإنما [ ص: 37 ] قضينا بكفر المتردد للكنائس ونحوه في القضاء دون الفتيا ، وبينه وبين الله تعالى قد يكون مسلما ، فافترق البابان ، فالذي يستقيم في هذه المسألة ما حكاه الطرطوشي عن قدماء أصحابنا : أنا لا نكفره حتى يثبت أنه من السحر الذي كفر الله تعالى به ، أو يكون سحرا مشتملا على كفر كما قاله ( ش ) ، وما عدا ذلك فمشكل ، فتأمله ، فليس إراقة الدماء بسهل ، ولا القضاء بالتفكير ، وكثير من أصحابنا يتحسرون عليها . ولقد وجدت عند بعض الطلبة في بعض المدارس كراسا فيه المحبة والبغضة ونحوهما مما تقدم ، وأنه يتعاناها ، فأفتى أصحابنا بتكفيره ، وهذا - من غير تفصيل - أمر عظيم في الدين ، بل تحريم هذا الباب مطلقا مشكل إلا بعد تفصيل طلا ، فمن سعى في محبة بين زوجين بآية من كتاب الله ، أو بغضة بين زانيين بقرآن يتلى ، ينبغي أن يجاب أو يندب إليه فضلا عن التحريم .

التالي السابق


الخدمات العلمية