صفحة جزء
النظر الثاني : في إثبات السبب

وفيه عشرة فروع : الأول : في الكتاب : يسأل الإمام البينة عن كيفية الأخذ والإخراج والمأخوذ ، فإن كان فيه شبهة درأ الحد . في النكت : قال سحنون : إذا كانوا عالمين بمواقع الشهادة ، لم يسألوا وإلا سئلوا ، ومنعه غيره ; لأن رأي الحاكم قد يكون نفي القطع ، قال اللخمي : إن غابوا قبل أن يسألوا ، لم يقطع ; لإمكان الشبهة ، إلا أن يكون من أهل العلم ، ومذهبهم مذهب الحاكم . وكذلك الزنا ، فإن غاب ثلاثة في الزنا أو واحد في السرقة ، سئل الباقي ، قال محمد : إن غاب أربعة في الزنا لم يسأل الباقي وليس بالبين .

[ ص: 175 ] الثاني ، في الكتاب : يحبس حتى تزكى البينة ، فيحد وإن غاب الشهود أو رب السرقة أم لا أو ماتوا ، أو عموا أو جنوا ، أو خرسوا . وكذلك الحقوق ; لأن المقصود ثبوت مناط الصدق بالعدالة ، وإن ارتدوا أو فسقوا قبل الحكم ; لأن ذلك يدل على سواء سريرتهم قبل ذلك . وإن فسقوا ، أو حدوا بخمر قبل الحد وبعد الحكم ، أقيم الحد والقصاص ، وجميع الحقوق ; لتقدم الحكم ، ولا تفرق البينة إن كانوا عدولا مبرزين ، إلا أن يستنكر الإمام . في التنبيهات : منع مالك من الكفيل ; لأنه لا كفالة في حد ، أما بعد الشروط فلازمة ، أو من الناس في الأمر القريب ، فيجوز كالسجن ، وقوله : عموا أو خرسوا ، من سؤال من تمتنع شهاداتهم . والمذهب : يخبر بها ابتداء ، وقيل : لعله يريد في الزنا ، وحيث تمتنع شهادة الأعمى ، وهو يبطل بقوله : أو خرسوا ، قال اللخمي : فيها أربعة أقوال : التفرقة بين أن يحكم بها ، فيقطع ، أم لا فلا ، وقال مطرف : ذلك في حق الآدمي ، كالقذف ، والقتل دون حق الله ، كالسرقة . وقال محمد : إن أحدثوا بعد الشهادة كالزنا والسرقة والخمر ، لم يحكم بها ، بخلاف أن يقذفوا ، أو يقتلوا قتيلا على نافذة ، أو اقتتل هو ومن شهد عليه ، لم تسقط وقضي بها ; لأنه مما لا يخفيه الناس ، وقال عبد الملك : إن أشهد على شهاداتهم ، أو سمعت منهم قبل فعادوه ، فشهدوا عليه بعد العداوة جاز . وكذلك كل ما لا يستتر به كالقذف إذا قيدت قبل ، قال اللخمي : وأرى أن لا يمضي بها إذا زنوا أو شربوا ، وإن كان حكم بها ، كانت الشهادة بحق الله تعالى أم لا ، قال : ولو نقض الحكم ، وإن أخذ الحق ، لا تحد ، كما لو علم ذلك قبل الحكم ، وأما الارتداد وما لا يخفيه غالبا ، فلا ترد الشهادة إذا كانت لآدمي ، ولا تمضى إن كانت حدا لله تعالى ; لأن ذلك شبهة .

[ ص: 176 ] الثالث : في الكتاب : يحرم الكف عن الشهادة إذا رفع السارق للإمام ، لتعين حق الله تعالى بوصوله إلى نائبه ، وإن عاينت البينة ( إخراج المتاع من البيت ) ، ولا يدرون لمن هو ، فلا يشهدون بملكه لرب البيت ، بل يؤدون ما عاينوا ، وتقطع يد السارق ، ويقضى بالمتاع لرب الدار ; لأن اليد ظاهرة في الملك . وكذلك إن عاينوا الغصب ، وإن شهد أحدهم أنه سرق نعجة ، والآخر كبشا ، لم يقطع ، وكذلك يوم الخميس ، ويوم الجمعة ; لأنهم لم يشهدوا على فعل واحد ، في النكت : قيل : إن اتفقا على عين المسروق ، لا يضر الاختلاف في اليوم في الغرامة ، ويغرم قيمة ذلك الشيء ، وإن اختلفا في عينه ، كالنعجة والكبش ، فللمسروق منه أن يدعي أحد الشهادتين ، ويقتضى له بها ، قال محمد : يحلف مع أي شهادة شاء ، أو معها ، ويقضى بهما جميعا ، ما لم تكن شهادتهما في وقت واحد ، وموضع واحد ، فيكون تكاذبا ، فتسقطان . قال اللخمي : يريد في الكتاب في النعجة والكبش : أنه في سرقة واحدة ، فإن كانا في سرقتين ، فقال أحدهما : سرق أمس كبشا ، وقال الآخر : اليوم نعجة ، ففي جميع الشهادة والقطع ، قولان : فإن قال أحدهما : سرق بالمدينة ، وقال الآخر : بمصر ، قال مالك : لم يقطع ; لأنهما فعلان ، قال : وفيه بعد .

الرابع : في الكتاب : إن قالت البينة قبل القطع : وهمنا ، بل هو هذا الآخر ، لم يقطع واحد منهما للشك ، وما بلغ من خطأ الإمام ثلث الدية فأكثر فعلى عاقلته ، مثل خطأ الطبيب ، والمعلم ، والخائن ، وإذا رجع الشاهدان قبل الحكم ، ولهما عذر بين يعرف به صدقهما ، وهما بينا العدالة أقيلا ، وإلا لم يقبلا في المستقبل . فإن شهد رجل وامرأتان ، لم يقطع ، وضمن المسروق ، فإنه مال ، ولا يمين على صاحب المتاع إن كان قائما بعينه ، [ ص: 177 ] لاستقلال السبب ، فإن شهدت على غائب ، قطع إذا قدم ، ولا تعاد البينة إن كان الإمام استوفى تمام الشهادة .

الخامس ، في الكتاب : إن شهدت البينة على إقراره بالسرقة ، فأنكر ، وذكر قولا يعذر به ، أو جحد الإقرار أصلا قبل كالزنا ; لأنه شبهة ، وإن أقر عبد ، أو مكاتب ، أو أم ولد بالسرقة ، قطعوا إذا غيبوا السرقة وأظهروها ، فإن ادعى السيد أنها له ، صدق مع يمينه . وقال مالك في ثوب بيد أمة أدعاه السيد وأجنبي ، وصدقت الأجنبي ، قضي به للسيد مع يمينه ; لأن إقرار العبد على سيده في ماله باطل ، ويد السيد ظاهرة في ملكه ، قال الطرطوشي : يقبل إقرار الرقيق فيما يلزمه في يديه من حد أو قصاص دون المال ، وقال ( ح ) : يقبل في القطع والمال ، ويرد المال لصاحبه . وعن ( ش ) القولان . واختلف أصحابه في محلهما ، فقيل : إذا كانت العين قائمة ، أما الفائتة ، فقولا واحدا . ومنهم من عكس ، ومنهم من أطلقها ، وقيل : لا يقبل في نفس ولا مال . لنا في القطع : ظواهر العمومات ، والقياس على الحر . احتجوا بقوله تعالى : ( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) ، وقبول إقراره كسب على سيده ، فلا يقبل ، وبقوله - عليه السلام - : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ) ، والعبد مال السيد ، ولم تطب به نفسه ، وبالقياس على الإقرار بالقذف . واحتج ( ح ) بالقياس على الحر .

[ ص: 178 ] والجواب عن الأول : أنه كاسب على نفسه ; لأنه إنما أقر عليها ، ولزم بطريق العوض حق السيد ، فهو كالحر يقر بالقتل ، فيؤذي أبويه وغيرهما .

وعن الثاني : أن المال ظاهر في المتمحض للمالية وهذا آدمي ، المال فيه تبع ، والأصل : عدم تناول اللفظ له .

وعن الثالث : أن الدين يتهم فيه بإضرار السيد ، أما ما يؤلمه ، فبشريته تمنعه من الكذب عليها .

وعن الرابع : أن الحر غير متهم ، والعبد متهم على السيد .

تفريع ، في التنبيهات : إذا شهدت بالإقرار بالحرابة ، وهو ينكر ، أقيل ، وفي غير الكتاب : يقال في الزنا ، وإن لم يأت بعذر . وفي النكت : قوله : إذا عين الرجل السرقة ، يريد : لا يقبل رجوعه بعد تعييبه ، كالبينة ، وإن لم يعين وتمادى على إقراره ، قطع وإلا فلا . في النوادر : قال مالك : إذا تعلق صبي بعبد وأصبعه تدمي ، وادعى أنه جرحه ، فأقر ، قبل قوله ، وذلك في رقبته ، وأما على غير هذا الوجه ، فلا يقبل إقراره ، قال محمد : لا يتبع بالسرقة المقر بها في رقه ، ولا بعد عتقه ، وإن قطع ، وكذلك إن كانت بينة إذا لم توجد بعينها ، وقال أصبغ : تؤخذ قيمتها مما بيده من مال ، قال محمد : إلا أن يقر بعد العتق أن ثمنها في الذي بيده ، وما سرق ما لا قطع فيه مما لا يؤتمن عليه بخيانة ، وما فيه إذن ففي ذمته ، كإذنك له في دخول منزلك ، فسرق . قال اللخمي : اختلف إذا لم يأت الحر بعذر : هل يقال لحديث ماعز أو لا ; لأن الأصل : لزوم الإقرار ، وهذا إذا لم يعين السرقة ، فإن عين فظاهر المدونة : يقال ; لأنه لم يفرق ، وعن ابن القاسم : لا يقال إذا عين ، ولم يفرق أنها عين أو عرض . وعنه : ليس في الدنانير تعيين على أصل المذهب أنها لا تتعين ، ويريد أيضا ، المكيل والموزون . وعن أشهب : لا يقبل إقرار العبد بالقتل [ ص: 179 ] وإن عين القتيل ، إلا أن يكون معه ، أو يرى متبعه ، أو نحوه . وقيل : لا يقبل مطلقا إلا أن يقوم لذلك دليل ; لأن إقراره يتضمن أذية سيده ، وإذا قبل في السرقة ، عاد المقال بين المقر له بالسرقة وبين السيد ، فإن كان العبد مأذونا له ، صدق ، وأغرم ما أقر به ، أو غير مأذون ، لم يصدق ، إلا أن يقول السيد : لا أعلم لي فيها حقا . والمقر به لا يشبه أن يكون ملك العبد ، وإن قطع وقد استهلك ، لم يتبع مع العدم ، وإن أقر المحجور عليه لم تؤخذ منه السرقة ، وإلا أن يكون مما لا يشبه أن تكون من كسبه ، فإن أقر ، أحد تحت التهديد ، فخمسة أقوال : قال مالك : لا يؤاخذ ، قال ابن القاسم : فإن أخرج المتاع أو القتيل أقيل ، إلا أن يقر بعد الأمن ، أو يعرف وجه إقراره ويعين ، مثل : ذكر أسباب ذلك ، وبدايته ، ونهايته ، وما يعلم أنه فيه غير مكره ، وعن مالك : إن عين السرقة ، قطع ; لأن التعيين ، كالبينة ، إلا أن يقول : دفعتها لفلان ، وإنما أقررت لما أصابني ، ولو أخرج الدنانير لم يقطع ; لأنها لا تعرف ، وعن أشهب : لا يقطع وإن ثبت على إقراره ; لأن ثبوته خوف العودة للعقوبة إلا أن يعين السرقة ، ويعرف أنها للمسروق منه ، لئلا يخرج متاع نفسه ويعترف به ; ليخلص من العقوبة . وعن سحنون : يؤاخذ بالإقرار من الرجل وهو في الحبس من سلطان عادل ، ولا يعرف ذلك إلا من ابتلي بالقضاء . قال ابن يونس : أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلص اعترف ، ولم يوجد معه متاع ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أخالك سرقت ، قال : بلى ، فأعادها عليه مرتين أو ثلاثا ، فأمر به ، فقطع ، فقال : استغفر الله ، وتب إليه ، فقال : استغفرته ، وتبت إليه ، فقال : اللهم تب عليه ) ، وظاهره : أنه لو رجع ; لقبل رجوعه ، وكل حد لله تعالى يقبل فيه الرجوع ، إلا أن يأتي بما يشبه البينة من تعيين السرقة أو غيرها ، وهو من أهل التهم .

السادس : في الكتاب : إن أقر ، فكذبه المسروق منه ، أو قال : هو له ، أو [ ص: 180 ] أودعته ، أو هبة رجل معي إليه ، قطع بإقراره ; لأن الإقرار سبب لا يسقط إلا بسبب شرعي ، وقوله ذلك ليس سببا شرعيا .

السابع : إذا شهد على الآخر سرا ، أو أقر بوجه يعرف به إقراره ، وتعين ، قطع ; لحصول المقصود من الكلام ، وإلا فلا ; للشك .

الثامن : في الكتاب : إن ادعى رجل بالسرقة ، لم يحلف إلا من هو متهم ، فإنه يحلف ، ويهدد ، ويسجن ; لظهور الريبة ، وإن كان من أهل الفضل ، أدب المدعى عليه . في النكت : المتهم ثلاثة : مبرز بالعدالة ، يترك ، ومعروف بالسرقة ، يهدد ويحلف ، ومتوسط بينهما ، يحلف فقط ، قال : وينبغي أن لا يحلف إلا المتهم ، فإن كان لا يرمى بعار السرقة ، ولكنه إن وجد متاع غيره ، أخذه ، قال مطرف : لا يحلف ; لأن الدعوى غير مجزوم بها ، وهو في معنى كلام المدونة ، قال ابن يونس : قال مطرف : إن اتهم مجهول الحال ، سجن حتى يكشف حاله من غير طول ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبس رجلا اتهمه رجل صحبه في السفر بسرقة ، فإن كان معروفا بالسرقة ، سجن أطول ، وإن وجد مع ذلك معه بعض السرقة ، فقال : اشتريته ، ولا بينة له ، وهو من أهل التهم ، لم يؤخذ منه غير ما في يديه ، وإن كان معروفا ، سجن أبدا حتى يموت ، وقاله عبد الملك ، وأصبغ ، وعمر بن عبد العزيز ، وقال أشهب : إن شهد عليه أنه متهم ، سجن بقدر ما يتهم عليه ، وعلى قدر حاله ، وربما ضرب بالسوط مجردا ، وإن كان الوالي غير عدل ، لا يذهب إليه ، ولا يشهد عنده . في النوادر : إنما يؤدب المدعي على غير المتهم بالسرقة ، إذا كان على وجه المشاتمة ، أما دعوى الظلامة ، فلا ، ( قاله مالك ) .

[ ص: 181 ] التاسع : في الكتاب : إن أقر بغير سجنه ، ثم جحد ، لم يقطع ، وغرم المال للمسروق منه ; لأن الرجوع يؤثر في حق الله تعالى دون حق العبد . وفي الجواهر : وكذلك إذا رجع في الزنا ، لا يسقط المهر ، وإن أقر قطع ، ولا يقف على دعوى المالك ; لأنه حق الله تعالى ، وإن رد اليمين ثبت الغرم دون القطع ، ويقبل إقرار العبد في القطع ( دون المال . في المقدمات : للرجوع عن الإقرار ثلاث حالات : إن أتى تائبا ، فهاهنا اتفق على وجوب القطع ) عليه ، وقبول رجوعه إن أتى بشبهة ، ويختلف إن جحد الإقرار أصلا ، الثانية : يقبل رجوعه وإن جحد الإقرار قولا واحدا ، وهو إذا لم يتفقوا على قطعه إن أقر بعد أخذه ولم يعين ، أو بعد الضرب والتهديد ، الثالثة : لا يقبل رجوعه إذا جحد الإقرار اتفاقا ، ويختلف إذا قال : أقررت ; لأجل كذا ، وهي الحال التي يتفق على قطعه ، ويختلف في رجوعه ، وذلك إن أقر بعد أن أخذ وعين ، ثم رجع .

العاشر : في النوادر : كره مالك للسلطان أن يقول للمتهم : أخبرني ولك الأمان ; لأنها خديعة ، فإن سبق من الإمام وقامت عليه بينة ، أو أقر ، قطعه ; لأنه حق لله تعالى ، وكذلك لو قطع عليه الطريق . ولا يحكم عليه بقيمة السرقة ، بل يدفعه لمن فوقه ، وإن شهد عليه هو ورجل عدل ، قال أشهب : يقيم الحد ، وإن رفعه للإمام كان أحسن ، وكرهه محمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية