صفحة جزء
الركن الرابع : في صفة من يحملها . وفي الجواهر : في الركن بحثان : من يحمل ، وصفته .

البحث الأول ، من يحمل ، وهو ثلاثة : الأول : العصبة والولاء وبيت المال دون الموالاة والمخالف ، أما العصبة : فكل عصبة يدخل فيها الأب والابن ، وفي دخول الجاني روايتان ، ويلحق بالقرابة الديوان لعلة التناصر ، فإن كان المعا من أهل ديوان [ ص: 388 ] مع غير قومه ، حملوا عنه دون قومه ; لأنهم ناصروه رحل عنهم ، وإن احتاج أهل ديوان إلى معونة قومهم لقلتهم أو لانقطاع ديوانهم أعانوهم ، وقال أشهب : إنما يحمل عنه أهل الديوان إذا كان العطاء قائما ، وغلا وإلا فقومه ، والجهة الثانية : الولاء إذا عدمت العصبة ، فعلى معتق الجاني ، وهو المعتق الأعلى ، وفي الأسفل قولان . الثالث : بيت المال عند عدم العصبة والولاء يأخذ من بيت المال إن كان الجاني مسلما ، وإن كان ذميا رجعنا على الذين يؤدون معه الجزية ، أهل إقليمه الذين يجمعه وإياهم أداء الجزية ، فإذا لم يستقلوا ضم إليهم أقرب القرى منهم .

البحث الثاني ، في صفاتهم ، وهي : التكليف ، والذكورة ، والموافقة في الدين والدار ، فلا يضرب على عبد ، ولا صبي ، ولا امرأة ، ولا مخالف في الدين ، ولا فقير وإن كان يعمل ، ولا حد لغناهم في الحمل ولا بما يؤخذ ، وقيل : يؤخذ من كل مائة درهم ونصف ، وكذلك كان يؤخذ من أعطيات الناس .

تفريع على البحثين . في الكتاب : إن قتل ذمي مسلما خطأ حملته عاقلته ، وإن أصاب أهل الذمة بعضهم بعضها حمل ذلك عواقلهم ، وإنما العقل في القبائل كانوا أهل ديوان أم لا ، ومصر والشام أجناد كل جند عليهم جرايرهم ، فلا يعقل أهل مصر مع الشام ، ولا الشام مع مصر ، ولا الحضر مع البدو ، ولا البدو مع الحضر لعدم التناصر ، ولا يكون في دية واحدة ; إبل وذهب ، أو ذهب ودراهم ، وإن انقطع بدوي فسكن الحضر عقل معهم كالشامي يستوطن مصر ، ثم إن جنى وقومه بالشام ، وليس بمصر من قومه من يحمل لقلتهم ، ضم إليه أقرب القبائل بها إلى قومه وإن لم يكن بمصر أحد حتى يقود ، إذ لا يعقل أهل الشام مع مصر ، ويحمل الغني بقدره ( ومن دونه بقدره ) على قدر يسرهم . وفي التنبيهات : قوله : إذا لم يكن فمن [ ص: 389 ] قومه من يحمل لقلتهم ، ضم إليهم أقرب القبائل . يريد في النسب لا في الجوار ، قال ابن يونس : حمل العاقلة الدية كان في الجاهلية أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأنه من مكارم الأخلاق ، ولا عقل على مديان لأنه كالفقير ، وكره مالك أن يبعث السلطان في الدية من يأخذها من العاقلة فيدخل فيها فساد كبير . وقال سحنون : ويضم أهل إفريقية بعضهم لبعض من طرابلس إلى طبنة في العقل ، وتعتبر صفات العاقلة وشروط حملها يوم يقسم عليهم الدية; لأنه يوم الطلب لا يوم مات المقتول ولا يوم جرح ، ولا يوم ثبت الدم ، ولا يزول عمن مات بعد ذلك أو أعدم ; لأنه حكم لا ينقض ولا يدخل من بلغ بعد ذلك من الصبيان ، أو غائب قدم ، أو منقطع الغيبة ، ولا يزاد على من أيسر . قال سحنون : ومن استحق بملك رجع ما عليه على بقية العاقلة لتبين الغلط في الحكم ، ولا يزاد في التوظيف على بني عمه ديته ، وهم وغيرهم سواء . قال أصبغ : ولا يدخل مع العاقلة صبي ولا مجنون ، ويدخل السفيه البالغ فيؤخذ من ماله كما يوضع عليه الجزية .

قال اللخمي : يختلف في أربعة مواضع : هل يعقل أهل الديوان دون القاتل ؟ وهل يراعى الكورة أو يكفي المصر الكبير ؟ وفي اجتماع البدو مع الحضر ، ومن لا عاقلة له هل تسقط جنايته ، أو في ماله ، أو في بيت المال ؟ ومراد ابن القاسم بمصر من أسوان إلى الإسكندرية ، ومصر اسم الجميع ، وهي الكورة . وعن أشهب : يقتصر على الفسطاط دون بقية الكورة ، وإن لم يكن في قتيل محمل ضم إليه أقرب القبائل من الفسطاط خاصة . وعن أشهب : إذا اجتمعت البادية والقرى في حمل واحد أخرج كل ما يلزمه إبلا أو غيره ، وإن كان القاتل من غيرهم ، وتؤخذ الإبل بقيمتها . وفي النوادر : من ظعن فرارا من الدية لحقه حكمها حيث كان ، بخلاف الغائب لغير [ ص: 390 ] ذلك ، والغرماء مقدمون على طالب الدية ; لأنها مواساة ، ومن مات فما وظف عليه في ماله كالدين ، وعن سحنون : يحاصص بها ; لأنها دين ، وعن ابن القاسم : من مات لا شيء في ماله ، ولا على وارثه ، ويرجع على بقية العاقلة . وأنكره سحنون . ومن أسلم من البربر ولم يسبوا فإنهم يتعاقلون كالعرب ، ومن سبي وعتق فعقله على مواليه ، ومتى اجتمع في العاقلة أهل إبل وأهل ذهب : قال أشهب يتبع الأقل الأكثر ، فإن استويا حمل كل فريق من هم أهله ، وقاله مالك ; وهو خلاف لابن القاسم : وإذا جنى بمصر ولم يقم عليه حتى أوطن العراق ، فجنايته على مصر ، وإذا جنى الساكن بمصر ، وليس بها من قومه أحد ، حمل جنايته أقرب القبائل إليه ممن بمصر ، ولا يعقل عن المرأة أبوها ولا زوجها ولا إخوتها لأمها إن لم يكونوا من قبيلتها ; لأنهم ليسوا عصبة ، وإذا قدم حربي بأمان فقتل مسلما خطأ . قال مالك : يحبس ويرسل إلى أهل موضعه وكورته إلى قومه منها يخبرونهم ما يلزمهم في حكمنا ، فإن ودوا عنه لم يلزمه إلا ما كان يؤديه معهم ، وعنه : إن الدية في ماله وليس على بلده منها شيء ، وقال ابن القاسم : ديته على أهل دينه الحربيين ، وأهل الصلح يتعاقلون ، وإن اختلفت قبائلهم . قال المغيرة : إن كانوا أهل جزية ، ولهم معقلة يتعاقلون عليها ، ويحملها بعض عن بعض دون بعض حملتهم عليها ، وإلا ففي مال الجاني . قال سحنون : إذا لزمت دية القيروان دخل فيها من بإفريقية من اليهود الذين يحملون معه الخراج ، وإن لم يقدروا أسلفهم الإمام من بيت المال ، ولا يشق عليهم .

فرع

في النوادر : إن حملت العاقلة شيئا نظر أنه هل يلزمها ، ثم تبين أنه لا يلزمها ، [ ص: 391 ] فلهم الرجوع ما لم يطل الأمر بعد الدفع سنين كثيرة التي يرى فيها أنهم علموا ذلك فيها وانقرضوا عنه .

تنبيه : وافقنا ( ح ) في دخول الجاني ، ومنعه ( ش ) . لنا : ما روي أن نعيم بن أبي مسلمة رأى رجلا يرمي الكفار فطعنه فقتله ، فتبين أنه مسلم فقضى عمر رضي الله عنه بديته عليه وعلى عاقلته ; ولأن الأصل أنه يحمل وحده ; لأنه الجاني ، ولأن التحمل للنصرة والمواساة ، وهو أحق بنصرة نفسه ومواساتها . احتجوا : بأنه عليه السلام قضى بالدية على العاقلة ، والدية اسم للجميع ; ولأن كل غرم وجب بالقتل استوى قليله وكثيره في التحمل طردا وعكسا ، لأن دية العمد لا تحمل العاقلة قليلها ولا كثيرها ، فدية الخطأ وجب أن تحملها كلها كالجاني في العمد ; ولأن القتل تارة يمنع العتم كالعمد في الميراث ، وتارة يمنع الغرم كدية الخطأ ، والأول يمنع مطلقا ، فالثاني كذلك ، والقياس على القاضي إذا قتل بالحكم خطأ ، وكوكيل الإمام إذا قتل خطأ .

والجواب عن الأول : القول بالموجب ; لأنه من جملة العاقلة .

وعن الثاني : الفرق أن العمد صادف الأصل ( وهو أن الجاني غرم ، والخطأ خالف الأصل ) : غرم غير الجاني فلا يخرج الجاني منه تعليلا بمخالفة الأصل .

وعن الثالث : أن منع الغرم تخفيف ورحمة من الله تعالى ، فناسب أن يوزع على الجميع ، والعتم عقوبة له بنقيض قصده ، فتوزيع الميراث متعذر ، وتوزيع الدية غير متعذر .

وعن الرابع : الفرق أن ولاة الأمور لو غرموا مع تصديهم للأحكام لأدى [ ص: 392 ] ذلك لزهادة في الولايات فتتعطل المصالح ، بخلاف الجاني ، كذلك وكيل الإمام واتفق العلماء أن إخوة الأم وسائر ذوي الأرحام والزوج ، وكل من عدا العصبة ليسوا من العاقلة ، ولا الأم ، ولا آباؤها ، ولا أجدادها ; إلا أن يكون عصبة للقاتل ، وإن كان القاتل امرأة فإن كان بنوها وبنو بنيها وإن سفلوا بني عمها ; لأن زوجها من بني عمها ، فعاقلتها وإلا فلا . وقيل : عاقلتها ، وافقنا ( ح ) على أن الآباء والأبناء والحفدة يتحملون كغيرهم ، وقال ( ش ) : لا يتحمل هؤلاء شيئا بل العصبات الذين هم جوانب النسب ، كالإخوة ، وبني الإخوة ، والأعمام ، وبنيهم ، وعن أحمد : القولان . لنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على عصبة العاقلة وزوجها وبنيها ، والقياس على الأخ بطريق الأقل ; لأن الأب والابن أعظم نصرة وأبلغ ميراثا فيجب كالأخ ، وكيف يكون العم أكثر تعصيبا من الأب والابن ، بل المرتب على النسب إما أن يختص بالأب والجد كولاية المال والبضع والعتق بالملك والنفقة ، أو يثبت الجميع كولاية النكاح ، وصلاة الجنازة ، أما لغير الأصول والفصول والرحم فلم يقع في الشرع . احتجوا : بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، لا يؤخذ الرجل بجريرة ابنه ، ولا ابن بجريرة أبيه ) ولأنه نسب يوجب التوارث من غير حجب إسقاط ، فلا يحمل كالزوجة ، وبالقياس على ابن المرأة .

والجواب عن الأول : أن المراد بالحديث : ما كانت الجاهلية تفعله ، يأخذون الأب بالابن ، والابن بالأب .

[ ص: 393 ] وعن الثاني : الفرق عدم التناصر والعصوبة من جهة الزوجة بخلاف الابن والأب .

وعن الثالث : بمنعه على أحد القولين ونسلمه ، ويفرق بأنه ليس من عصبتها ، فإنه عندهم لا يلي تزويجها ، ثم الرضاع حجة عليكم استوى فيه الجميع ، وكذلك تحريم المصاهرة ، ووافقنا ( ح ) على أن الديوان يعقل ، مع أن صاحب الزاهي حكى فيه قولين ، وقال أشهب : إنما يعقل الديوان إذا كان العطاء وإلا فقومه ، وقال ( ش ) وأحمد : لا يعقل الديوان . لنا : أن عمر رضي الله عنه أول من دون الدواوين ، وجعل أهل كل ديوان يحملون جناية من معهم في الديوان ، ولم ينكر عليه أحد ، فكان إجماعا . ونكتة المسألة : أن التعاقل مبني على التناصر ، ولذلك اختص العاقلة العصبة ، وسقطت عن النساء والصبيان والمجانين ; لعدم النصرة ، مع وجود القرابة فيهم فقد دار العقل مع النصرة وجودا وعدما ، وأهل ديوانه ينصرونه أشد من العصبة ، والديوان أخص من النسب ; لأنه يجمع أهله في موضع واحد ، وعطاء واحد ، وتكون مودتهم منسجمة . وحميتهم لبعضهم متوفرة . احتجوا : بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على العاقلة . وإذا استقر حكم في زمانه عليه السلام لا يبطل بعده ; لتعذر النسخ ، ولأنه حكم يتعلق بالعصبة عند عدم الديوان ، فيتعلق عند وجوده كالميراث ، ولأنه حكم لا يثبت إلا بين المتواليين في الدين ، فلا يثبت بالديوان كولاية النكاح ; ولأن مطلق التناصر لا يكفي ; لأن أهل السكة الواحدة ، والبلدة الواحدة في أرض الغربة ينصر بعضهم بعضا والصدقاء والشركاء .

والجواب عن الأول : أن تجدد الأحكام لتعدد عللها في المحال بعده عليه السلام ليس نسخا ، وإنما النسخ تجديد حكم مطلقا لا ترتبه على علة لم تكن [ ص: 394 ] موجودة في زمانه عليه السلام ، وهو مبتكر رتبنا عليه التحريم ولم يكن نسخا ، وكذلك لو أحدثوا آلة مطربة أو نوعا من الكفر لم يعلم أنكرنا وقاتلنا ، وليس نسخا .

وعن الثاني : لا يستقيم ترتيبه على الميراث بدليل النسوان والصبيان ، بل على النصرة وهي مشتركة بل أقوى كما تقدم .

وعن الثالث : أن ولاية النكاح أعظم رتبة لدرء العار عن المولية ، ولذلك قدم الأقرب فالأقرب ، ولا يلزم ذلك في العاقلة اتفاقا .

وعن الرابع : أن أهل المحلة بينهم العداوة ، ثم إن تلك الأسباب ليس التناصر لازما لها ; قد يقع وقد لا يقع ، وأما الديوان فمعد للنصرة والقتال عن بعضهم .

فائدة : الديوان قيل : إن كسرى أنوشروان اطلع على أهل حسابه فقال : هؤلاء ديواناه ، بالهاء ، ثم الها لطول الاستعمال ، ومعناه بالفارسية : مجانين ، وقيل : شياطين . والعقل : قيل : لأن العاقلة تعقل لسان الطالب ، وقيل : تعقل بسبب الغرامة ; الجناية عن الجناة ، وقيل : لأن غالبه وأصله : الإبل ، وهي يؤتى بها معقولة ، فهذه ثلاثة معان ، وأصله : المنع ، ومنه العقل ; لأنه يمنع العاقل من الوقوع في الرذائل .

التالي السابق


الخدمات العلمية