صفحة جزء
مسألة

التطير والطيرة حرام ، لما في الحديث أنه عليه السلام كان يحب الفال ويكره الطيرة ، ولأنها من باب سوء الظن بالله تعالى ، والفرق بينهما أن التطير هو الظن السيئ بالله ، والطيرة هو الفعل المرتب عليه ، ولا يكاد المتطير يسلم مما تطير منه إذا فعله ، وغيره لا يتأذى به .

سئل عن ذلك بعض العلماء فقال : المتطير اعتقد أن الله يضره فضره عقوبة له على سوء الظن ، وغير المتطير لم يسئ ظنه بالله فلم يؤاخذه ، وأصل ذلك قوله عليه السلام حكاية عن الله : أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ، وفي رواية : فليظن بي خيرا .

ثم هذا المقام يحتاج إلى تحقيق ، فإن الإنسان لو خاف الهلاك عند ملاقاة السبع لم يحرم إجماعا ، فيتعين أن الأشياء في العالم قسمان : ما جرت العادة بأنه مؤذ كالسموم ، والسباع ، ومعاداة الناس ، والتخم ، وأكل الأغذية الثقيلة المنفخة عند سيئ الهضم ، ونحوها ، فالخوف في هذا القسم ليس حراما ; لأنه خوف عند سبب محقق في مجاري العادات ، قال صاحب " القبس " : قال بعض العلماء : لا عدوى محمول على بعض الأمراض ، بدليل الوباء ، وقسم لم تطرد العادة بأذيته كالشق ، والعبور بين الغنم وشراء الصابون يوم السبت ، ونحوها ، فهذا حرام الخوف منه ; لأنه سوء ظن بالله من غير سبب ، ومن الأشياء ما هو قريب من أحد القسمين ، ولم تتمحض كالعدوى في بعض الأمراض ، ونحوها ، فالورع ترك الخوف حذرا من الطيرة ، ومن ذلك الشؤم [ ص: 255 ] الوراد في الأحاديث : ففي الصحاح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الشؤم في الدار والمرأة والفرس " . وفي بعضها : إن كان ففي الدار والمرأة والفرس . قال صاحب " المنتقى " : يحتمل أن يكون معناه كما قاله بعض العلماء إن كان الناس يعتقدون الشؤم فإنما يعتقدونه في هذه الثلاث ، أو إن كان معناه واقعا في نفس الأمر ففي هذه الثلاث ، وقيل : أخبر بذلك مجملا أولا ، ثم أخبر به واقعا في الثلاث ، فلذلك أحل ثم حرم ، كما قال في الدجال : " إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه ، وإن لم أكن فيكم فامرؤ حجيج نفسه ، والله خليفتي عليكم " ، ثم أخبر عليه السلام أن الدجال إنما يخرج في آخر الزمان ، وكذلك سئل - عليه السلام - عن أكل الضباب ، فقال : " إنه قد مسخت أمة من الأمم وأخشى أن يكون منهم " ، أو ما هذا معناه ، ثم أخبر أن المسوخ لم تعقب ، فقد أخبر بالمسخ مجملا ، ثم أخبر به مفصلا ، وهو كثير في السنة ، فتنبه لهذه القاعدة ، فبها يحصل لك الجمع في كثير من الأحاديث .

ولا مانع أن تجري عادته أن يجعل هذه الثلاث أحيانا سببا للضرر ، ففي " الصحاح " : " يا رسول الله ، دار سكناها والعدد كثير ، والمال وافر ، فقل العدد ، وذهب المال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوها ، ذميمة " . وعن عائشة رضي الله عنها : إنما تحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أقوال الجاهلية في الثلاث . قال الباجي : ولا بعد أن يكون ذلك عادة ، وفي الموطأ قال عليه السلام : " لا عدوى ، ولا هام ، ولا صفر ، ولا يحل الممرض على الصحيح ، وليحل المصح حيث شاء " . قال الباجي : قال ابن دينار : لا يعدي مريض مريضا خلافا لما كانت العرب تفعله ، وتعتقده ، فبين - عليه السلام - أن ذلك من عند الله تعالى .

" ولا هام " ، قال مالك معناه : ولا يتطير بالهام ، كانت العرب تقول إذا وقعت هامة [ ص: 256 ] على بيت خرج منه ميت ، وقيل معناه : أن العرب كانت تقول : إذا قتل أحد خرج من رأسه طائر لا يزال يقول : اسقوني اسقوني ، حتى يقتل قاتله ، فعلى الأول يكون الخبر نهيا ، وعلى الثاني يكون تكذيبا .

" ولا صفر " ، هو الشهر الذي كانت الجاهلية تحرم فيه شهر صفر لتستبيح المحرم ، وقيل : كانت الجاهلية تقول هو داء في الفرج يقتل ، فقال عليه السلام : لا يموت إلا بأجله .

والممرض ذو الماشية المريضة ، والمصح ذو الماشية الصحيحة ، قال ابن دينار : لا يؤذي الممرض المصح بإيراد ماشيته على ماشيته فيؤذيه بذلك ، ونسخ بقوله : " لا عدوى " ، وقيل : لا يحل المجذوم محل الصحيح معه يؤذيه ، وإن كان لا يعدي فالنفس تكرهه ، فهو من باب إزالة الضرر لا من العدوى ، وقيل : هو ناسخ لقوله عليه السلام : " لا عدوى " .

تنبيه : قال الطرطوشي : إن أخذ الفال بالمصحف ، وضرب الرمل ، والشعير ، ونحوه حرام ، وهو من باب الاستقسام بالأزلام مع أن الفال حسن بالسنة ، وتحريره أن الفال الحسن هو ما يعرض من غير كسب ، مثل قائل يقول : يا مفلح ، ونحوه ، والتفاؤل المكتسب حرام ، كما قاله الطرطوشي في تعليقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية