صفحة جزء


النظر الثاني في الستر ، وفي الجواهر يكون صفيقا كثيفا فإن كان شفافا فهو كالعدم مع الانفراد ، وإن كان يصف ولا يشف كره وصحت الصلاة ، قال صاحب الطراز : الخفيف الشفاف بمنزلة التلطخ بالطين لا يعد سترة ، بخلاف الكثيف الرقيق الذي يصف قال : ويجب ستره العورة بكل ما يمكن من حطب أو حشيش أو غيره فإن لم يجد إلا طينا فللشافعية في التلطخ به قولان فإن وجد الستر لبعض العورة ستر الفرجين ، فإن وجده لأحدهما ستر أيهما شاء ، واختلف في أيهما أولى فقال الشافعي : القبل لعدم الحائل بينه وبين النظر ، والدبر تحول بينه وبين النظر الأليتين ولأنه مستقبل به من يناجي ، ولبعض أصحابه الدبر أولى ; لفحشه عند الركوع والسجود قال : وهذا أبين ، [ ص: 109 ] ويجعل مذاكيره بين فخذيه ويمكنه سترها بظهر يديه بخلاف الدبر .

فروع ستة :

الأول : لو وجد جلد كلب أو خنزير أو ميتة ، فظاهر المذهب الستر به في غير الصلاة ، وعلى قول عبد الملك في عدم الانتفاع بالنجاسة لا يلبسه ، وإذا أبحنا له الخنزير والجلد النجس وجبت الصلاة به ; لأنه مأذون فيه ، وقال أبو حنيفة : هو مخير بين لبسه وتركه ; لتعارض حرمة العري والصلاة بالنجاسة فتعين التخير ، وقال الشافعي : في القديم يصلي عريانا ، وقال أيضا : يصلي به لنا أن التطهير يسقطه عدم الماء وقد تحقق ، والستر لا يسقطه إلا العجز ولم يوجد ولأن في العري هتك حرمتين : حرمة الستر عن الأبصار ، وحرمة الستر للصلاة بخلاف النجاسة .

الثاني قال : إذا لم يجد إلا حريرا صلى به عند الكافة خلافا لابن حنبل ، ووقع مثله لابن القاسم قال : ولعل الصحيح أن لبسه مع القدرة لا يفسد الصلاة ، وهو قول ابن وهب وابن الماجشون ولم يستحبا له إعادة ، وقال أشهب : إن كان عليه غيره لم يعد وإلا أعاد في الوقت ، وقال ابن حبيب : يعيد أبدا إذا لم يكن عليه غيره وإن كان لم يعد ; لأن جنسه لا ينافي الصلاة بدليل ما لو كان محشوا في كمه ، ولبسه للنساء وفي الحرب ، وجوزه [ ص: 110 ] ابن حبيب في الغزو إذا كان معه غيره . وفي الصحيحين أنه - عليه السلام - أهدي إليه فروج من حرير فلبسه وصلى فيه ، ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره له وقال : لا ينبغي هذا للمتقين ولم يعد الصلاة ، وفي الجواهر إذا لم يجد إلا حريرا صلى عريانا عند ابن القاسم وأشهب ، واستقرأ الإمام أبو عبد الله من تقديمه الحرير على النجس في الكتاب أنه يصلي به ولا يصلي عريانا ، وهذا خلاف ما نقله صاحب الطراز ، وكذلك رأيته للمازري منقولا عن ابن القاسم وأشهب ، وقال في التخريج الذي عزاه إليه : أنه في المدونة قدمه على النجس ، والنجس مقدم على العري ، والمقدم على المقدم على العري مقدم على العري ، وقال : يلزم من قال بالإعادة مطلقا إذا صلى في الحرير وحده مختارا ; لأنه بمنزلة العريان اختيارا لكون الممنوع شرعا كالمعدوم حسا أنه إذا صلى في الثوب المغصوب يعيد فإن التزمه ألزمناه الصلاة في الدار المغصوبة ، والمعروف عند العلماء صحتها فلا يجد انفصالا إلا أن يقول الحرير حق الله تعالى فهو أشد من الغصب ، الذي هو حق للعباد ، ولقوله الإسقاط من جهتهم . وفي الجواهر لو اجتمع له حرير ونجس ففي الكتاب يصلي في الحرير ويعيد في الوقت ; لأن تحريمه ليس لأجل الصلاة فلا ينافيها بخلاف النجاسة ، وعند أصبغ يصلي في النجس لعموم تحريم الحرير في الصلاة وغيرها ، فيكون أفحش من النجس الذي تحريمه خاص بالصلاة فلو صلى بثوب حرير مع القدرة على طاهر غير حرير ، فإن أفرده فقيل يعيد في الوقت وبعده ، وقيل لا يعيد مطلقا ، وقيل في الوقت فإن كان عليه غيره فقيل يعيد ، وقيل لا إعادة عليه وكذلك الخلاف فيمن صلى متختما بالذهب .

الثالث : قال في الكتاب : يجوز أن يصلي محلول الإزار بغير سراويل ، قال [ ص: 111 ] صاحب الطراز ، قال مطرف : رأيت مالكا في المسجد مطلق الإزار ، فلما حضرت الصلاة زرره . وقال ابن الصباغ من الشافعية : إن كان ضيق الجيب لا ترى منه العورة جازت الصلاة ، وإلا لم تجز إلا أن يزرره أو يشد وسطه بحبل لما في أبي داود قال سلمة بن الأكوع : إني رجل أصيد أفأصلي في القميص الواحد ؟ قال : نعم وزرره ولو بشوكة . وفرق الحنفية بين الأمرد وبين الملتحي ; لأن لحيته تستر الجيب والطوق ، لنا ما في البخاري كان رجال يصلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان فيقال للنساء : لا ترفعن رءوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا ، وكل ما يتوقع من الجيب يتوقع من الذيل .

الرابع : قال ابن القاسم في الكتاب تجوز الصلاة بمئزر وسراويل ، وقال ابن حنبل : لا تجزئه حتى يكون على عاتقه منه شيء وكذلك السراويل ; لما في البخاري : لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء وهو محمول عندنا على الاستحباب ، قال صاحب الطراز : السراويل مكروه ابتداء وهو قول الشافعي ومالك في العتبية لما في أبي داود أنه - عليه السلام - نهى أن يصلي في سراويل ليس عليه رداء ولأنه يصف ، ومن زي العجم ، وقال أشهب : يعيد من صلى في السروال والتبان في الوقت . قال : وكذلك [ ص: 112 ] من أذن في السراويل وحدها ، أعاد أذانه ما لم يصل ، وكان كمن صلى بغير أذان .

الخامس : قال صاحب الجلاب : من صلى في ثوب واحد فإن كان واسعا التحف به وخالف بين طرفيه وعقده على عنقه ، وإن كان ضيقا ائتزر به من سرته إلى ركبتيه ، ولا إعادة عليه إذا صلى كذلك مع وجود غيره ويعيد في الوقت ، وفي البخاري : النهي عن اشتمال الصماء وهي عند أهل اللغة تجلل الرجل بإزاره لا يرفع منه جانبا كالصخرة الصماء التي فيها ، فإن وهمه أمر لا يمكنه إلا الاحتراز منه ، وعند الفقهاء هي أن يدخل الرداء من تحت إبطه الأيسر ، ويترك طرفه على يساره ويبدي منكبه الأيمن ، ويغطي الأيسر وهو عند أهل اللغة الاضطباع ; لأنه يبدي ضبعه الأيمن فكرهت ; لأنه في معنى المربوط ولا يتمكن من الركوع والسجود والمندوب ، أو لأنه لا يباشر الأرض بيديه ، وإن باشر انكشفت عورته فإن كان عليه مئزر فلا بأس به .

السادس : قال في الكتاب : إذا صلى محتزما أو جامعا شعره ، أو جامعا كميه إن كان ذلك لباسه ، أو كان يعمل فأقيمت الصلاة فدخل على هيئته فلا بأس وإلا فلا خير فيه ، وفي الصحيحين : أمرت أن أسجد على سبع ولا أكفت الشعر ولا الثياب . والكفت الضم ومنه قوله تعالى : ( ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا ) [ ص: 113 ] أي : تضم الفرقتين . قال صاحب الطراز : وسر الكراهة أن يضم ذلك خشية التراب ، وقد قال عليه السلام : عفر وجهك في التراب ، ولأنه شأن التذلل والخضوع قال : وعلى هذا لو كان مكشوف الرأس فأراد ستره ليقيه التراب كره ، قال صاحب الجلاب : الاختيار لمن صلى في جماعة أن يلبس أكمل اللباس ، والإمام أولى بذلك ويرتدي ولا يعري منكبيه ، ولا بأس بالمئزر والعمامة ، ويكره السروال والعمامة فإن كان عليه سيف أو قوس جعل عليه شيئا من اللباس ، والأصل في ذلك قوله تعالى : ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) والعبد يناجي ربه فيستحب أن يتجمل له ، ولما كان الإمام ينبغي أن يكون أفضل القوم دينا فينبغي أن يكون أفضلهم زيا ، وقوله تكره السراويل والعمامة ، الكراهة لأجل السروال ، وذكر العمامة حشو في الكلام ، وكره أن يصلي في ثوب يسجد على بعضه ; لأنه يصير بمنزلة الساجد على غير الأرض .

التالي السابق


الخدمات العلمية