صفحة جزء
النوع الرابع عشر :

الملاقاة وما يتعلق بها من المصافحة والمعانقة ونحو ذلك

وفي " الموطأ " قال عليه السلام : " تصافحوا يذهب الغل ، وتهادوا تتحابوا وتذهب الشحناء " . وفي غيره : " إذا تلاقى الرجلان فتصافحا تحاثت ذنوبهما وكان أقربهما إلى الله أكثرهما بشرا " ، قال الباجي : يحتمل أن يريد المصافحة بالأيدي ، [ ص: 297 ] وقال علقمة : تمام التحية المصافحة ، وجوز مالك المصافحة ، ودخل عليه سفيان بن عيينة فصافحه وقال : لولا أن المعانقة بدعة لعانقتك ، فقال سفيان : عانق من هو خير مني ومنك النبي صلى الله عليه وسلم - لجعفر حين قدم من أرض الحبشة - ، قال مالك : ذلك خاص ، قال سفيان : بل عام ما يخص جعفرا يخصنا وما يعمه يعمنا إذا كنا صالحين ، أفتأذن لي أن أحدث في مجلسك ؟ قال : نعم ، يا أبا محمد ، قال : حدثني عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عباس : لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبل بين عينيه ، وقال : جعفر أشبه الناس بنا خلقا وخلقا ، يا جعفر ، ما أعجب ما رأيت بأرض الحبشة ؟ قال : يا رسول الله ، بينا أنا أمشي في بعض أزقتها إذا سوداء على رأسها مكيل بر ، فصدمها رجل على دابته ، فوضع مكيلها ، وانتشر برها ، فأقبلت تجمعه من التراب ، وهي تقول : ويل للظالم من ديان يوم القيامة ، ويل للظالم من المظلوم يوم القيامة ، فقال النبي عليه السلام : " لا يقدس الله أمة لا تأخذ لضعيفها من قويها حقه غير مقنع . ثم قال سفيان : قدمت لأصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وأبشرك برؤيا رأيتها نامت عينك خيرا إن شاء الله ، قال سفيان : رأيت كأن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فأقبل الناس يهرعون من كل جانب ، والنبي صلى الله عليه وسلم يرد بأحسن رد ، قال سفيان : فأتي بك والله أعرفك في منامي كما أعرفك في يقظتي ، فسلمت عليه ، فرد عليك السلام ، ثم رمى في حجرك بخاتم نزعه من أصابعه ، فاتق الله فيما أعطاك عليه السلام ، فبكى مالك بكاء شديدا ، قال سفيان : السلام عليكم ، قال : خارج الساعة ؟ قال : نعم ، فودعه مالك ، وخرج .

وعن مالك : كراهة المصافحة ، والمعانقة ، وعلى هذه الرواية : المصافحة التي في الحديث صفح بعضهم عن بعض من العفو ، قال : وهو أشبه ; لأنه يذهب بالغل غالبا ، واحتج مالك على منع المصافحة باليد بقوله تعالى : ( إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام ) ولم يذكر مصافحة ، ولأن السلام ينتهى فيه [ ص: 298 ] للبركات ، قال قتادة : قلت لأنس : أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، ولأنها تمام المودة ، فناسب أيضا إذهاب الغل ، وفي " القبس " قال عليه السلام : ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما ، قال صاحب " المقدمات " : المصافحة مستحبة وهو المشهور ، وإنما كره المعانقة ; لأنه لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعلها إلا مع جعفر ، ولم يصحبها العمل من الصحابة بعده عليه السلام ، ولأن النفوس تنفر عنها ; لأنها لا تكون إلا لوداع ، أو من فرط ألم الشوق ، أو مع الأهل ، والمصافحة فيها العمل .

ويكره تقبيل اليد في السلام لاحتمال أن يكون أفضل منه عند الله ، وسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسع آيات بينات ، فقال لهم : لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تمشوا ببريء إلى السلطان ليقتله ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا محصنة ، ولا تولوا الفرار يوم الزحف ، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت ، فقاموا فقبلوا يده ورجليه ، وقالوا نشهد أنك نبي ، قال : فما " يمنعكم أن تتبعوني " ، قالوا : إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي ، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

قال صاحب " البيان " : ففعل اليهود ذلك مع المسلم لا يكره ، وكان عبد الله بن عمر إذا قدم من سفره قبل سالما ، وقال : شيخ يقبل شيخا ، إعلاما أن هذا جائز على هذا الوجه لا على وجه مكروه .

قالت عائشة رضي الله عنها : وقدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ، فأتاه ، فقرع الباب ، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه ، والله ما رأيته عريانا قبله ، ولا بعده ، فاعتنقه وقبله ، قال الترمذي حديث حسن غريب ، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا حين قدم من الحبشة ، وأما القبلة في الفم للرجل من الرجل فلا رخصة فيها بوجه .

قال ابن يونس قال مالك : إذا قدم من سفره فلا بأس أن تقبله ابنته وأخته ، [ ص: 299 ] ولا بأس أن يقبل خد ابنته ، وكره أن تقبله ختنته ومعتقته ، وإن كانت متجالة ، وأجاز مالك المعانقة في رسالته لهارون الرشيد أن يعانق قريبه إذا قدم من السفر ، وقيل : هذه الرسالة لم تثبت لمالك .

قال مالك : ويقال من تعظيم الله تعالى تعظيم ذي الشيبة المسلم ، فالرجل يقوم للرجل له الفضل والفقه فيجلسه في مجلسه ، قال يكره ذلك ، ولا بأس أن يوسع له ، قيل : فالمرأة تلقى زوجها تبالغ في بره ، وتنزع ثيابه ، ونعليه ، وتقف حتى يجلس ، قال : ذلك حسن غير قيامها حتى يجلس ، وهذا فعل الجبابرة ، وربما كان الناس ينتظرونه فإذا طلع قاموا ، ليس هذا من فعل الإسلام ، وفعل ذلك لعمر بن عبد العزيز أول ما ولي حين خرج إلى الناس فأنكره ، وقال : إن تقوموا نقم ، وإن تقعدوا نقعد ، وإنما يقوم الناس لرب العالمين ، وقال عليه السلام : " من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار " ، قيل له : فالرجل يقبل يد الرجل ، أو رأسه ، قال هو من عمل الأعاجم لا من عمل الناس ، وأما تقبيل رأس ابنه فخفيف ، ولا يقبل خد ابنه ، أو عمه ، قال : لم يفعله الماضون .

قال صاحب " البيان " : القيام أربعة أقسام : حرام إذا فعل تعظيما لمن يحبه تجبرا على العالمين ; ومكروه إذا فعل تعظيما لمن لا يحبه كذلك ; لأنه يشبه فعل الجبابرة ، ولتوقع فساد قلب المقوم له ، ومباح إذا فعل إجلالا لمن لا يريده ; ومندوب للقادم من السفر فرحا بقدومه ليسلم عليه أو يشكر إحسانه ، أو للقادم المصاب ليعزيه في مصيبته ، وبهذا يجمع بين قوله عليه السلام : من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار " ، وبين قيامه عليه السلام لعكرمة بن أبي جهل لما قدم من اليمن فرحا بقدومه ، وقيام طلحة بن عبيد الله لكعب بن مالك ليهنئه بتوبة الله عليه بحضوره عليه السلام ، ولم ينكر عليه ولا قام من مجلسه ، فكان كعب يقول : لا أنساها لطلحة .

وكان عليه السلام يكره أن يقام له ، فكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لعلمهم [ ص: 300 ] بكراهيته لذلك ، وإذا قام إلى بيته لم يزالوا قياما حتى يدخل بيته ، لما يلزمهم من تعظيمه قبل علمهم بكراهيته لذلك ، وقال عليه السلام للأنصار : قوموا لسيدكم ، قيل : تعظيما له وهو لا يحب ذلك ، وقيل : ليعينوه على النزول على الدابة .

تنبيه : حضرت عند الشيخ عز الدين بن عبد السلام من أعيان العلماء الشافعية الربانيين فحضرته فتيا : ما تقول في القيام الذي أحدثه الناس في هذا الزمان هل يحرم أم لا ؟ فكتب رحمه الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا " ، وترك القيام في هذا الوقت يفضي للمقاطعة ، والمدابرة ، فلو قيل بوجوبه ما كان بعيدا ، فقرأتها بعد كتابته رحمه الله ، والناس تحدث لهم أحكام بقدر ما يحدثون من السياسات ، والمعاملات ، والاحتياطات ، وهي على القوانين الأولى غير أن الأسباب تجددت ، ولم يكن في السلف ، وقد بسطت من هذا طرفا في ولاية المظالم في كتاب الأقضية .

ويلحق بالقيام النعوت المعتادة ، وأنواع المكاتبات على ما قرره الناس في المخاطبات ، وهذا النوع كثير لم تكن أسبابه في السلف ، غير أنه قد تقرر في قاعدة الشرع اعتبار هذه الأسباب كما قال الشيخ رضي الله عنه ، فإذا وجدت وجب اعتبارها ، وفي هذا التنبيه كفاية .

التالي السابق


الخدمات العلمية