صفحة جزء
الركن السادس : في السجود وهو في اللغة الانخفاض إلى الأرض ، سجدت النخلة إذا مالت ومنه قوله :


بجيش يظل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجدا للحوافر



والأصل في وجوبه قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ) وفعله - عليه السلام - وإجماع الأمة ، ونهى في الكتاب عن الإقعاء وإلصاق البطن بالفخذين وإلصاق الضبعين للجنبين ، ووضع الذراعين على الفخذين إلا في النوافل ، وافتراش الذراعين ، وأمر بتوجيه اليدين إلى القبلة ولم يعين موضعهما ، ومساواة النساء للرجال في السجود والجلوس والتشهد والسجود على الأنف والجبهة . وفي الجواهر لا يجب كشف الكعبين ويستحب . أما الإقعاء فاختلف في تفسيره ، قال أبو عبيدة : الجلوس على الأليتين مع نصب الفخذين كالكلب إذا جلس ، وقال أهل الحديث : وضع الأليتين على القدمين ، وزاد الخطابي : ويقعد مستقرا وهو يكسر الهمزة الأولى ممدودا ، وأما حكمه قال الخطابي : كرهه جماعة من الصحابة وأهل العلم ، وأهل المدينة وابن حنبل يستعملونه ، وفي مسلم سأل طاوس ابن عباس عن الإقعاء على القدمين فقال : هي السنة وهو حجة لتفسير الحديثين ، وفي أبي داود قال عليه [ ص: 192 ] السلام لعلي رضي الله عنه : يا علي إني أحب لك ما أحب لنفسي ، وأكره لك ما أكره لنفسي لا تقع بين السجدتين . وأما إلصاق البطن ومجافاة اليدين ففي مسلم أنه - عليه السلام - كان إذا صلى فرج ما بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه ، وفي أبي داود عن البراء بن عازب أنه وصف سجوده - عليه السلام - فوضع واعتمد على رأسه ورفع عجيزته ، وقال : هكذا كان - عليه السلام - يسجد ، وأما الافتراش فلقوله عليه السلام : إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك . وأما توجه اليدين فلأنهما يسجدان فيتوجها ، وأما مكان وضعهما فلم يحدده في الكتاب ، وقال صاحب الطراز : قال محمد بن مسلمة و ( ش ) : حذو منكبيه وهو في الحديث عنه - عليه السلام - وحذو أذنيه عند ابن عمر ، ويروى عنه - عليه السلام - ذلك في الترمذي . قال : والخلاف هاهنا مبني على الخلاف في موضعهما حالة الإحرام فإن الإنسان ينبغي أن تكون يداه حالة سجوده موضعهما حالة إحرامه ، قال : ووضعهما بين المنكب والصدر أمكن للسجود ويبسطهما فإن قبضهما من غير عذر ، قال ابن القاسم : يستغفر الله وهو محمول على أنه مس الأرض ببعض كفه ، أما لو لم يمس إلا ظاهر أصابعه لم يجزه ، وفي البيان في الماسك عنان فرسه ولا يصل بيده الأرض ، [ ص: 193 ] قال مالك : لا بأس به للضرورة وهو أحسن من قوله أيضا : ولا أحب له أن يتعمد ذلك ولا يعتاده . وأما مساواة النساء للرجال ففي النوادر عن مالك : تضع فخذها اليمنى على اليسرى ، وتنضم قدر طاقتها ، ولا تفرج في ركوع ولا سجود ولا جلوس بخلاف الرجل وهو قول ( ش ) ، وجه الأول ما في الحديث : أن النساء شقائق الرجال ، وجه الثاني : أن انفراج المرأة يذكر بحال الجماع فيفسد عليها صلاتها ، ولذلك قيل إنما يؤمرن بذلك إذا صلين مع الرجال ، وأما وضع الكفين مع الوجه في موضع واحد ، فلأنهما يسجدان مع الوجه فيشاركانه بخلاف الركبتين والقدم فإنهما يبقيان في الأرض بعد رفع الوجه ، فلا يضع يديه إلا على ما عليه وجهه ، وأما السجود على الأنف والجبهة ، قال صاحب الطراز : هو قول الكافة فإن اقتصر على أنفه بطلت عند ابن القاسم ، وروى أبو الفرج في الحاوي الإجزاء وإن اقتصر على الجبهة أجزأه عند مالك في النوادر ، واستحب له صاحب الإشراف الإعادة في الوقت ، وبطلت في الوجهين عند ابن حبيب ، وصحت في الوجهين عند ( ح ) والمشهور الإجزاء في الجبهة دون الأنف ، وجه الوجوب فيهما قوله عليه السلام :لا صلاة لمن لم يصب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين . في الدارقطني حجة أبي حنيفة أن الأنف من الوجه فيجزئ كجزء من الجبهة ، وهو مدفوع بالحديث وبالقياس على الذقن ، قال : وظاهر المذهب أن السجود على الوجه واليدين والركبتين والرجلين واجب ، وذكره الطليطلي وهو مذهب ابن حنبل ، وعند ( ح ) ليس بواجب ، [ ص: 194 ] وللشافعي قولان ، وفي الجواهر قال القاضي أبو الحسن : يقوي في نفسي أن السجود على الركبتين وأطراف القدمين سنة في المذهب ، قال : فإن لم يرفع يديه عند رفعه من السجود قيل : تبطل صلاته ، وقيل : لا تبطل .

فروع سبعة :

الأول : قال في الكتاب : إذا عجز عن السجود لا يرفع إلى جبهته شيئا ولا ينصب بين يديه شيئا يسجد عليه ، فإن استطاع السجود وإلا أومأ ، فإن رفع شيئا وجهل لا إعادة عليه . وقال ( ش ) : ينصب شيئا يسجد عليه قياسا على الرابية تكون بين يديه فإن وضعه على يديه لم يجزه ; لأنه ساجد على ما هو حامل له ، وإنما يسجد على الأرض أو ما يقوم مقامها . لنا ما في الكتاب عن ابن شهاب أنه - عليه السلام - نهى أن يصلي الرجل على رحل ، وقال : فمن لم يستطع فليوم برأسه إيماء ، قال صاحب الطراز : وأما قوله إن نصب شيئا لا إعادة عليه فهذا له حالتان : أن الصلاة بجبهته وأنفه لم يجزه ، وإن أومأ إليه أجزأه ، قاله في النوادر ، قال : وفيه نظر فإن السجود كان على الأرض ، فوجب أن يكون الإيماء لها ، ألا ترى إلى قول مالك يحسر العمامة عن جبهته في إمائه ، وابن القاسم لاحظ كونه بدلا يعرض فيه عن الأول كالتيمم .

الثاني : قال في الكتاب : من بجبهته جراحات لا يستطيع بها الأرض إلا بأنفه [ ص: 195 ] فإنه يومئ ، قال صاحب الطراز على قول ابن حبيب : إن السجود لا يجزئ على الجبهة دون الأنف ، وقول ( ح ) إن الأنف يجزئ عن الجبهة لا يجزيه الإيماء ، وقال ( ش ) : يسجد على صدغيه . لنا أن السجود إنما يكون بالجبهة لقوله - عليه السلام - في الصحيحين : أمرت أن أسجد على سبعة أعظم الجبهة واليدين والركبتين والرجلين . وفي رواية أشار لأنفه ، وقد جعل الشرع الإيماء بدل السجود ، والعدول عن البدل الشرعي لا يصح كما لو سجد على هامته فلو سجد على أنفه ، قال أشهب : يصح ; لأنه أبلغ من الإيماء .

الثالث : قال صاحب الطراز : لو رفع من الركوع فسقط على جبينه وانقلب على أنفه أجزأه عند ( ح ) خلافا ( ش ) ، ويتخرج في المذهب على قولين قياسا على من قرأ السجدة فأهوى إليها فركع ساهيا ، ففي النوادر : روى جميع الأصحاب الإجزاء إلا ابن القاسم روى الإلغاء .

الرابع : قال في الكتاب : إذا نهض من بعد السجدتين من الركعة الأولى فينهض ولا يجلس على صدور قدميه . قال صاحب الطراز : هذا له صورتان إحداهما : أنه يثبت ولا يعتمد على يديه وهو مذهب ( ش ، ح ) ، ومكروه عند مالك ; لما روي عنه - عليه السلام - أنه نهض معتمدا على الأرض وهو أقرب للوقار ، فإذا نزل للسجود هل ينزل على يديه أو ركبتيه ؟ قال القاضي عبد الوهاب : ذلك واسع واليدان أحسن ، خلافا ( ش ، ح ) ; لما في أبي داود أنه - عليه السلام - قال : إذا سجد أحدكم فلا [ ص: 196 ] يبرك كما يبرك البعير ، وليضع يديه قبل ركبتيه ، والصورة الثانية أن يستقر على صدور قدميه قبل النهوض فكرهه مالك ( ح ) ، خلافا ( ش ) وقد روي الأمران في الحديث ، وما ذكرناه أرجح قياسا على سائر الانتقالات ، ورواية الاستراحة محمولة على العذر فإن فعل ذلك أحد فلا يعيد ولا يسجد ; فإن السجود إنما يكون فيما يبطل الصلاة عمده ، وزعم اللخمي أنه اختلف في السجود له فإذا قام من الجلسة الأولى قام معتمدا على يديه اتفاقا ، وكره ( ش ) تقديم إحدى الرجلين ، وروي عن مالك لا بأس به ، ويروى عن ابن عباس أنها الخطوة الملعونة .

الخامس : قال في الكتاب : أحب إلي أن يرفع كور العمامة حتى يمس الأرض ببعض جبهته ، قال ابن القاسم : أكرهه فإن فعل فلا إعادة وهو قول ( ح ) وابن حنبل ، وقال ( ش ) : لا يجزيه ، وقال ابن حبيب : إن كان كثيفا أعاد في الوقت ، وإن كان طاقتين لم يعد .

فائدة : كور العمامة بفتح الكاف هو مجتمع طاقتها على الجبين .

السادس : كره في الكتاب حمل التراب أو الحصباء من الظل إلى الشمس يسجد عليه ، قال ابن القاسم في العتبية : ويسجد على فضل ثوبه كما فعل ابن عمر - رضي الله عنهما - قال صاحب النكت : إنما كره ذلك في المساجد ; لأنه يؤدي إلى حفرها فيتأذى الماشون فيها .

[ ص: 197 ] السابع : كره في الكتاب السجود على الطنافس ، والشعر ، والثياب ، والأدم بخلاف الحصر وما تنبته الأرض خلافا ( ش ) لما في ذلك من التواضع ، أو اتباع السنة كان - عليه السلام - وأصحابه يسجدون على التراب والطين ، وفي الصحيح قال - عليه السلام - في ليلة القدر : إني أراني في صبيحتها أسجد في ماء وطين فوكف سقف المسجد تلك الليلة بالمطر ، فخرج - عليه السلام - وعلى وجهه الماء والطين من أثر السجود على الأرض . وقد أنفق على مسجده - عليه السلام - في الزمن القديم مال عظيم ، ولم يفرش فيه بسط ولا غيرها ، وكذلك الكعبة تكسى ولا تفرش ولولا ما ذكرنا ; لتقرب الناس بالفرش كما تقربوا بغيره ، فأما ما تنبت الأرض ; فلأنه - عليه السلام - صلى على الخمرة المعمولة من الجريد وعلى الحصير الذي قد اسود من طول ما لبس ، وليست العلة كونه نبات الأرض فإن ثياب القطن والكتان نبات الأرض فلم تكره الصلاة عليهما ، بل العلة مركبة من نبات الأرض وفعل السنة مما فيه تواضع ، قال صاحب الطراز : فإن فرش خمرة فوق البساط لم يكره وسئل عن المروحة فقال : هي صغيرة إلا أن يضطر إليها ولا يلزم أن يضع رجليه وركبتيه على ما عليه وجهه بخلاف اليدين .

فائدة :

من التنبيهات : الطنفسة - بكسر الطاء وفتح الفاء - وهي أفصحهما [ ص: 198 ] وبضمهما معا وكسرهما معا وحكي فتح الطاء وكسر الفاء وهي بساط صغير كالخرقة ، وكل بساط طنفسة ، والأدم بفتح الهمزة والدال : الجلود المدبوغة جمع أديم .

التالي السابق


الخدمات العلمية