صفحة جزء
[ ص: 226 ] الباب السادس

في فضائل الصلاة

قال صاحب المقدمات : وهي سبع عشرة : جعل الرداء على المنكب والتيامن في السلام ، وقراءة المأموم مع الإمام في السر ، وإطالة القراءة في صلاة الصبح والظهر ، وفي الجلاب : إذا ابتدأ قصيرة قطعها وشرع في طويلة ، وفي الموطأ أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قرأ البقرة في صلاة الصبح ، وأن عمر - رضي الله عنه - قرأ يوسف والحج في ركعتي الصبح ، وأن القرافصة بن عمير قال : ما أخذت سورة يوسف إلا من قراءة عثمان بن عفان إياها في الصبح من كثرة ما كان يرددها ، ذكر هذا مالك ليدل أن العمل يقتضي ذلك ، مع أن في مسلم أنه - عليه السلام - قرأ ( إذا زلزلت ) في ركعتي الصبح ، وفي رواية بالمعوذتين ، وفي [ ص: 227 ] الجواهر يقرأ في الصبح بطوال المفصل وما زاد عليها بقدر ما يحمله التغليس ولا يبلغ بها الإسفار ، والظهر دونها ، ويخفف في المغرب ، والعصر تليها ، والعشاء بين المنزلتين ، وقال ش ح وأشهب : يسوي الظهر بالصبح والمدرك في ذلك العمل ، ومن جهة المعنى أن الصبح ركعتان فقط وتدرك الناس أكثرهم نيام فيمد فيها حتى يدركها المسبوق ، ففي الحديث : من شهد صلاة الصبح فكأنما قام ليلة بالتطويل . يحصل للمسبوق هذه الفضيلة ، والظهر يدرك الناس مستيقظين وعددها أربع فهذا يقتضي عدم الإطالة وكونه في وقت فراغ من الأعمال للتخلي للقائلة والأغذية يقتضي التطويل فكانت دون الصبح ، وأما العصر فتأتي في وقت شغل ، والمغرب وقتها ضيق بخلاف غيرها ، قال صاحب الطراز : وهما يستويان في القراءة عند مالك مع أنه قد ورد في الصحيحين أنه - عليه السلام - كان يقرأ بالطور في المغرب ، ثم ما صلى بعدها حتى قبضه الله ، وفي أبي داود بالأعراف ، وروى ابن وهب عن عمرو بن العاص قال : ما من القرآن شيء إلا وقد سمعته - عليه السلام - يؤم الناس به فكان - عليه السلام - يخالف عادته ; ليعلم الناس ذلك ، وقد أنكر العلماء ومالك على من يقتصر على [ ص: 228 ] بعض القرآن ولو كان أفضل من غيره فإن الله تعالى أنزل القرآن ; ليخاف من وعيده ويرجى وعده ، ويتأدب بقصصه فينبغي أن يتلى جميعه ، قال صاحب البيان : كره مالك تكرار قراءة : قل هو الله أحد في ركعة واحدة للذي يحفظ القرآن ; لئلا يعتقد أن أجر قرائتها ثلاث مرات مثل أجر جملة القرآن متأولا لقوله عليه السلام : إنها تعدل ثلث القرآن . فقال إذ ليس ذلك معنى الحديث عند العلماء ، بل له معان كثيرة عندهم ، أحسنها أن أجرها مضاعف يعدل أجر ثلث القرآن غير مضاعف .

فائدة :

قال صاحب الطراز : المفصل كله مكي ، وأوله قيل الحجرات ، وقيل ق وهو الصحيح ; لأن الحجرات مدنية ، وقيل الرحمن . قال : وكره مالك إظهار الهمزة في قراءة الصلاة ، واستحب التسهيل على رواية ورش ; لأنه لغته - عليه السلام - قال : وكذلك الترقيق والتفخيم والروم والإشمام ، وغير ذلك من معاني القراءة ، قال : وتقصير الجلسة الأولى ، والتأمين بعد الفاتحة للفذ والإمام فيما يسر فيه ، وقول الفذ ربنا ولك الحمد ، وصفة الجلوس ، والإشارة فيه بالأصبع ، وقيام الإمام من موضعه ساعة يسلم والسترة وينبغي أن يحمل قوله على موضع الأمن من المرور بوجوبها في غيره ، قال : واعتدال الصفوف ، وترك البسملة ، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى حالة القيام ، وقد كرهه في المدونة ، قال : كراهة [ ص: 229 ] أن يعد من الواجبات ، وقال في الكتاب : أكرهه في الفريضة بخلاف طول القيام في النوافل . وفي الجواهر قال أبو محمد وأبو الوليد : رواية ابن القاسم محمولة على الاعتماد ، قال صاحب الطراز : فيه ثلاث روايات : الكراهة في الفرض : رواية ابن القاسم ، والإباحة في الفرض والنفل : رواية أشهب ، والاستحباب فيهما : رواية مطرف وهو مذهب ش ، ح وابن حنبل وهو في الصحاح عنه عليه السلام . وفي الموطأ عنه - عليه السلام - أنه قال : من كلام النبوة إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة . قال : واختلف القائلون به فقال الباجي : يقبض يمناه على المعصم والكوع من اليسرى ولا يعتمد عليها ، وقال الحنفية : يقبض على أصابع اليسرى ، وقال بعض الشافعية : لا يقبض على شيء بل يضع كفه اليسرى مبسوطة وكفه اليمنى عليها وهو مروي عنه - عليه السلام - وقال بعضهم : يقبض بكفه اليمنى كفه اليسرى ، وقال بعضهم : يضع كفه على كفه ويقبض بالخنصر والبنصر والإبهام على رسغه ويمد الوسطى والسبابة على ذراعه اليسرى واختلف في موضعهما ، قال ابن حبيب : غير محدود ، وقال عبد الوهاب : تحت الصدر وفوق السرة وهو ظاهر حديث الموطأ ، وقال الحنفية : يضعهما تحت السرة وهو في أبي داود عنه - عليه السلام - وروي عن ش فوق النحر ; لما روي عن علي - رضي الله [ ص: 230 ] عنه في تفسير قوله تعالى : ( فصل لربك وانحر ) أنه ذلك ، قال : والصلاة على الأرض أو ما تنبته ، والصلاة في جماعة للرجل في نفسه وهي سنة في المساجد وفريضة في الجملة ، وأما النساء فقال صاحب البيان : أما المتجالات فلا خلاف في خروجهن للمساجد والأعياد وغيرها ، وأما الشابة فلا تخرج إلا في الندرة ، وفي جنائز أهلها وعلى الإمام منعهن ، وفي الحديث عنه عليه السلام : ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء . وقالت عائشة رضي الله عنها : لو أدرك - عليه السلام - ما أحدثه النساء ; لمنعهن المساجد كما منع نساء بني إسرائيل . قال : والنساء أربع : فانية فهي كالرجل ، ومتجالة فلا تكثر التردد ، وشابة تخرج على الندرة ، وفائقة لا خمار لها لا تخرج البتة .

والقنوت وأصله في اللغة الطاعة ومنه قوله تعالى : ( والقانتين والقانتات ) . ويطلق على طول القيام في الصلاة ، وفي الحديث : أفضل الصلاة طول القنوت . وعلى الصمت ، ومنه قوله تعالى : ( وقوموا لله قانتين ) . وعلى الدعاء ، ومنه قنوت الصبح وهو عندنا وعند ش ، ح مشروع ، خلافا لابن حنبل ، وفي الصبح عندنا وعند ش ، خلافا ح في تخصيصه إياه بالوتر ، وفي الجلاب لمالك في القنوت في النصف الأخير من رمضان روايتان . لنا ما سنذكره من الأحاديث أجاب ابن حنبل [ ص: 231 ] فحملها على نوازل كانت تنزل بالمسلمين والحكم ينتفي ; لانتفاء سببه .

جوابه : منع التعليل بخصوص تلك الوقائع ، بل لمطلق الحاجة لدرء الشرور وجلب الخيور وهو أولى لعمومه فيجب المصير إليه ، وهذه العلة باقية فيدوم الحكم ، قال في الكتاب : إذا قنت قبل الركوع لا يكبر خلافا لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : وقبل الركوع وبعده واسع والذي آخذ به في نفسي قبل ، خلافا ش وكان علي - رضي الله عنه - يقنت قبل ، وعمر وأبو هريرة - رضي الله عنهما - يقنتان بعد ، وفي الصحيحين : سئل - عليه السلام - أهو قبل أم بعد ؟ فقال : محل القنوت قبل . زاد البخاري قيل لأنس : إن فلانا يحدث عنك أن النبي - عليه السلام - قنت بعد الركوع قال : كذب فلان . وفي رواية أنه قنت بعد الركوع شهرا ووافق ش في الوتر أن قنوته قبل ، ولأنه قبل يحصل للمسبوق فضيلة الجماعة ، وقال في الكتاب : لا توقيت فيه ولا يجهر ، أما عدم التحديد ; فلأنه ورد بألفاظ مختلفة ، وأما عدم الجهر فقياسا على سائر الأدعية ، وروى ابن وهب أن جبريل علم النبي - عليهما السلام - اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخنع لك ونخلع ونترك من يكفرك ، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد إن عذابك بالكافرين ملحق . وإن هذا بعد ما كان يدعو على مضر إذ جاءه جبريل - عليه السلام - فأومأ إليه صلى الله عليه وسلم أن اسكت فسكت فقال : إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعانا ، إنما بعثك رحمة ولم [ ص: 232 ] يبعثك عذابا : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) . ثم علمه القنوت ، وفي أبي داود أنه - عليه السلام - علم الحسن بن علي في القنوت اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك ، وأنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت . ويروى أنه - عليه السلام - كان يقنت في الوتر اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك .

فوائد :

نخنع معناه : نتواضع ، ومنه قوله عليه السلام : إن أخنع الأسماء عند الله رجل يسمى بشاه . ونخلع معناه من ذنوبنا ، ونحفد معناه نعاضد على طاعتك ، ومنه حفدة الأمير أي : أعوانه وأبناء الأبناء يسمون حفدة لذلك ، وقوله قني شر ما قضيت ، مع أن القضاء لا يمكن أن يقع غيره ، معناه أن الله تعالى يقدر المكروه بشرط عدم دعاء العبد المستجاب فإذا استجاب دعاءه لم يقع المفضي لفوات شرطه وليس هو رد للقضاء المبرم . ومن هذا الباب [ ص: 233 ] صلة الرحم تزيد في العمر والرزق . وقوله أعوذ برضاك يتعين أن يكون المستعاذ به قديما ; لامتناع الاستجارة بالحوادث ، ورضى الله تعالى : إما إرادة الإحسان على ما تقدم في الرحمة على رأي الأشعري ، أو الإحسان نفسه على رأي القاضي ، والأول متعين لقدمه ، وكذلك قوله بمعافاتك من عقوبتك . وقوله أعوذ بك منك كيف تصح الاستعاذة من القديم مع أنه لا يصح إلا من حادث .

وجوابه : أن قوله منك على حذف مضاف تقديره من مكروهاتك ليعم ما ذكره أولا وما لم يعلمه . وقوله أنت كما أثنيت على نفسك مشكل من جهة العربية والمعنى من جهة تشبيه الذات بالثناء .

وجوابه : أن ثم مضافا محذوفا في الأول تقديره : ثناؤك اللائق ثناؤك على نفسك .

فرع :

قد ألحق في الكتاب الدعاء بالقنوت ، وكرهه في الركوع ، بخلاف السجود والقيام والجلوس بحوائج الدنيا والآخرة ، وأجاز الذكر في الركوع والسجود . قال صاحب الطراز : أجاز مالك و ش الدعاء بجميع الحوائج ، وقال ح : لا يدعي إلا بما في القرآن أو ما في معناه مما لا يسأل به الناس . فإن قال : أطعمني أو زوجني فسدت صلاته ; لأنه من جنس الكلام كرد السلام ، وتشميت العاطس والشعر المنظوم دعاء أو ثناء ، فإن ذلك كله يفسد الصلاة . لنا ما في [ ص: 234 ] الصحيحين أنه - عليه السلام - علمهم التشهد إلى قوله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، قال : ثم ليختر من المسائل ما شاء وهذا عام .

والجواب عما ذكروه : أن تلك الأمور يعد الإنسان بها في العرف غير مصل ; لمباينتها لنظام الصلاة بخلاف الدعاء ، ولأنه من فعل السلف قال عروة : إني لأدعو الله في حوائجي كلها حتى في الملح ، قال صاحب الطراز : قال مالك : إلا أنه يستحب التأدب ، فلا يقل : اللهم ارزقني وهو كثير الدراهم ، وليدع بدعاء الصالحين ، وبما في القرآن ، قيل له : فيدعو ، وقال صاحب الطراز : ولا يدعو في القيام قبل القراءة ، ولا في أثناء الفاتحة في المكتوبة بخلاف النافلة ; فإنها مشتملة على الدعاء فهي أولى ويدعو بعد فراغها إن أحب ، وقد دعا الصديق - رضي الله عنه - بعدها بقوله : ( ربنا لا تزغ قلوبنا ) الآية ويدعو بعد الرفع من الركوع بين السجدتين إن أحب ، وأوجب ابن حنبل الدعاء بين السجدتين بقوله رب اغفر لي ذنبي . ويدعو بعد التشهد ويكره قبله ، وأما غير الدعاء من الثناء والذكر الحسن فالقرآن أولى منه تلاوة وسماعا ، وقد كره مالك للمأموم سبحان الله بكرة وأصيلا ، فإن فعل فلا إعادة عليه ، وأجاز في الكتاب الدعاء على الظالم ، لما في مسلم أنه - عليه السلام - قال حين رفع من الركوع : غفار غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله ، وعصية عصت الله ورسوله ، اللهم العن بني لحيان ، والعن رعلا وذكوان ، ثم سجد . وفي النوادر إن قال : يا فلان اللهم افعل [ ص: 235 ] به كذا ، قال ابن شعبان : بطلت صلاته بل يقول افعل بفلان ، وقال ابن أبي زيد : وما علمت أحدا من أصحابنا قاله غيره . وقد بقي من المندوبات : آداب القلوب فمنها : الخشوع وهو اتصاف القلب بالذلة والاستكانة والرهب بين يدي الرب ، قال الله تعالى : ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) . والخشوع أفضل أوصاف الصلاة ، ولذلك أمرنا بالمشي إليها بالسكينة والوقار ، مع تفويت الاقتداء والمبادرة إلى الطاعة ، وحضور الأشغال المانعة منه ، وما تؤخر جملة الصلاة له إلا وهو من أفضل صفاتها ، ومنها الفكرة في معاني الأذكار والقراءة فإن كانت دالة على توكل توكل عليه ، أو على الحياء استحيا منه ، أو على التعظيم عظمه ، أو المحبة أحبه ، أو الإجابة أجابه أو زجر عزم على ترك المخالفة ولا يشتغل عن الفكرة في آية بالفكر في آية أخرى ، وإن كانت أفضل لما فيه من سوء أدب المناجاة ، والإعراض عن الرب بالقلب الذي هو أفضل أجزاء الإنسان ، ولذلك هو أقبح من الإعراض عنه بالجسد ، ولذلك قال معاذ بن جبل : إن الشيطان ليشغلني عن القراءة بذكر الجنة والنار . فجعله من الشيطان ، وإن كان قربة عظيمة فهذه هي الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر وتكون اللام فيها للكمال كما هي في صفات الله تعالى كما قال سيبويه ، وهي مناسبة لذلك ; فإن القلب إذا اتصف بهذه الصفات في الصلاة كان إذا تخلل منها قريب العهد بذكر الزواجر عن القبائح فلا يلابسها ، والمرغوبات في المدائح فلا يفارقها .

[ ص: 236 ] فرع :

قال صاحب الطراز : وقد ورد الترغيب في الذكر بعد السلام لقوله تعالى : ( فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ) . قيل انصب في الدعاء ، وارغب إليه في الحاجات ، وفي الصحيحين قال عليه السلام : من سبح في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، وحمد الله ثلاثا وثلاثين ، وكبر ثلاثا وثلاثين فذلك تسعة وتسعون ، وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، حطت خطاياه ، ولو كانت مثل زبد البحر .

التالي السابق


الخدمات العلمية