صفحة جزء
الفصل الثاني : في كيفية أدائها .

وفيه فروع عشرة :

الأول : الغسل وهو مندوب إليه ، وحكى اللخمي : الوجوب لما في الصحيحين ، قال - عليه السلام - : " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل ، وفي أبي داود : من توضأ فبها ونعمت ، ومن اغتسل فالغسل أفضل فائدة : الهاء في بها عائدة على فعلة الوضوء متعلقة بفعل محذوف تقديره فبها خذوا ، وفي الكتاب : لا ينتقض الغسل بناقض الوضوء ; لأنه مشروع للنظافة لا لرفع الحدث ، فناقضة الأوساخ دون الحدث ، كما قلنا في وضوء الجنب عند النوم ، لا ينقضه الحدث الأصغر ; لأنه لم يشرع له ، قال سند : والظاهر افتقاره إلى النية ; خلافا لأشهب محتجا بأنه مشروع للنظافة فلا تشترط النية : كإزالة النجاسة .

وجوابه : أن ذلك وإن كان مطلوبا إلا أن فيه شائبة التعبد ، بدليل توجهه على التنظيف ، قال أبو الطاهر : المشهور عدم إجزائه بماء المضاف كماء الرياحين ، وقيل : يجزي ، وفي الكتاب : يكون متصلا بالرواح ، وقال ابن وهب [ ص: 349 ] في العتبية ، و ( ح ) و ( ش ) : إن اغتسل بعد الفجر أجزأه . لنا الحديث السابق ، والشرط لا يتأخر عن المشروط ، وقد جعل الرواح فيه شرطا ، ولأن المقصود أن يصلي على أكمل هيئات النظافة ، قال سند : إن تراخى يسيرا فلا شيء عليه ، وإن دام متعمدا استأنفه عند ابن القاسم ، وإن غلبه النوم فإن نسي الغسل وذكره في المسجد ، والوقت يتسع رجع فاغتسل ، وإلا فلا .

الثاني : القراءة فيها جهرا بخلاف صلاة النهار ; لأن المقصود إظهار الشعائر ، ولذلك شرع فيها الخطبة والجمع في المكان الواحد والزينة ، وفي الجواهر : يقرأ فيها : بالجمعة في الأولى ، وبالمنافقين أو بسبح أو ( هل أتاك حديث الغاشية ) في الثانية ، وقاله ( ش ) ، خلافا ( ح ) ; لما في الموطأ : أنه - عليه السلام - كان يقرأ على إثر سورة الجمعة : ( هل أتاك حديث الغاشية ) .

الثالث : قال سند : قال ابن حبيب : يؤمر لها بالطيب والزينة ، وقص الشارب ، والظفر ، ونتف الإبط ، والاستحداد ، والسواك ; لما في الصحيحين قال - عليه السلام - : الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن ، وأن يمس من الطيب ما قدر عليه ، ولو من طيب المرأة ، ومعنى الوجوب في هذا الحديث : تأكد السنة ، وقيل : يستعمل في معناه اللغوي وهو السقوط ، ومنه قوله تعالى : ( فإذا وجبت جنوبها ) أي : سقطت . ويدل على ذلك عطف ما ليس بواجب عليه من الطيب والزينة .

[ ص: 350 ] الرابع في الجلاب : التهجير أفضل من التبكير خلافا لابن حبيب و ( ش ) ، واختلف الشافعية : هل أوله الفجر أو الشمس ؟ محتجين بقوله - عليه السلام - في الموطأ : " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ، ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ; فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ، فحملوا الساعات على العادية ، وقسم مالك الساعة السادسة خمسة أقسام ، فحمل الحديث على هذه الأقسام ; حجته : أن الرواح لا يكون لغة إلا بعد الزوال ، ومنه قوله تعالى : ( غدوها شهر ورواحها شهر ) فالمجاز لازم على المذهبين ، ومذهبنا أقربهما للحقيقة فيكون أولى ، ولأنه عقب الخامسة بخروج الإمام وهو لا يخرج بعد الخامسة من ساعات النهار ، وإلا لوقعت الصلاة قبل الزوال ، وإذا بطل أحد المذهبين تعين الآخر ; إذ لا قائل بالفرق ، وبتقسيم السادسة قال صاحب المنتقى وصاحب الاستذكار ، والعيسي في شرح الرسالة ، وصاحب الطراز ، وقال اللخمي ، وابن بشير ، وصاحب المعلم ، وابن يونس ، وجماعة التقسيم : في السابعة ، والموجود لمالك إنما هو قوله : أرى هذه الساعات في ساعة واحدة ولم يعين فاختلف أصحابه في تفسير قوله على هذين القولين ، والأول هو الصحيح ; لأن حديث مسلم كان ينصرف من صلاة الجمعة والجدران ليس لها فيء ، وإذا كان - عليه السلام - يخرج في أول السابعة وقد قال في الحديث : " فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ; فإذا كان الإمام [ ص: 351 ] يخرج في أول السابعة بطل الحديث بالكلية ، ولا يمكن أن يقال إن تلك الأزمان أزمنة في غاية الصغر ، فإن الحديث يأباه والقواعد ; لأن البدنة والبيضة لا بد أن يكون بينهما من التعجيل والتأخير وتحمل المكلف من المشقة ما يقتضي هذا التفصيل ، وإلا فلا معنى للحديث ، ولا هذا الترغيب في المبادرة إلى طاعة الله تعالى .

الخامس في الجلاب : الأذان الثاني آكد من الأول ، وهو الذي يحرم عنده البيع ، ويروى أن مؤذني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا ثلاثة يؤذنون على المنابر ، واحدا بعد واحد فإذا فرغ الثالث قام - عليه السلام - فخطب إلى زمن عثمان كثر الناس ، أمر بأذان بالزوراء - وهي موضع السوق ليرتفع الناس منه عند الزوال ، فإذا جلس أذن على العادة إلى زمن هشام بن عبد الملك ، نقل أذان الزوراء إلى المسجد وجعله مؤذنا واحدا ; فإذا جلس أذن الجميع قدامه ، قال ابن حبيب : والسنة أولى بالاتباع ، وفي الكتاب يكره البيع عند الأذان والجلوس على المنبر ، فإن فعل فسخ ، ويكره ممن لا تجب عليهم الجمعة من المسلمين ، ولا يفسخ إلا أن يبايعهم من تجب عليه ، قال سند : إنما الخلاف إذا أذن ، ولم يقعد فظاهر الكتاب الجواز ، وروى ابن القاسم المنع ، والمذهب وجوب الرواح للخطبة لظاهر القرآن ، وقيل : للصلاة ، فعلى الأول : يجب السعي بمقدار ما يدرك من الخطبة ، قال ابن حبيب : ويؤمر بإقامة الناس من الأسواق ، والمعتبر من الأذان أوله ، ووافق ابن حنبل في فسخ البيع ممن تجب عليهم الجمعة ، وروي [ ص: 352 ] عن مالك إمضاؤه ، وقاله ( ح ) و ( ش ) . لنا أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ، وجه الثاني : أن البيع سالم في نفسه من المفاسد ، وإنما منع صونا للصلاة عن الفوات ، فعلى القول الأول بالفسخ ففات ، مضى بالقيمة عند ابن القاسم وأشهب ، وبالثمن عند سحنون والمغيرة ; نظرا للنهي أو لسلامة العقد في نفسه ، والقيمة حين القبض عند ابن القاسم ، وبعد الجمعة عند أشهب مراعاة لوقت جواز البيع ، وإذا حصل ربح ، لم يحرم عند مالك ; لملك المبيع بالقيمة ، ويتصدق به عند ابن القاسم ، قال : ولا خلاف في منع كل ما يشغل عن السعي ، واختلف في فسخ النكاح على القول بفسخ البيع : فأجازه ابن القاسم ، وفسخه أصبغ ، واختلف في إلحاق الإجارة ، والفرق بين البيع وبينهما كثرته بخلافهما ; فتكون مفسدته أعظم ، والشركة والإقامة والتولية والأخذ بالشفعة ألحقها ابن عبد الحكم بالبيع ، قال : والحق أنها أخف ، وألحق عبد الوهاب الهبات والصدقات بالبيع ، قال : وعندي أنها تبرعات عبادات يتقرب بها وعادة الناس التصدق يوم الجمعة .

فرع :

فإن اضطر لشراء الماء للطهارة ، قال ابن أبي زيد : يشتريه ; لأنه إعانة على الجمعة لا صارف عنها ، قال : أما إن كان البائع من أهل الجمعة ففيه نظر لاشتغاله عنها .

السادس : قال ابن القاسم في الكتاب : من وجبت عليه الجمعة فصلى ظهرا في بيته لا يجزيه ، قال سند : قال ابن نافع : يجزيه ; لأنه لو أعاد لأعاد أربعا [ ص: 353 ] مثل الأولى ، ومنشأ الخلاف : هل فرض الوقت : الجمعة لا يجب إسقاطها فلا يجزئ ، أو الظهر ويجب إسقاطه بالجمعة ، وقد فات ما يجب به الإسقاط فيجزئ ؟

السابع في الكتاب : يتنفل الإمام بعد الجمعة في بيته دون المسجد ; لما في الصحيحين : كان - عليه السلام - لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته ، ولعموم قوله تعالى : ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) ، قال : وكذلك من خلفه ، فإن ركعوا فواسع .

الثامن : في الكتاب : يصلي الظهر من لا تجب عليه الجمعة بإمام ; بخلاف من تجب عليه ، ووافق ( ش ) في الأولين ، وخالف ( ح ) بالكراهة ; لأن زمانه - عليه السلام - لا يخلو عن المعذورين ، ولم يأمرهم بذلك - عليه السلام - . لنا أدلة فضل الجماعة ، قال سند : وفي الواضحة : يستحب تأخيرهم حتى تفوت الجمعة ، وقاله ( ش ) ، وظاهر الكتاب خلافه ، ويستحب لهم إخفاء صلاتهم لئلا يتهموا ، ولا يؤذنون ; لأن الأذان يومئذ من سنة الجامع ، قال المازري : قال ابن القاسم : لا يجمع الخائف ولا المتخلف لعذر المطر الذي هو غير عام ; لإمكان الأمن في الأول ، وتحمل المشقة في الثاني وإن كان لا يجب ، أما إذا كان عاما ، قال اللخمي : الأحسن جمع أرباب الأعذار كلهم ، أما من تجب عليهم الجمعة ، فروى [ ص: 354 ] أشهب يجمعون ، واستحبه ( ش ) ، وجه المذهب ، سد ذريعة البدع . وإذا قلنا : لا يجمعون فجمعوا ; أجزأهم .

التاسع في الكتاب : يتخطى إلى الفرج برفق قبل جلوس الإمام ، فإذا جلس فلا ; لما في أبي داود أن رجلا تخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي - عليه السلام - يخطب ، فقال له النبي : اجلس فقد آذيت الناس ، ولأنه يمنع الإنصات ، وكرهه ( ش ) مطلقا لعموم الأداء ، ومرعاة الفرج أولى ممن تخلف عن سدها ، ومن قام لحاجة على وجه العود ، فهو أحق بموضعه .

العاشر ، قال سند : لا يقام عند مالك و ( ش ) في جامعين ، وقال ابن عبد الحكم : إذا كبر المصر واحتاجوا إلى ذلك يجوز ، وقال ابن القصار : إن كانت المصر ذات جانبين جاز ، وجوزه محمد بن الحسن مطلقا في مسجدين ، وداود في سائر المساجد . لنا أن وجوب السعي يأبى الإقامة مطلقا إلا ما خصه الدليل ، ولأنه - عليه السلام - فعله والخلفاء بعده ، فلو جاز ذلك لم تعطل المساجد في زمانهم ، فهو إجماع ; فلو صليت في مسجدين ، فقال مالك : الجمعة لأهل المسجد العتيق ، وقال بعض الشافعية للسابقين ، وهل بالإحرام أو بالسلام قولان ؟ لنا أن الثاني لم يتفق عليه جامعا ، فلا تصح الجمعة فيه لفقدان شرطه ، ولأنه لو جاز ذلك لأمكن كل جماعة إفساد جمعة المصر ، فلو أنشئت قرية يصلى فيها جمعتان ; فإن كانت إحداهما بتولية السلطان فالجمعة له ، وإلا فمن سبق بالإحرام ; لوجوب متابعته حينئذ : وإن جهل السبق فسدتا ، وقال المزني : تصحان ; لأن البناء على الصحة فلا يبطل بالشك . لنا أن الذمة مشغولة [ ص: 355 ] وشككنا في السبق المبرئ فتبقى مشغولة ، وإذا حكمنا بالفساد ، وسبقت إحداهما أو جهل سبقهما ، أعادوا جميعا أربعا ; لقطعنا بتأدي الجمعة ، فلا يجزئ أحدا بعد ذلك جمعة - إن علمت المقارنة ، وإن جهل الحال ، فالأحوط يصلون جمعة ويعيدون ظهرا أفذاذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية