صفحة جزء
[ ص: 402 ] الباب الخامس عشر في صلاة النافلة .

وفيه فروع ثمانية :

الأول في الكتاب : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ، وجوزها ( ح ) إلى الثمان بتسليمة بالليل ، والأول عنده أحسن ، وإلى الأربع بالنهار على وجه الاستحباب ، ولو صلى ما شاء جاز ، وجوز ( ش ) أن يصلي بغير عدد ، والأفضل السلام من ركعتين محتجا بما في مسلم : " كان - عليه السلام - يصلي تسع ركعات لا يجلس فيهن إلا في الثامنة ; فيذكر الله ويحمده ويدعوه ، ثم ينهض لا يسلم ، ثم يقوم فيصلي التاسعة " . لنا ما في الصحاح ، قال - عليه السلام - : " صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليصل ركعة توتر له ما قد صلى " ، وخصص الليل لكون غالب التنفل فيه ; فلا مفهوم له لخروجه مخرج الغالب فيعم الليل والنهار .

[ ص: 403 ] الثاني في الكتاب : يصلي النافلة جماعة ليلا أو نهارا ; لأن الناس قاموا معه - عليه السلام - في قيام رمضان ليلتين أو ثلاثا ، وأجمع عليه في قيام رمضان والعيدين ، والاستسقاء ، والخوف ، وقال ابن أبي زمنين : مراده الجمع القليل خفية كالثلاثة ; لئلا تظنه العامة من جملة الفرائض ، وكذلك أشار أبو الطاهر وقال : ولا يختلف المذهب في كراهة الجمع ليلة نصف شعبان ، وليلة عاشوراء ، وينبغي للأئمة المنع منه ، قال سند : ويجوز الجهر فيها ، والإسرار في الليل والنهار ، قال ابن حبيب : والجهر بالليل أفضل ، وقال ابن أبي زيد : الإسرار بالنهار أفضل ; لقوله - عليه السلام - : " صلاة النهار عجماء " . وكره مالك طول السجود في النافلة في المسجد ، وقال : أكره الشهرة .

الثالث في الكتاب : إذا قطع النافلة عمدا قضاها ، وقاله ( ح ) خلافا ( ش ) ، ووافق في الحج والعمرة . لنا القياس عليهما ، وقوله تعالى : ( ولا تبطلوا أعمالكم ) . وإذا حرم الإبطال ووجب الإتمام ، فيجب القضاء قياسا على الواجبات ; ولقوله - عليه السلام - للسائل : " إلا أن تطوع " ، مفهومه أن التطوع يقتضي الوجوب .

( قاعدة ) :

الأحكام على قسمين : منها ما أوجبه الله تعالى في أصل شرعه كالصلاة [ ص: 404 ] والصوم ، ومنها ما وكله إلى إرادة خلقه كالمنذورات فلا يجب إلا بالنذر ، وخصصه بنقل المندوبات إلى الواجبات ، وأسباب الأحكام على قسمين : منها ما قرره في أصل شرعه كالزوال ورؤية الهلال ، ومنها ما وكله إلى إرادة خلقه كالتعليقات في المنذورات والطلاق وغيره ; فدخول الدار ليس سببا لطلاق امرأة أحد ، ولا عتق عبده ، إلا أن يجعله المكلف سببا لذلك بالتعليق ، وعمم الشرع ذلك في المندوبات وغيرها من الأحكام ، فلا غرو حينئذ أن ينصب الله تعالى الشروع سببا للوجوب ، وتشهد له هذه القاعدة بالاعتبار ، وقد فعل ذلك بالنسكين إجماعا .

تنبيه

لا يوجد ذلك عندنا إلا في سبع مسائل : النسكين ، والصلاة ، والصوم ، والاعتكاف ، والائتمام ، والطواف ، أما الشروع في تجديد الوضوء فنص أصحابنا على أن قطعه لا يوجب قضاء ، وكذلك الشروع في الصدقة والقراءة والأذكار ، وغير ذلك من القربات ، وللخصم القياس على جميع ذلك ، ولنا الفرق إن أمكن .

الرابع في الكتاب : لم يؤقت قبل المكتوبة ، ولا بعدها ركوعا لعمل المدينة . قال سند : وقول ابن الجلاب : ركعتان بعد المغرب من آكد المسنونات غير معروف في المذهب وليس بعد المغرب سنة ، وقال ( ش ) : ركعتان قبل الصبح ، وركعتان قبل الظهر ، وركعتان بعده ، وركعتان بعد المغرب ، وقال أهل العراق : قبل الظهر أربع ، وقال ابن حنبل : ركعتان قبل المغرب وركعتان بعد المغرب .

[ ص: 405 ] وفي الجواهر عد القاضي أبو محمد من الرواتب الركوع قبل العصر وبعد المغرب .

الخامس في الكتاب : إذا أقيمت الصلاة قبل الركوع في النافلة إن أمكنه إدراك ركوع الركعة الأولى بالاقتصار على الحمد فعل ، وإلا قطع بسلام ، ولا يقضي النافلة ، فإن قطع بغير سلام أعاد المكتوبة ; لأن قوله - عليه السلام - : " لا صلاتان معا " يعارضه : ( ولا تبطلوا أعمالكم ) . فمهما أمكن الجمع فعل ، قال سند : وإذا بطلت الفريضة بسبب الدخول بغير سلام ، فهو باق على حكم النافلة ; لأنه يكفي فيها مطلق الصلاة .

السادس في الكتاب : يكره التنفل عند الشروع في الإقامة والإمام في موضعه ، وبعد الجمعة ، وفي أبي داود قال - عليه السلام - : " لا يصلي الإمام في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحول " .

السابع في الجلاب : يستحب لمن أراد الجلوس في المسجد ، أو جلس ولم يصل أن يصلي ركعتين إلا أن يكون مجتازا أو محدثا أو في وقت نهي ، أو تكرر بالدخول منه بعد أن يحيي وهي تسمى تحية ، مأخوذة من التحية الذي هو السلام ، ويسمى السلام تحية من الحياة ; لأن السلامة بسببها غالبا ، والسلام دعاء بالسلامة ، وأصلها : ما في الصحاح قال - عليه السلام - : " إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس " ، ومفهومه أن المجتاز لا يؤمر بذلك ، قال سند : إن صلى فرضا أداء وقضاء ، دخل فيه التحية كالاعتكاف في رمضان ; [ ص: 406 ] قال مالك : يبدأ في المسجد الحرام بالطواف قبل الركوع ; لأنه الصلاة المختصة به ، وفي مسجد المدينة بالركوع قبل السلام على النبي - عليه السلام - ; لأنه حق لله ، وهو مقدم على حق الرسل - عليهم السلام - .

( قاعدة ) :

الله سبحانه وتعالى غني عن الخلق ، لا تزيده طاعتهم ولا تنقصه معصيتهم ، والأدب معه سبحانه وتعالى اللائق لجلاله متعذر منا ، فأمرنا سبحانه أن نتأدب معه كما نتأدب مع أكابرنا ; لأنه وسعنا ، ولذلك أمرنا بالركوع والسجود والمدح له وإكرام خاصته وعبيده ، ولما كان الداخل على بيوت الأكابر يسلم عليهم ، والسلام في حقه تعالى متعذر لكونه سالما لذاته من سائر النقائص ، بل ورد بأن يقال : أنت السلام ، ومنك السلام ، وإليك يعود السلام ، حينا ربنا بالسلام ، أي : أنت السالم لذاتك ، ومنك تصدر السلامة لعبادك ، وإليك يرجع طلبها ، فأعطنا إياها ، ولما استحال السلام أقيمت الصلاة مقامه ; ليتميز بيت الرب عن غيره ، ولذلك نابت الفريضة عن النافلة لحصول التمييز .

الثامن : في الكتاب : يؤمر الصبيان بالصلاة إذا أثغروا لما في أبي داود ، قال - عليه السلام - : " مروا الصبيان بالصلاة لسبع سنين ، واضربوهم عليها لعشر ، [ ص: 407 ] وفرقوا بينهم في المضاجع " . وحكمة ذلك التدريب عليها حتى يأتي وقت التكليف فلا تشق عليهم ، قال مالك في العتبية : يؤدبون عند الإثغار ، قال ابن القاسم : ويفرق بينهم حينئذ ، قال سند : معنى التأديب عنده في السبع بغير ضرب ، ويضربون عليها عند العشر ، ويكون قوله : " ويفرق بينهم في المضاجع " عطفا على مروهم وهو أحوط ; لا سيما الذكور مع الإناث ، وأما الصوم ، فقال مالك : يؤمرون به عند البلوغ ; لأنه ليس مما يتكرر بخلاف الصلاة ، وقال ابن الماجشون : عند إطاقتهم لذلك ، وإن لم يبلغوا .

فائدة : يقال : ثغر : إذا سقطت رابعته ، وأثغر : إذا ثبتت .

فصل في الجواهر : الذي استمر العمل عليه من العدد في قيام رمضان ست وثلاثون ركعة ثلاث وتر ، وتستحب الجماعة فيه تأسيا بعمر - رضي الله عنه - واستمرار العمل ، قال سند : واختار مالك في مختصر ما ليس في المختصر إحدى عشرة ركعة ، وهي صلاته - عليه السلام - والذي جمع عليها الناس عمر - رضي الله عنه - ، وروي : أن الناس كانوا يقومون في زمن عمر ثلاثا وعشرين ركعة ، واختاره ( ح ) ، وابن حنبل ، وكانوا يصلون إلى قريب الفجر ، وكره مالك إحياء الليل كله اتباعا للسنة ، وهو محمول على من يواظبه ، قال ابن رشد : لا اختلاف في أن الكثير من الصلاة أفضل من القليل ، مع الابتداء في الطول ، واختلف العلماء : هل الأفضل طول القيام أو كثرة الركوع والسجود مع استواء الزمان ; لقوله - عليه [ ص: 408 ] السلام - : " من ركع ركعة ، وسجد سجدة رفعه الله بها درجة ، وحطت عنه بها خطيئة " ، وجاء : " أن الذنوب تتساقط كلما ركع وسجد " ، وهما يدلان على الفضل لا على الأفضلية ، وروي عنه - عليه السلام - لما سئل : أي الصلاة أفضل ؟ قال : " طول القنوت " ، وروي : " طول القيام " وهو الأظهر ، وكره الدعاء والخطب والقصص ليلة الختم ; لترك السلف إياه ، والصلاة في رمضان أفضل من مذاكرة العلم ; لأنه عمل السلف ، وروي عن مالك العلم أفضل ; لأنه فرض على الكفاية ، وفي الكتاب : يكره إذا دخل إمام آخر أن يقرأ إلا من حيث وقف الأول ; ليتسنى نظم المصحف ، قال : وليس ختم القرآن من سنة القيام ، قال سند : فلو أتم الختمة في ركعة وأراد ابتداءها في تلك الركعة ، قال ابن القاسم : لا يقرأ الفاتحة ، ويبتدئ بالبقرة ; لأن الركن لا يكرر ، والترتيل أفضل من الإسراع . وفي الكتاب : إذا شك في حرف فلا ينظره في مصحف بين يديه حتى يسلم ، ويجوز أن يؤم من المصحف في النافلة ، ويكره في الفريضة ، وقاله ( ش ) ، وأبطل ( ح ) الصلاة بالنظر في المصحف ، وفي البخاري : كان خيارنا يقرأ في المصحف في رمضان ، وانفراد الواحد لطلب السلامة من الرياء أفضل على المشهور ما لم يؤد إلى تعطيل المساجد ; لقوله - عليه السلام - في الصحيح : " خير صلاة أحدكم في بيته إلا المكتوبة " ، وفي الجلاب : يقرأ في كل ركعة بالحمد وعشر من الآيات الطوال ويزيد في القصار ، ويقرأ القرآن على نظمه في المصحف ، ولا يقرأ أحزابا ، ولا بأس [ ص: 409 ] بالصلاة بين الأشفاع في رمضان إذا كان الإمام يجلس بينها ، وإلا فلا ، ومن فاته العشاء مع الإمام فليبدأ بها وحده ، وإن فاتته ركعة من الإشفاع قضاها مع الإمام في الشفع الثاني ، يركع بركوعه ويسجد بسجوده يفعل ذلك إلى آخر صلاته - مؤتما به فيها ، رواه ابن حبيب عن ابن القاسم - وهو بعيد - لإحرامه قبله ، وسلامه أيضا قبله ، أو يتواطأ فعله من غير ائتمام فيها رواه أشهب ، وهو أصح ; فإذا فرغ الإمام قضى المأموم ما بقي عليه من ذلك ، وكذلك إن فاتته ركعة من ركعات الوتر معه خشية المخالفة ، وحكى صاحب الوجيز من أصحابنا أنه يقضي وحده تلك الركعة الأولى ; لئلا يخالفه في جملة الصلاة في الأداء والقضاء - قاله سحنون وابن عبد الحكم - وهو أولى الأقوال .

التالي السابق


الخدمات العلمية