صفحة جزء
[ ص: 517 ] الباب السادس

في سبب الكفارة

وفي التلقين : الكفارة كفارتان ، صغرى لتأخير القضاء عن زمنه ، وكبرى وهي لا تجب إلا لرمضان بتعمد إفطاره على وجه الهتك من غير عذر من جماع أو أكل أو غيرهما ، أو رفض أو إمساك بعد الشروع أو عزم على تركه فلم يشرع فيه ، وعلى كل معتقد لوجوبه من رجل أو امرأة لكل يوم كفارة ، ولا يسقطها طرو العذر بعد ذلك ، ولا يقدم التكفير في يوم عن يوم .

والأصل في ذلك ما في مسلم : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : هلكت يا رسول الله ، قال : وما أهلكك ؟ قال : وقعت على أهلي في رمضان ، قال : هل تجد ما تعتق به رقبة ؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا ، قال : فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا ؟ قال : لا ، ثم جلس فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر ، قال : تصدق بهذا ، فقال : أفقر منا ، فما ( بين لابتيها أحوج إليه منا ) ! فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه ، ثم قال : اذهب وأطعمه أهلك " . زاد أبو داود بعرق فيه ( تمر قدره ) خمسة عشر صاعا ، وقال : صم واستغفر الله . والعرق - بفتح الراء - الزنبيل ويروى بسكونها ، وخالف الأصمعي فقال : بل ذلك العظم عليه لحم . واللابة الحجارة [ ص: 518 ] السود ، فهو يشير إلى الجبال المحدقة بالمدينة . وليس في قوله - صلى الله عليه وسلم - : أطعمه أهلك : ما يوجب عدم وجوب الكفارة ; خلافا للشافعي والنخعي ; لأن الوجوب مستفاد من قوله - صلى الله عليه وسلم - : تصدق بهذا . ولما كان سد خلة الجوع مقدما على الكفارات أذن له في أكله ، وتبقى الكفارة في ذمته ، وليس في الحديث ما يبرئه ألبتة .

قاعدة

إذا رتب الحكم عقب أوصاف مناسبة جعل مجموعها علة له ، وإن كان بعضها ليس بمناسب اعتبر المناسب ، وقد رتبت الكفارة عقب أوصاف غير مناسبة نحو كونه أعرابيا ، ومناسبة وهو إفساد الصوم بالجماع ، واعتبره الشافعي على القاعدة ولم يوجب الكفارة بالأكل ونحوه لقصوره على الجماع ; لكونه لزم إفساد صومين في الواطئ ، وفي الموطوءة بخلاف الآكل ، واعتبرنا نحن وصف الإفساد الذي هو في الجماع وغيره ; لأن التعليل بالعلة العامة أولى من الخاصة لكثرة فروعها ، وبقي وصف مناسب لم يعتبره أحد فيما علمت هو كونه جماعا في الزوجة ، وهو مناسب من جهة أنه الأكثر في الوجود فيكون العقاب الزجري عنه أولى .

فروع ثمانية :

الأول : في الكتاب : تجب الكفارة ، والقضاء بمغيب الحشفة خلافا ل ( ش ) في القضاء - محتجا بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بالقضاء . في رواية مسلم .

وجوابه : أنه أمره في رواية الموطأ بالقضاء ، قال سند : وكذلك لو وطئ امرأته في دبرها أو فرج ميتة أو بهيمة ، وقاله ( ش ) خلافا ل ( ح ) ; لأنه يوجب الغسل فيوجب الكفارة .

تنبيه

قد تقدم في الطهارة إيجاب التقاء الختانين . . . حكما .

[ ص: 519 ] الثاني : في الكتاب : إذا وطئها في يوم مرتين فكفارة واحدة ، وقاله ( ح ) و ( ش ) ; لأن الوطء الثاني لم يصادف صوما صحيحا فلا يوجب كفارة ; لقصوره عن مورد الإجماع ، قال ابن حنبل وبعض القرويين : إن كفر عن الوطء الأول ثم وطئ ، فكفارة أخرى قياسا على كفارة الفدية في الحج ; فإنه إذا تطيب بعد أن تطيب وكان كفر عن الأول جدد الكفارة ، وإلا فكفارة واحدة ، وقياسه على الوطء الأول بجامع التحريم .

الثالث : في الكتاب : إن أكره امرأته على الوطء في رمضان عليه كفارتان عنه وعنها ، وكذلك يهدي عنها في الحج ; لأنه أفسد صومين وحجين ، وعلى كل واحد منهما القضاء عن نفسه ، قال سند : وروي عن مالك عليه كفارة واحدة عنه - وقاله الأئمة ; لأن الوجوب عليه فرع الوجوب عليها ، ولا يجب عليها فلا يجب عليه .

وجوابه : أنه لم يكفر بطريق النيابة بل بفعله سبب الكفارتين ، وهذا مختلف فيه عندنا ، وإذا قلنا بطريق النيابة فكل ما لا يصح كفارة عنها لا يكفر عنها ، نحو الأمة لا يكفر عنها بالعتق ، قال صاحب النكت : بل بالإطعام ; لأن الولاء لا يثبت والصوم لا يدخله النيابة ، ولو أطاعت الأمة السيد كفر عنها ; لأن السيادة كالإكراه ، وكذلك . . . وطء السيد وإن أطاعته ، قال بعض القرويين : وإذا أكره زوجته وعجز عن التكفير فكفرت من مالها بالإطعام ، رجعت عليه بالأقل من مكيله أو الثمن الذي اشتري به الطعام أو قيمة العتق ; لأن الواجب عليه أحدها ، بخلاف الحميل بالطعام . . . فيما تحمل به ، يرجع بالثمن فقط لأنهما دخلا على ذلك ، ولو كان مكان الحميل أجنبي رجع بالأقل من الثمن أو القيمة أو المثل إن كان طعاما كالزوجة .

الرابع : قال سند : لو طلع الفجر عليه مولجا فنزع ، قال ابن القاسم و ( ح ) و ( ش ) : لا شيء عليه ; لأن النزع ترك للجماع وليس بجماع ، كما لو حلف ألا يدخل الدار ، وهو فيها فخرج ، أو لا يركب الدابة فنزل ، فلا حنث عليه . وقال [ ص: 520 ] ابن الماجشون وابن حنبل : يقضي ; لما فيه من اللذة ، فلو تمادى ، قال عبد الوهاب و ( ح ) : بالقضاء فقط ، وقال ابن القصار و ( ش ) : بالقضاء والكفارة . وكذلك لو ابتدأ الإيلاج حال طلوع الفجر فلا تجب الكفارة ; لأنه لم يدخل في الصوم فلم يطرأ الجماع على صوم وإنما منع انعقاده ، وقيل : يجب ; لأن حديث الأعرابي لا تفصيل فيه ; فلو لم يعلم بالفجر حين طلوعه وهو يولج ، ثم تبين له فلم ينزع ، فإن قلنا : لا كفارة على الناسي ، لا كفارة هاهنا إلا أن يفعله منتهكا .

الخامس : في الكتاب : إذا نوى الفطر نهار رمضان عليه القضاء والكفارة - ولو نوى قبل الشمس ، قال سند : قال ابن الماجشون : إن سها عن الصوم وسط الشهر لا شيء عليه بخلاف أوله ; لاستصحاب النية بخلاف العمد ، والمذهب التسوية ; لاندفاع النية الحكمية بضدها ، وخالف أشهب و ( ح ) و ( ش ) في الكفارة ; لأنه لم يعقد صوما فيفسد كمن لم يحرم بالحج أو الصلاة وجامع ، والفرق تعيين الزمان له بخلافها ، فإن نوى الفطر في أثناء النهار فمذهب الكتاب عليه القضاء ، وأسقطه ابن حبيب ، واستحبه سحنون ، بخلاف من بيت الفطر ; لأن النية لغير فعل ملغاة كالحج والعمرة ، قال صاحب النكت : من رفض صيامه أو صلاته بطلت ، بخلاف من رفض وضوءه أو حجه بعد كمالهما أو في خلالهما ، والفرق أن النية مرادة للتمييز ، والحج والوضوء متميزان بمكانيهما المعينين لهما ، والصلاة والصوم لم يعين لهما مكان ، فكان احتياجهما للنية أقوى فأثر الرفض .

السادس : في الكتاب : من توقع في نهاره السفر أو المرض أو الجنون فأفطر ، فعليه القضاء والكفارة - وإن طرأت المبيحات في ذلك النهار ، وقاله ابن حنبل خلافا ل ( ش ) ; لأنه انتهك حرمة الصوم قبل المبيح ، وقيل : تنتقض الكفارة عند طرو [ المبيحات ] .

السابع : في الكتاب : إذا أكل ناسيا في رمضان أو غير عالم بالفجر فعليه القضاء ، خلافا ل ( ح ) و ( ش ) في الأول ، وسلم ( ش ) في الثاني ، و ( ح ) في سبق الاستنشاق بالماء . لنا القياس على هذين الفرعين ، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في [ ص: 521 ] مسلم : " من نسي وهو صائم فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " . فظاهر تخصيص ذلك بالله تعالى يقتضي أن العمد لا مدخل لله فيه ، وهذا يقتضي نفي الإثم لا نفي القضاء ، فإن أفطر بعد ذلك متأولا ، قال عبد الوهاب : ( لا كفارة عليه ) - ; قال سند : قال ابن حبيب : عليه الكفارة ; لأن الجهل ليس بنافع ; فلو أكل بعد ذلك أو جامع كفر عندنا ، وقيل : لا يكفر ; لأنه لم يفسد معصوما ، فلو طهرت قبل الفجر ، ولم تغتسل حتى طلع الفجر فأكلت لاعتقاد الجواز لم تكفر ; لأنه شبه إباحة ، وكذلك من أصبح جنبا فظن بطلان صومه ، وكذلك الذي يقدم من السفر ليلا فيظن أن صومه لا يجزيه ، وكذلك من سافر ميلين فظن أن سفره يبيح الفطر ، ومن رأى هلال شوال نصف النهار فظن أنه يبيح الفطر .

الثامن : في الجلاب : تتعدد الكفارة بتعدد فساد الأيام عند مالك و ( ش ) ، وقال ( ح ) : إذا لم يكفر عن اليوم الأول فكفارة للجميع ، واختلف قوله في التداخل إذا كفر عن الأول ، وفي تداخل الرمضانين إذا لم يكفر عن الأول ; لنا القياس على سائر الكفارات ، وهو أولى من قياسه على الحدود .

تمهيد : التداخل في الشرع يقع في الطهارة مع الغسل ، وفي العبادات كتحية المسجد . . . مع الفرض ، وصوم الاعتكاف مع رمضان ، والعمرة مع الحج ، وفي الحدود المماثلة في العدد على تفصيل يأتي ، وفي الأموال كدخول دية الأطراف في دية النفس ، والأخير في الأول كالفدية في الحج إذا اتحد السبب ، والعارفان في الوسط كالوطء بالشبهة إذا استمر واتحدت الشبهة وكان حال المرأة في الوسط أفضل من المبدأ والمنتهى ، فيجب لها صداق المثل باعتبار الوسط ، ولكن ظاهر المذهب يقتضي اعتبار الحالة الأولى مطلقا وصرح الشافعية بتنقل الصداق بتنقل الحالات ، والقليل في الكثير مثل الطرف مع النفس ، والكثير في القليل كالأطراف إذا اجتمعت مع السراية إلى النفس ، واختلف في تداخل الكفارات كما تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية