صفحة جزء
( الفصل الثاني في آدابه ) :

اعلم أن أعظمها : الإخلاص لله سبحانه وتعالى ، فإنه إذا فقد انتقل العلم من أفضل الطاعات إلى أقبح المخالفات قال الله تعالى : ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون ) .

وروى ابن زيد في جامع المختصر أنه عليه السلام قال : ويل لمن علم ولم ينفعه علمه سبع مرات . ثم قال : ويل لمن لم يعلم ولو شاء الله لعلمه ثلاث مرات .

ويروى عنه عليه السلام : يأمر الله تعالى بطائفة من العلماء والقراء والمجاهدين إلى النار ، ويقول لكل طائفة منهم إنما عملت ليقال ، وقد قيل . الحديث بطوله .

[ ص: 48 ] وروى ابن أبي زيد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : من تعلم العلم ليماري به ، أو ليباهي به ، أو ليرائي به أوقفه الله موقف الذل والصغار ، وجعله عليه حجة يوم القيامة يوم يكون العلم زينا لأهله .

وروي أيضا عنه عليه السلام : من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة .

وحقيقة الرياء أن يعمل الطاعة لله وللناس ، ويسمى رياء الشرك ، أو للناس خاصة ، ويسمى رياء الإخلاص ، وكلاهما يصير الطاعة معصية .

وأغراض الرياء الباعثة عليه منحصرة في ثلاثة : جلب الخيور ، ودفع الشرور ، والتعظيم .

ويلحق بالرياء التسميع ، وهو أن يقول علمت كذا ، أو حفظت كذا ، أو غير ذلك من أعمال البر ، والتسميع يكون بعد انعقاد العبادة معصية على الرياء ، وبعد انعقادها طاعة مع الإخلاص لكن في الأول يكون جامعا بين معصيتي الرياء والتسميع ، وفي الثاني هو عاص بالتسميع فقط ، فتقابل سيئة التسميع حسنة الطاعة المسمع بها في الموازنة ، فربما استويا ، وربما رجحت إحداهما على حسب مقادير الطاعات والتسميع .

والأصل في التسميع قوله عليه السلام : من سمع سمع الله به أسامع خلقه يوم القيامة . أي ينادي مناد من قبل الله تعالى : عبدي فلان عمل عملا لي ثم تقرب به لغيري . نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة .

[ ص: 49 ] واعلم يا أخي أن هذا مقام تشيب منه النواصي ، ولا يعتصم منه بالصياصي ، فينبغي لك أن توفر العناية عليه ، والجد فيه مستعينا بالله تعالى ، فمن لم يساعده القدر ، ولم ينفعه الحذر ، ولقد قطع الكبر من استكبر .

إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده ولكني أدلك على أعظم الوسائل مع بذل الاجتهاد ، وهو أن تكون مع بذل جهدك شديد الخوف عظيم الافتقار ملقيا للسلاح معتمدا على ذي الجلال مخرجا لنفسك من التدبير ، فإن هذه الوسيلة هي العروة الوثقى لماسكها ، وطريق السلامة لسالكها ، والله تعالى هو المسئول المبتهل لجلاله في السلامة من عذابه .


فما لجلدي بحر النار من جلد ولا لقلبي بهول الحشر من قبل



واعلم أنه ليس من الرياء قصد اشتهار النفس بالعلم لطلب الاقتداء بل هو من أعظم القربات ، فإنه سعي في تكثير الطاعات ، وتقليل المخالفات ، وكذلك قال إبراهيم عليه السلام : واجعل لي لسان صدق في الآخرين . قال العلماء معناه يقتدي بي من بعدي ، ولهذا المعنى أشار عليه السلام بقوله : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث علم ينتفع به . الحديث .

حضا على نشر العلم ليبقى بعد الإنسان لتكثير النفع ، ومنه قوله تعالى : ( ورفعنا لك ذكرك ) . على أحد الأقوال .

وقال العلماء بالله : ينبغي للعابد السعي في الخمول والعزلة ، لأنهما أقرب إلى السلامة ، وللعالم السعي في الشهرة والظهور تحصيلا للإفادة ، ولكنه مقام كثير [ ص: 50 ] الخطر ، فربما غلبت النفس ، وانتقل الإنسان من هذا المعنى إلى طلب الرئاسة ، وتحصيل أغراض الرياء ، والله المستعان ، وهو حسبنا في الأمر كله .

الثاني : ينبغي لطالب العلم أن يحسن ظاهره ، وباطنه ، وسره ، وعلانيته ، وأفعاله ، وأقواله ، فلقد أحسن من قال :

فالعيب في الجاهل المغمور مغمور وعيب ذي الشرف المذكور مذكور قلامة الظفر تخفى من حقارتها ومثلها في سواد العين مشهور

ولهذا المعنى قال الله تعالى لنبيه عليه السلام : إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات . أي لو فعلت ذلك لعذبناك مثل عذاب غيرك في الدنيا مرتين ، ومثل عذابه في الآخرة مرتين ، وكذلك في قوله تعالى : ( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ) . وهذه عادة الله تعالى في خلقه من عظمت عليه نعمته اشتدت عليه نقمته ، ولذلك رجم المحصن في الزنا ، وجلد البكر ، ولأن اشتهاره بالخير يبعث على الاقتداء به ، فيحصل له كمال السعادة الدنياوية ، ووقور السمت ، ويصير للمتقين إماما ، واشتهاره بالدناءة ينفر النفوس منه ، فتفوته هذه المنزلة بل ينبغي له أن يكتم من الحق ما تنفر منه عقول جلسائه ، وأهل زمانه ، وأن يخاطب الناس على قدر عقولهم ، فإنه إن يفعل ذلك لم يحصل مقصوده من إظهار ذلك الحق ، ولا من غيره ، ففي الحديث : من خاطب قوما بما لم تصل إليه عقولهم كان عليهم فتنة . اللهم إلا أن يكون مما أوجب الله تعالى إظهاره كقواعد الدين ، وإبطال شبه الضالين ، والأمر بالمعروف [ ص: 51 ] والنهي عن المنكر ، فيعتمد على قوله تعالى : ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر ) . ومن رضي الله تعالى عنه ، فلا يضره غضب غيره .


إذا رضيت عني كرام عشيرتي     فلا زال غضبانا علي شرارها



قال مالك - رحمه الله - في المختصر : حق على طالب العلم أن يكون فيه وقار ، وسكينة ، وخشية ، واتباع لأثر من مضى قبله .

وقال الحسن - رحمه الله - : كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يرى ذلك في وجهه ، وتخشعه ، ولسانه ، ويده ، وصلواته .

وقال عليه السلام : ما ضم شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم .

وقال عمر - رضي الله عنه - : تعلموا للعلم السكينة ، والوقار ، وتواضعوا لمن تتعلمون منه ، ولمن تعلمونه ، وإياكم أن تكونوا من جبابرة العلماء ، فلا يقوم علمكم بجهلكم . وقال أبو حازم - رحمه الله - : كان العالم فيما مضى إذا لقي من هو فوقه في العلم كان يوم غنيمة ، أو من هو مثله ذاكره ، أو من هو دونه لم يزه عليه ، ثم كان هذا الزمان أن صار الرجل إذا لقي من فوقه انقطع عنه حتى لا يرى الناس أن به حاجة إليه ، وإذا لقي من هو مثله لم يذاكره ، ويزهو على من هو دونه .

وقال ابن أبي ليلى : أدركت عشرين ومائة من الصحابة والأنصار ما منهم أحد يسأل عن شيء إلا ود أن صاحبه كفاه الفتيا .

وقال مالك : جنة العالم لا أدري ، فإذا أخطأ أصيبت مقاتله . وقال كان الصديق يسأل عن الشيء ، فيقول لا أدري ، وأحدكم اليوم يأنف أن يقول لا أدري .

قال مطرف - رحمه الله - : ما رأيت أكثر قولا من مالك لا أدري ، وقال بعض الفضلاء : إذا قلت لا أدري علمت حتى تدري ، وإذا قلت أدري سئلت [ ص: 52 ] حتى لا تدري ، فصار لا أدري وسيلة إلى العلم ، وأدري وسيلة للجهل ، ولذلك قال أبو الدرداء : قول الرجل فيما لا يعلم لا أعلم نصف العلم .

ولما تعلم الحسن - رضي الله عنه - العلم أقام أربعين سنة لم يتكلم به ، وأفتى مالك - رحمه الله - بعد أربعين سنة ، وحلق ابن سبع عشرة سنة ، وكان يقول لا يفتي العالم حتى يراه الناس أهلا للفتوى قال سحنون : يريد العلماء قال ابن هرمز : ويرى هو نفسه أهلا لذلك .

الثالث : أن يوفي الأمانة في العلم ، فلا يعطيه لغير أهله ، ولا يمنعه أهله ، فإن العلم يزيد النفس الشريرة شرا ، والخيرة خيرا . قال المحاسبي - رحمه الله - العلم كالغيث ينزل من السماء ، كله حلو يزيد الحلو حلاوة ، والمر مرارة ، وقال الغزالي - رحمه الله - : تعليم العلم لأهل الشر كبيع السيف من قاطع الطريق .

وبعث الشافعي لمحمد بن الحسن رضي الله عنهما يستعير منه كتبا ، فتوقف عليه ، فكتب إليه :


قل للذي لم تر عين من رآه مثله     حتى كأن من رآه قد رأى من قبله
العلم ينهى أهله أن يمنعوه أهله     لعله يبذله لأهله لعله

فبعث إليه بوقر بعير ، فقوله ينهى أهله أن يمنعوه أهله يفيد الدفع للأهل ، والمنع من غير الأهل ، والأصل في هذه القاعدة قوله عليه السلام : لا تعطوا الحكمة لغير أهلها ، فتظلموها .

سؤال : إذ كان الغالب على الناس اليوم في طلب العلم الرياء ، والمباهاة ، وسوء الحالة ، فالمعلم لهم معين لهم على هذه المعاصي ، والإعانة على المعصية معصية ، فيحرم التعليم حينئذ على الإطلاق نظرا إلى الغالب .

جوابه : هذا سؤال مشكل ، وقد اضطربت فيه فتاوى العلماء ، فمنهم [ ص: 53 ] من يقول لو اعتبرنا هذا لانحسمت مادة التعليم ، والإقراء ، فينقطع الشرع ، ويفسد النظام ، فيؤدي ذلك إلى إطفاء نور الحق ، وإضلال الخلق حتى يطبق الأرض الكفر ، ومعلوم أن هذه المفاسد أعظم من الرياء الذي قد يقع ، وقد لا يقع ، فإنا وإن قطعنا بوقوعه في الجملة لكنا لا نعلم حال كل أحد على انفراده ، فإن الله تعالى متولي السرائر ، فما استوى الأمران ، ولا وقوعهما .

ولأن العلم قربة محققة ، وهذه المعاصي أمور عارضة ، الأصل عدمها في كل شخص معين .

ومنهم من يقول : بل يتعين ذلك ، ولا يجوز التعليم إلا لمن يغلب على الظن سلامته من هذه المعاصي طردا لقاعدة إلحاق الوسائل بالمقاصد .

وأما قول الأولين : إن اعتبار ذلك يؤدي إلى انقطاع الشرع ، وتطبيق الكفر ، فأجاب الغزالي عنه ، فقال لا نسلم أنه يلزم من تحريم التعليم انقطاع الشرع لأن الطباع مجبولة على حب الرئاسة ، ولا سيما بألقاب العلوم ، ومناصب النبوة بل ناب الطبع مناب الشرع في النظر ، فإن الطباع مجبولة على رؤية المستغربات ، والفكرة فيها ، وكذلك لم يلزم من تحريم الرياء وغيره من المحرمات عدمها .

الرابع : ينبغي لطالب العلم إذا تعلم مسألة أن ينوي تعليمها كل من هو من أهلها ، وكذلك إذا علمها أن ينوي التوسل إلى تعليم كل من يتعلم ممن علمه ، فيكون المنوي في الحالين عددا لا يعد ، ولا يحصى ، وله بكل واحد من ذلك العدد حسنة ، فإن وقع منويه كان له عشر لقوله - صلى الله عليه وسلم - : من هم بحسنة ، فلم يعملها كتبت له حسنة ، وإن عملها كتبت له عشر . وهذا متجر لا غاية لربحه أعاننا الله تعالى على الخير كله .

التالي السابق


الخدمات العلمية