صفحة جزء
المانع الخامس ، الإحصار بالعدو لقوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) . ( البقرة : 196 ) وأجمع المسلمون على أن المراد : التحليل ، ولأنه عليه السلام أحرم بعمرة في سنة ست فصده المشركون فنحر ثم حلق هو وأصحابه إلا عثمان ، قال اللخمي : اختلف في : حصر وأحصر ، فقال أبو عبيدة : أحصر بالألف في المرض وذهاب النفقة ، وحصر في الحبس ، لقول ابن عباس - رضي الله عنه - : لا حصر إلا في عدو ، وقال ابن فارس في ( مجمل اللغة ) : ناس يقولون : حصره المرض وأحصره العدو عكس نقل أبي عبيدة ، وقال ابن فارس : الإحصار عن البيت بالمرض وغيره ، فسوى ، وقال أبو عمر ، وحصرني [ ص: 187 ] وأحصرني : إذا حبسني ، لقوله تعالى : ( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ) . ( البقرة : 273 ) يريد أحصرهم الفقر ، وقيل : حصره إذا ضيق عليه ، وأحصره إذا منعه شيئا وإن لم يضيق عليه غيره ، فمن منع من الخروج من البلد فقد حصر ; لأنه ضيق عليه ، أو منع من دخولها فقد أحصر ، قال : وللمحصر بعدو خمس حالات يصح الإحلال في ثلاث ، ويمنع في وجه ، ويصح في وجه إن شرط الإحلال ، فالثلاثة : أن يكون العدو طارئا بعد الإحرام أو متقدما ولم يعلم ، أو علم وكان يرى أنه لا يصده فصده ، ففي هذه يجوز التحلل لفعله عليه السلام ، فإنه كان يعتقد أن المشركين لا يصدونه ، وإن علم أنهم يمنعونه أو شك : لم يحل إلا أن يشترط الإحلال في صورة الشك ، كما فعله ابن عمر - رضي الله عنهما - وإن صد عن طريق وهو قادر على الوصول من غيره ، لم يجز له التحلل إلا أن يضر به الطريق الآخر ، والبعد ليس بعذر .

فرعان : الأول ، في ( الكتاب ) : المحصر بعدو غالب أو فتنة في الحج أو عمرة : يتربص ما رجا كشف ذلك ويتحلل بموضعه إذا أيسر حيث كان من الحرم وغيره ، ولا هدي عليه ، وإن كان معه هدي نحره ، ويحلق أو يقصر ، ولا قضاء عليه ولا عمرة إلا الصرورة ، فعليه حج الإسلام ، وإن أخر إخلافه إلى بلده حلق ولا دم عليه ، قال ابن القاسم : وقال في موضع آخر : لا يكون محصرا حتى يفوته الحج إلا أن لا يدركه فيما بقي فيتحلل مكانه ، قال سند : قال ابن القاسم : إن أحصر ثم أحرم لا يحله إلا البيت ; لأنه ألزم نفسه ذلك بعد العلم بالمنع ، كالمسافر يصبح صائما في السفر ، فإن تقدم الإحرام وكان لا يمكنه الحج ولو لم يحصر لم يتحلل ; لأن المنع منه لا من العدو ، وإن كان العدو المانع وهو كافر ، ولم يبد القتال فهو بالخيار بين التحلل والقتال ; لأنه لم يقاتل من صده مع علوه الصاد ; لقوله تعالى : ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ) . [ ص: 188 ] ( الفتح : 24 ) وترك عليه السلام القتال لحرمة مكة ، وفي ( الجواهر ) : لا يجوز قتال الحاصر مسلما كان أو كافرا ولم يحك خلافا ، قال سند : وإن طلب الكافر مالا على الطريق : كره دفعه نفيا للذلة ، فإن كان الصاد مسلما فهو كالكافر في القتال ; لأنه ظالم ، قال ( ش ) : وهو أولى بالتحلل ، فإن طلب اليسير من المال دفعه ولم يتحلل كالحرابة ، ولا ذلة فيه للإسلام ، وإن أرادوا قتال الصادين جاز لهم لبس الدروع وآلات القتال ، وقال أشهب : لا يحل المحصر إلى يوم النحر ، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة ; لأنه الوقت الذي يظهر أثر الصد فيه ، ولاحظ ابن القاسم بالسعي للجمعة إذا علم أنه لا يصل بعد السعي الطويل قطع من حينه ، ووافقه ( ش ) قال ابن القاسم : وليس للعمرة حد بل يتحلل وإن لم يخش الفوت ; لأنه عليه السلام صد وهو محرم بعمرة ولم يتأخر ، وقال عبد الملك : يقيم ما رجا إدراكها ما لم يضره ذلك ; فإن قدر المحصر على إرسال الهدي فعل ، وإن تعذر نحره في الحل ، وإن كان عن واجب ، وقاله ( ش ) ، وقال ( ح ) : لا ينحر إلا في الحرم ، لقوله تعالى : ( حتى يبلغ الهدي محله ) . ( البقرة : 196 ) لنا : القياس على الإحرام ، ولا قضاء على المتطوع عند مالك و ( ش ) وابن حنبل ، وقال ( ح ) يقضي ; لأنه عليه السلام قضى لما صد ، وسميت : عمرة القضاء ، وجوابه : أن المصدودين كانوا ألفا وأربعمائة ، والمعتمر معه نفر يسير ، ولم ينقل أنه أمر أحدا بالقضاء ، وإنما فعله عليه السلام استدراكا للخير ، وفي ( الجواهر ) : قال عبد الملك : لا يقضي الصرورة الفرض خلافا للأئمة ; لأنه وجب عليه الإحرام بالحج ، وقد فعل جهده ، وأسقط عنه الباقي الحصر ، فبرئت ذمته ، والقضاء إنما يجب بأمر جديد ، والأصل عدمه . لنا : أن الأصل شغل الذمة [ ص: 189 ] بالواجب حتى يأتي به ، وما لم يأت به تبقى مشغولة فيجب القضاء ، قال سند : النذر المعين كالتطوع ، والنذر المضمون كفرض الإسلام ، وأما الحلاق : فقال أشهب : إن أخره حتى ذهبت أيام منى فعليه هدي ; لأن الحلاق من سبب التحلل ، وقد وقع لابن القاسم أن النية لا تكفي في التحلل ، والمشهور كفايتها ، وقال أشهب والأئمة : على المحصر المتحلل الهدي لقوله تعالى : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) . ( البقرة : 196 ) وجوابهم : أنها نزلت في حصر المرض ، أو المراد ما تيسر مقلدا ، وهو ظاهر اللفظ ، لا أنه يجب إنشاء هدي آخر ، وإذا قلنا بالهدي فليس شرطا في جواز التحلل عند أشهب ، خلافا ل ( ح ) و ( ش ) ; لأن الهدي سبب التحلل ، فلو كان شرطا لزم الدور ، وإن لم يجد الهدي صام عشرة أيام عند أشهب وابن حنبل ، كدم المتمتع وقال ( ح ) و ( ش ) : يقيم حتى يجد الهدي وينحر عند أشهب في الحل والحرم ، وخصصه ( ح ) بالحرم ، وإذا كان مع المحصر هدي فنحره وهو غير مضمون ، فحكمه في حل الأكل حكم ما إذا بلغ حله ، بخلاف ما عطب من هدي التطوع قبل محله ، لعدم التهمة ، وأما المضمون : فعلى القول بإجزاء الحج يجزئ الهدي .

الثاني ، في ( الكتاب ) : من أحصر بعد الوقوف فقد تم حجه ، ولا تحله إلا الإفاضة ، وقاله ( ح ) ، وعليه لجميع ما يفوته دم واحد ، لاتحاد نية الترك ; لأن التحلل في حكم الفسخ ، والفسخ بعد الوقوف متعذر ، فكذلك التحلل ، قال سند : وقال عبد الملك و ( ش ) : إن كان الصاد بمكة ، ولم يدخلها الحاج ، ووقف وشهد المناسك ، فليحل قياسا على ما قبل الوقوف ، بجامع الضرورة ، والفرق : أنه بعد الوقوف يتمكن من إزالة الشعث ، والحلاق ، واللباس ، والطيب مجنة الضرورة [ ص: 190 ] والأصل الوفاء بقوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) . ( البقرة : 195 ) ، فلو وصل إلى مكة وأحصر عن عرفة طاف وسعى ، ولا يحلق عند ابن القاسم حتى ييأس من عرفة ، ويؤخر الحلاق إلى الإياس من العدو ، وينحر ويحلق عند عبد الملك ، وقال أشهب : لا يحلق إلى يوم النحر ، وفي ( الجواهر ) : قال القاضي أبو الوليد : إذا وقف وصد عن البيت يأتي بالمناسك كلها ، وينتظر أياما ، فإن أمكنه الوصول إلى البيت طاف ، وإلا حل وانصرف ، ولو تمكن من لقاء البيت وصد عن عرفة : قال عبد الملك : أن يحل دون الطواف والسعي ، ويؤخر الحلاق ، فإن أيس وتضرر بالطول حلق .

المانع السادس : المرض ، في ( الكتاب ) : إذا أحرم مكي بالحج من مكة أو من الحرم ، أو أحرم المتعمد بالحج بعد الفراغ من عمرته من مكة فأحصر بمرض حتى فرغ الناس من الحج ، فلا بد من الخروج إلى الحل فيلبي منه ، ويعمل عمرة التحلل ويحج قابلا ، ويهدي ، والمحصر بمرض إذا فاته الحج لا يقطع التلبية حتى يدخل أوائل الحرم ، ولا يحله إلى البيت وإن تطاول سنين ، وإن تمادى مرضه إلى قابل فحج بإحرامه أجزأه عن حجة الإسلام ، ولا دم عليه ، وإذا كان مع المحصر بمرض هدي حبسه حتى يصح فينطلق به معه إلا أن يخاف عليه لطول المرض فيبعث به ينحر بمكة ، وعليه هدي آخر إذا فاته الحج للفوات ; لأن الأول قد تعين قبل الفوت ، ولو لم يبعث به ما أجزأه عن هدي الفوت ، وتحرير هذه الفتوى : أن المرض ليس عذرا للتحلل إذا طرأ على الإحرام ، بخلاف العدو عند مالك و ( ش ) وابن حنبل ، وسوى ( ح ) محتجا بما في أبي داود ، قال عليه السلام : ( من كسر أو عرج فقد حل ، وعليه الحج من قابل ) وقياسا على العدو بجامع [ ص: 191 ] الضرورة ، والجواب عن الأول : أن راويه ضعيف ، وبتقدير صحته فهو متروك الظاهر ، فإنه لا يحل بنفس الكسر والعرج ، وإن فاته الحج إجماعا ، فإن أضمروا : إذا أهدى ، أضمرنا : إذا اعتمر ويعضده : ما في ( الموطأ ) : أن رجلا من أهل البصرة انكسرت فخذه فبعثوا إلى مكة وبها ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم والناس ، فلم يأذن له أحد في التحلل . فكان إجماعا . وعن الثاني : الفرق بأن المريض لا يستفيد بتحلله مفارقة ما حصره ، فهو كمن أخطأ الطريق وخاف الفوات ، بخلاف المحصور بالعدو ، فإن فرض العدو قد أحاط به من جميع جهاته ، فهذه الصورة اختلف فيها الشافعية ، فمنهم من ألحق ، ومنهم من فرق ، قال سند : ولم يحفظ عن مالك فيها نص ، فيحتمل التحلل ليتفرغ للقتال ، ويحتمل التسوية بالمريض ، فلو شرط في إحرامه أنه يتحلل متى عرض له عارض من مرض ، أو خطأ الطريق ، أو خطأ العدد ، أو ذهاب النفقة ، قال مالك و ( ح ) : شرطه باطل ، وأثبته ( ش ) وابن حنبل لما يروى أنه عليه السلام : ( دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب وهي تبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ قالت : أريد الحج وأنا شاكية ، فقال عليه السلام : حجي واشترطي أن تحلي حيث حبست ) لنا : القياس على الصلاة ، وإذا بقي على إحرامه إلى قابل ، فروى ابن القاسم : لا هدي عليه ; لأنه أوقع جميع مناسكه في إحرامه ، وروي عنه : يهدي كتأخير بعض أفعال الحج عن وقته ، وفي ( الكتاب ) : إذا طاف المفرد وسعى ثم خرج إلى الطائف فأحصر بعدو أو مرض أو بمكة قبل الخروج لم يجزئه الطواف والسعي الأولان ، بل يأتنفهما المحصر بالمرض ، وإذا أصابه أذى يحلق وينحر هديه أحب .

المانع السابع : حبس السلطان . وفي ( الكتاب ) : إذا حبسه السلطان في دم [ ص: 192 ] لا يحله إلا البيت ، وفي ( الجواهر ) : من حبس في دم أو دين فهو كالمرض لا كالعدو ، وفي إلحاقه بالعدو قولان للمتأخرين ، قال سند : من حبس بحق لا يحله إلا البيت ; لأن المانع من جهته ، أو حبس ظلما فهو كمن أحاط به العدو من جميع الجهات ، وقد تقدم الكلام فيه ، والظاهر : أنه يتحلل ، وفي ( الجواهر ) : أما من فاته الوقوف بعرفة بخطأ الطريق ، أو العدو أو خفاء الهلال ، أو شغل أو بأي وجه غير العدو ، فلا يحله إلا البيت فيتحلل بالعمرة ، ويلزمه القضاء ودم الفوات .

المانع الثامن : السفه ، قال سند : قال مالك : لا يحج السفيه إلا بإذن وليه ، إن رأى وليه ذلك نظرا أذن ، وإلا فلا ، وإذا حلله وليه فلا قضاء عليه ، وكذلك المرأة .

التالي السابق


الخدمات العلمية