صفحة جزء
[ ص: 193 ] الباب الرابع

في السوابق

وهي ثلاثة ، السابقة الأولى ، النيابة في الحج ، قال سند : اتفق أرباب المذاهب أن الصحيح لا تجوز استنابته في فرض الحج ، والمذهب : كراهتها في التطوع ، وإن وقعت صحت الإجازة ، وحرمها ( ش ) قياسا على الفرض ، وجوزها ( ح ) وابن حنبل مطلقا ، وأما الشيخ الضعيف : فقال الأئمة : إن كان ذا مال وجب عليه الاستئجار ، واستحبه ابن حبيب ، والمذهب : أن حج النائب لا يسقط فرض المنيب ، وقال ( ح ) : يقع الحج تطوعا عن النائب وللمستنيب أجر النفقة وتسهيل الطريق ، وهو قريب من قول مالك ، وقال ابن حبيب : يجزئ عن الكبير العاجز والمنيب الموصي ، وفي ( الجواهر ) : لا تجوز الاستنابة عند العجز ، وروي الجواز ، وخصصها ابن وهيب بالولد ، وابن حبيب بالكبير العاجز الذي لم يحج ، وحج الولد عن أبيه الميت وإن لم يوص ، ونفذ أشهب الوصية بالحج من رأس المال إن كان صرورة ، وقيل : لا ينفذ ، وقيل : يحج عنه وإن لم يوص إن كان صرورة ، وفي ( الصحاح ) : ( أن امرأة من خثعم أتت النبي عليه السلام فقالت : إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة . أفأحج عنه ؟ قال : نعم . وفي بعض الروايات : كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه ) وجوابه : أن هذا لم يجب عليه الحج لما ذكرت من العجز فنقول بموجبه ; لأنه ينتفع بالدعاء وبالنفقة ، وتشبيهه بالدين من جهة حصول الثواب ، والقياس يعضدنا ; لأنه أفعال بدنية كالصلاة ، ولقوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت ) . ( آل عمران : 97 ) ولم يقل : إحجاج البيت ، وإذا لم يجب [ ص: 194 ] الإحجاج ، والأصل عدم دليل يدل على مشروعيته ، فيكون فعله عبثا فيكره ، ولقوله تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) . ( النجم : 39 ) والمعارضة بعمل المدينة ، وإنما صححنا الإجارة ; لأنه محل اجتهاد ، فلا يقطع بالبطلان .

قاعدة : الأفعال قسمان ، منها ما يشتمل على مصلحة مع قطع النظر عن فاعله كرد الودائع ، وقضاء الديون ونحوها فتصح فيها النيابة إجماعا ; لأن المقصود انتفاع أهلها بها ، وذلك حاصل بنفس الدفع ، ولذلك لم يشترط فيها النيات ، ومنها ما لا يتضمن مصلحة في نفسه ، بل بالنظر إلى فاعله كالصلاة ، فإن مصلحتها الخشوع والخضوع وإجلال الرب سبحانه وتعظيمه ، وذلك إنما يحصل فيها من جهة فاعليها ، فإذا فعلها غير الإنسان فاتت المصلحة التي طلبها الله تعالى منه ، فلا توصف بكونها حينئذ مشروعة في حقه ، فلا يجوز فيها النيابة إجماعا ، ومصالح الحج تأديب النفس بمفارقة الأوطان ، وتهذيبها بالخروج عن المعتاد من المخيط وغيره ليذكر المعاد ، والاندراج في الأكفان ، وتعظيم شعائر الله تعالى في تلك البقاع ، وإظهار الانقياد من العبد لما لم يعلم حقيقته كرمي الجمار ، وهذه مصالح لا تحصل إلا للمباشر كالصلاة ، فيظهر رجحان المذهب بهذه القاعدة ، ومن حاول الفرق بين الحج والصلاة ، لاحظ ما فيه من القربة المالية غالبا في الإنفاق في السفر ، فأشبه العتق والصدقة عن الغير .

فروع اثنا عشر : الأول ، قال سند : اتفق مالك والأئمة على الإرزاق في الحج ، وأما الإجازة بأجرة معلومة : فقال بها مالك و ( ش ) ، ومنعه ( ح ) وابن حنبل ، والأفعال ثلاثة أقسام : ما يجوز فيه الإرزاق والإجازة نحو بناء المساجد ، وتفريق الصدقات ، وما تمنع فيه الإجازة دون الإرزاق ، نحو الفتيا ، والقضاء ، وما اختلف في جواز الإجازة فيه دون الإرزاق نحو : الأذان والصلاة والحج ، فإن قاسوا على صور المنع ، فرقنا بأن العمل ثمة غير منضبط بخلافه ها هنا ، وقسنا على صورة الجواز ، ومنع ( ش ) الاستئجار بالنفقة للجهالة ، وقسناها على نفقة النظير ، وأجبناه بأنه منضبط عادة . والمعارضة تقع في الحج ثلاثة أقسام : [ ص: 195 ] بأجرة معلومة ، وبالنفقة ، وتسمى البلاغ ، وعلى وجه الجهالة وهو أن لا يلزم نفسه شيئا ، ولكن إن حج كان له كذا وكذا ، وإلا فلا .

والثاني ، في ( الكتاب ) : من أخذ مالا يحج به عن ميت فصده عدو عن البيت ، فإن أخذه على البلاغ رد ما فضل عن نفقته ذاهبا وراجعا ، وإن كان أجيرا كان له من الأجرة بحساب مسيره إلى موضع صده ، وكذلك من مات في الطريق ، وقال ( ش ) : لا شيء له . وإن أحصر صاحب البلاغ فمرض ، فنفقته في مال الميت مدة مرضه ، وإن أقام إلى قابل أجزأ عن الميت حجة ( ش ) بأن الإجارة مقابلة المقصود ، لا الوسيلة ، فإذا لم يأت بالمقصود فلا شيء له ، كمن استؤجر على البناء أو الخياطة فهيأ الآلات ولم يخط ، وجوابه : أن أكثر المبذول ها هنا لقطع المسافة ، فهي أعظم المقصود في أخذ العوض ، ولذلك يكثر المبذول ويقل بكثرة المسافة وقلتها ، بخلاف آلات الخياطة ، وأما الخياطة والبناء إن وقعا على وجه الجعالة فمسلم أنه لا يستحق شيئا ، وكذلك في صورة النزاع ، وإلا فنحن نلزمه بالعمل ولا تسقط الأجرة ، فنحن نمنع الحكم في الأصل ، قال سند : إذا صد في الجعالة : فلا شيء له ، وفي البلاغ له ما جرت العادة به مما لا بد منه ، كالعسل والزيت واللحم المرة بعد المرة والوطاء واللحاف والثياب ، ويرد ما فضل من ذلك ، والفرق بين المستأجر لا ينفق راجعا وذي البلاغ : أن رجوعه لم يتناوله العقد ، وإذا أحصر بعد الإحرام ونحلل : فإن أوجبنا الهدي على قول أشهب فعلى المستأجر ، وكل ما فعل من أعمال الحج واقع عن المستأجر ، وقال بعض الشافعية : عن المحصور ، والدم عليه ، والمستأجر على البلاغ إذا تحلل بعد الحصر وبقي بمكة حتى حج من قابل ، أو بقي على إحرامه الذي دخل به إلى قابل فحج به ، فلا شيء على المستأجر إن كانت الإجارة على العام الأول كما لو أكرى داره سنة فغصبت ، ثم سلمها الغاصب في تلك السنة ، وإن كانت على مطل الحج من غير تعيين سقط من نفقته من يوم إمكان التحلل مدة مكة ، فإن سار بعد ذلك ليحج فله نفقة [ ص: 196 ] مسيره ، ولا نفقة له في مقامه بها حتى يأتي من قابل الوقت الذي أحصر فيه ، ويذهب من الوقت الذي أحصر فيه ، ويذهب من الوقت قدر السير إلى مكة ، فتكون له النفقة بعد ذلك ، وأما الأجير بأجرة معلومة : فله منها من الحصر إلى الفوت ، أحرم أو لم يحرم ، وأما المجاعل : فليس له بعد الإحرام الرجوع للعبادة لا للعقد ، وإن شرط عاما معينا ففات سقط العقد ، وإلا فهو على عقده ، وقال ابن حبيب في الأجير إذا مات بعد دخول مكة : له جملة الأجرة ، وهو ضعيف لبقاء بعض ما اقتضاه العقد ، ولو كان الحج مضمونا لا معينا ، مثل قوله : من يأخذ كذا في حجه ؟ ثم مات الآخذ . ولم يحرم ، قام وارثه مقامه كسائر الإجارات ، فإن مات بعد الإحرام فللوارث أن يحرم إن لم تفت السنة ، في السنة المعينة ، وإن فاتت في غير المعينة ، ويحرم من موضع شرط المستأجر أو من ميقاته ، ولا يحتسب بما فعل مورثه ، وقال ( ش ) في الجديد : مثلنا ، وفي القديم : يبنى كبناء الولي على أفعال الصبي ، والفرق : أن الولي لم يجدد إحراما ، وإنما ناب في بعض الأفعال . وأما أجير البلاغ يمرض فله مدة مرضه نفقة الصحيح .

الثالث ، في ( الكتاب ) : من ضعف من كبر لا يحج أحدا عن نفسه صرورة كان أو غير صرورة ، ومن مات صرورة ولم يوص بالحج وأراد أحد أن يتطوع عنه بذلك فليتطوع بغير هذا من صدقة أو غيرها ، فإن أوصى بعمرة نفذت ، قال سند : الخلاف هنا إنما هو في الكراهة والجواز ، فكما يكره عن الميت فهو عن الحي أشد ، ويصح الحج عن الميت ، وتنفذ الوصية بإحجاج مسلم حر بالغ لتنزل حجه منزلة حج الموصي ، فإن أوصى بذلك لعبد أو صبي وهو صرورة قال ابن القاسم في ( الموازية ) : دفع ذلك لغيرهما ، وقال ابن الجلاب : إن أوصى - وهو صرورة - لا يحج عنه إلا بالغ حر إلا أن يوصي بذلك ، وإن لم يكن صرورة جاز إلا أن يمنع من ذلك ، وقال في كتاب الوصايا من ( المدونة ) : تنفذ [ ص: 197 ] وصية العبد والصبي لاحتمال أن يكون إنما أراد نفعهما ، وأما إن كان الأجير صرورة فأجاز إجارته مالك و ( ح ) ومنعها ( ش ) وابن حنبل ، فإن وقع فلا يقع عن النائب ، لما في أبي داود : أنه عليه السلام سمع رجلا يقول : لبيك عن شبرمة ، قال : من شبرمة ؟ قال : أخ لي ، أو قريب لي ، فقال : حججت عن نفسك ؟ قال : لا ، قال : حج عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة ، وجوابه : أنه وقع عام الفتح حين فسخ النبي عليه السلام والناس حجهم إلى عمرة ، فلما جاز الفسخ من قربة إلى قربة ، جاز الفسخ من شخص إلى شخص ، ويدل عليه قوله عليه السلام : ( حج عن نفسك ) ، ولقوله عليه السلام : ( الأعمال بالنيات ) قال : والخلاف في العمرة كالخلاف في الحج ، فيما يجوز ويمتنع ; لأنهما عبادة بدنية .

فائدة : الصرورة لغة : من لم يتزوج أو لم يحج ، كأنه من الصر ، ومنه : الصرة لانجماعه وعدم اتصاله بهذين المعنيين .

الرابع : في ( الكتاب ) : إذا استؤجر على الحج فاعتمر عن نفسه وحج عن الميت لم يجزه عن الميت ، وعليه حجة أخرى عنه ، كما استؤجر ، قال ابن القاسم : وكذلك لو قرن ونوى العمرة عن نفسه ، وعليه دم القران ، قال سند : إن شرط عليه موضع الإحرام صح وفاقا ، وإلا فالمذهب صحته من ميقات الميت ، وأنه إذا اعتمر وقلنا : تجزئه فلا يرجع عليه بشيء من الأجرة ، وقال ( ش ) : يرجع بقدر ما ترك من الميقات إلى مكة ، لنا أن عمله صحيح ، وإنما وقع فيه خلل جبره بالدم ، فأشبه ما لو رجع إلى الميقات بعد العمرة ، وقد سلمه الشافعي ، وقاله : أبو حنيفة ; لأن المقصود إنما هو الحج ، وإن قلنا : لا يجزئه ولو رجع إلى الميقات فأحرم عن الميت : قال ابن المواز : يجزئه إن كان ميقاة الميت ، ويحتمل أن يقال : إنه لما [ ص: 198 ] اعتمر لنفسه : كان سفره لنفسه فلا يجزئه إلا العود ، وكما أنه إذا فات الحج يرد جميع الأجرة ، وقد قال ابن القاسم بعد هذا : إذا شرطوا عليه أن لا يقدم عمرة فقدمها : يرد عليهم ما قبض منهم ، ولم يقل : يسقط ما بعد من الميقات ، وإذا كانت الإجارة على عام بعينه ، وقلنا : لا يجزئه رد الأجرة مع قولنا : إنه لو رجع إلى الميقات أجزأه ولو مات عنده ، كمن استؤجر على متاع فغصبه ببعض الطريق ضمنه ولا كراء له ; لأن الغيب كشف أنه إنما حمله لنفسه ولو رد المتاع وأتم الحمولة : كانت له جملة الأجرة ، ولو كانت الإجارة مضمونة كان عليه الوفاء بها ، فلو تمنع وجعل جميع ذلك عن الميت : قال مالك يجزئه ، فلو شرطوا عليه ألا يقدم عمرة : قال ابن القاسم و ( ح ) : عليه أن يوفيهم ، ثم رجع إلى قول مالك لأنه رآه خيرا ، وفي ( الجلاب ) عن ابن القاسم : عدم الإجزاء ، ولم يفصل بين وقوع العمرة عنه ولا عن الميت ، وحكي الإجزاء عن ابن الحكم ولم يفصل ، قال سند : وإذا قلنا بالإجزاء فعليه الهدي كدم الصيد والفدية ، ولو شرط عليه ميقاة فأحرم من غيره : فظاهر المذهب : لا يجزئه ويرد المال في الحج المعين إن فات ، وقال ( ش ) : لا يرد وإن أحرم من الأقرب ; لأن المقصود هو الحج . لنا : القياس على ما إذا استؤجر لسنة معينة فحج في غيرها ، ولأنه خلاف المعقود عليه ، ولو أطلق العقد ، ففي تعيين ميقاة الميت قولان ، وأما إذا قرن فلا يجزئ عند ابن القاسم و ( ش ) ; لأنه أحرم واحد ، لا يمكن أن يكون عن اثنين ، وتقع عن الأجير ، ويكون الحج ها هنا تبعا للعمرة لتعذر وقوعه عن المستأجر ، فإن كانت السنة معينة لا بد أن ينفق على سنة أخرى ; لأنه دين في دين ، أو غير معينة فالقياس أن عليه الوفاء بها ، وقيل : إن عرف ذلك من قوله ، وكذلك إن كتم ذلك ثم فطن له فسخت الإجارة ; لأنه لا يوثق به في السنة الثانية ، فلو أذنوا له في القران بعمرة لنفسه لم يلزمه شيء ، والظاهر أن العمل يبطل لوقوع التشريك في الطواف الواحد ، وقال أشهب : إذا حج عن رجل واعتمر عن آخر وقد أمره بذلك : أن دم القران على المعتمر وحج [ ص: 199 ] حجه ، وإذا جازت الإجارة عليهما مفردتين جازت مجتمعتين ، فلو اشترط القران فأفرد ، فالمذهب لا يجزئه لإتيانه بغير المعقود عليه وكان سفره له ، وقال ( ش ) : يجزئه ويرد من الإجارة بقسط العمرة ، فلو استؤجر ليقرن فتمتع ، لم يجزئه ولا يرد عند ( ش ) هاهنا شيئا ، ولو استؤجر ليتمتع فقرن لم يجزئه ، وقال ( ش ) : يجزئه ; لأن عليه الإحرام من مكة ، فأحرم من الميقات ، فلو استؤجر على أن يتمتع فأفرد لم يجزئه ، ولا يجزئه أن يعتمر بعد الحج ; لأن الشرط لا يتناوله ، ولا ينظر إلى فضل الإفراد عندنا ; لأنه لو استؤجر على العمرة فحج لم يجزئه ، وإنما النظر إلى مخالفة العقد .

الخامس : في ( الكتاب ) : من حج عن ميت أجزأته النية دون : لبيك عن فلان . قال ابن القاسم : ولو ترك ما يوجب الدم مع بقاء الإجزاء أن لو كانت الحجة عن نفسه أجزأت عن الميت ، وكل ما لم يتعمد من ذلك أو فعل لضرورة ، أو أغمي عليه أيام منى حتى رمى عنه غيره ، أو أصابه أذى فالفدية والهدي في مال الميت إن كان على البلاغ ، وما كان من ذلك بتعمده ففي ماله ، وإن كانت إجارة ، فالعمد وغيره في ماله ، قال سند : الاقتصار على النية يدل على قبول قوله ، وفيه خلاف بين الأصحاب ، فعلى القول بالأشهر يعلن تلبيته عنه ، ومقصود ( الكتاب ) : إنما هو انعقاد الحج بمجرد النية ، فإذا قبض الأجرة فهو أمين حتى تثبت خيانته ، وإن لم يقبض فلا شيء عليه حتى تثبت التوفية ، ولا يصدق إن اتهم إلا بالبينة ، فلو شرط عليه دم التمتع ونحوه لم يجزئ ; لأنه بيع مجهول ضم إلى الإجارة .

السادس ، قال ابن القاسم في ( الكتاب ) : من أخذ مالا على البلاغ فسقط منه رجع من موضع السقوط : ونفقته في رجوعه على مستأجره ، فإن تمادى فهو مقطوع ولا شيء له في إذهابه إلا أن يسقط بعد إحرامه فليمض لضرورة الإحرام ، ونفقته ذاهبا وراجعا على الذي دفع إليه المال ، ولو أخذه على الإجارة فسقط ضمن الحج ، أحرم أو لم يحرم ، قال سند : القياس في البلاغ - إذا لم يكن [ ص: 200 ] شرطا - أن يتمادى ; لأن الأجرة لم تتعين ، والعقد لازم ، ورأى ابن القاسم أن المال لما تعين صار محل العقد ، كما لو استؤجر لغرض معين فتلف ، وقال ابن حبيب : لا نفقة له في رجوعه لانفساخ العقد بالسقوط ، وابن القاسم يرى أن المقطوع من المسافة استقر في العقد ذهابا ورجوعا ، فإن كان الميت أوصى بأن يحج عنه ولم يعين لذلك شيئا كان ذلك في تمام الثلث . إن رضي الورثة كلهم بهذه الإجارة ، وهو قول ابن القاسم ، فلو فرضوا ذلك لأحدهم ففعله بغير علمهم ، أو فعله وصي : قال ابن القاسم وغيره : الغرامة على الوصي دون مال الميت ; لأنه غرر بالعدول عن الإجارة المعلومة إلى البلاغ ، وقال ابن حبيب : في مال الميت ; لأنه فرض إليه النظر في المصلحة ، وقد رآها كذلك ، فإن لم يبق للميت ثلث فذلك على العاقد من وصي أو غيره ، وإذا سقطت النفقة ورجع : قال ابن القاسم : سقطت الوصية وإن كان في الثلث فضل ، وقال أشهب : عليهم أن يحجوا عنه من بقية الثلث ; لأنه لم يسم ، كالوصية بإعتاق رقبة تشترى فتهلك قبل العتق ، والفرق : أنه لا يجب عتق العبد بشرائه كما يجب حج الأجير بالعقد ، فلو لم يسقط لكن نفدت في الكلف لا يرجع ، ونفقته عليهم ، والفرق : أن المال محل العقد ، فإذا سقط فكأنه لم يسلم العقود عليه ; لأنه كان معه أمانة ، وهذا قد سلمه ، والقول قوله في السقوط مع يمينه ، سواء ظهر ذلك عند الضياع أو بعد الرجوع .

السابع : قال ابن القاسم في ( الكتاب ) : إذا أوصى بأن يحج بأربعين ، فدفعوها لرجل على البلاغ ، فأفضل منها عشرين ردها عليهم ، كما لو قال : اشتروا عبد فلان بمائة فأعتقوه ، فاشتروه بأقل فالبقية ميراث . وإن قال : أعطوا فلانا أربعين ليحج بها عني فاستأجروه بثلاثين فالعشر ميراث ، قال سند : وإن كان الموصى له وارثا لا يزاد على النفقة والكراء شيئا ، قاله في كتاب الوصية ، وإن كان غير وارث فعلم ورضي بدونه فقد أسقط حقه ، وإن لم [ ص: 201 ] يعلم : فرأى ابن القاسم أن المقصود الحج ، وقال ابن المواز : يدفع الجميع له في الحج ; لأنه وصية للغير ، وإذا قلنا : يعطى الزائد فقال : أحجوا غيري ، وقال : أعطوني الزائد : لم يوافق ; لأنه أوصى له بشرط الحج ، فإن الميت قصد التوسعة في الحج ، وإن لم يكن صرورة : قال ابن القاسم في الوصايا : يرجع ميراثا إن امتنع الموصى له ، وقال غيره : لا يرجع تحصيلا للمقصود من الحج ، فإن قال : أحجوا عني بهذا المال ، فعل فيه ما يفعل في الوصية المطلقة ، فإن الإطلاق تارة يكون في الأجرة ، وتارة في الأجير ، وتارة فيهما ، وتارة يكونان معينين ، فهي أربعة أقسام ، فإذا أطلقت الأجرة وقال : أحجوا عني : أخرجت من ثلثه أجرة حجه موضعه . قاله أشهب ، كالحالف يحنث إن لم تكن له نية ، يمشي من موضع الحلف ، وإن لم يحمل الثلث فمن موضع يحمله ، قال مالك : إن كان يسيرا مثل الدينار رد إلى الورثة ، وإن سمي موضعا أحجوا منه إن حمل الثلث وإلا قال ابن القاسم : يرجع ميراثا ، وفرق بين تعيين الموضع وإطلاقه لارتباط الوصية بالموضع ، كما لو استؤجر ليحرم من موضع يعينه فأحرم من غيره فلا شيء له ، وقال أشهب بتنفيذها إلى ثلثه إن وجد من يحج بها عنه ، وقال ابن المواز : إن كان صرورة فقول أشهب أحسن ، وإلا فقول ابن القاسم ، ولو قال : أحجوا عني بثلثي ، حجة واحدة فأحجوا بدونه ، فالباقي لهم عند ابن القاسم ، وعند أشهب : يخرجونه في حجة أخرى ، وفعلهم للأقل جائز ، ولا يجزئهم عند سحنون . ويضمنون المال للمخالفة .

الثامن : قال سند : يجب اتصال العمل بالعقد في الإجارة المعينة كسائر الإجارات ، وإن كانت بالحجاز فالأحسن أن تكون في الأشهر الحرم ليشرع فيها عقيب العقد ، ويجوز التأخير في المضمونة والسنين .

التاسع : قال : من عليه مشي إلى مكة فأوصى به ، قال مالك : لا يمشي [ ص: 202 ] عنه ويهدي هديين للحج وصفته بالمشي ، فإن لم يجد فهدي واحد ، ولا يمشي أحد عن أحد ، فإن وعده ابنه بذلك بطل وعده ، فمن الأصحاب من حمل هذا من مالك على المنع من الاستنابة في الحج ، والأحسن : أن يحمل على أنه لا يجب الوفاء بذلك ; لأنه لو كان ممنوعا لما خص الولد عليه على أحد قوليه . وفي الأول ، ألحقه بالصوم والصلاة ، مع أن بعض الناس قد جوزه في الصوم والصلاة لما في البخاري عن ابن عمر ( أن امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء قال : فصلي عنها ) وفي مسلم : ( أن امرأة سألته عليه السلام عن أمها أنها ماتت وعليها صوم شهر ، أفأصوم عنها ؟ قال : صومي . والحج أبين ، وإن عين الميت لذلك مالا ، لا يختلف قول مالك في تنفيذه ، فإن لم يوص بالمشي وقال : ما لزمني فافعلوه ، فعلى قول مالك : يلزمهم الهدي لتعذر أداء الواجب بالموت ، وعند سحنون : لا يفعلون شيئا ; لأنه لا يلزمه أن يحج من ماله ، ولا أن يهدي ، لتعلق الوجوب بالبدن ، وإن قال : علي حجتان : فرض ونذر ، فاستأجروا اثنين لعام واحد ، صح بخلاف من حج لفرضه ونذره في عام واحد لتعذر الإحرام ، وقال بعض الشافعية : لا يجوز ; لأنه لا يؤدي النذر إلا بعد الفرض . العاشر : قال : لو أحرم عن أبيه وأمه لم ينعقد ، وقاله ( ش ) وقال ( ح ) : ينعقد ، ويجعله بعد ذلك عن أيهما شاء ، وسلم عدم الانعقاد في الأجنبيين ، ويقع عن نفسه ; لأن المقصود ثم إنما هو البر ، وهو جهة واحدة بخلاف الأجنبيين فلما [ ص: 203 ] أمكن أن يقال في الأجنبيين : المقصود جهة واحدة ، وهي الخروج عن حقهما ، فلو أحرم عن أحدهما من غير تعيين لم تقع إلا عن نفسه ، وقال ( ش ) و ( ح ) : يصرفه إلى من شاء منهما . لنا : أنه إحرام من غير تعيين ، فلا يصح تعيينه بعد ذلك ، كما لو أحرم عمن لعله يؤاجره ويخالف إحرامه عن نفسه ، ثم يعين بعد ذلك بحج أو عمرة ; لأنه يعين نفسه ، وأحد النسكين شأنه أن يدخل في الآخر .

الحادي عشر : قال : إذا أوصى أن يحج عنه بمال ، فتبرع عنه بغير مال ، فعلى أصل ابن القاسم : يعود ميراثا ، وعلى قول أشهب : يستأجر به . كما لو استأجر عنه بدون المال .

الثاني عشر : إذا أحرم الأجير عن الميت ثم صرفه إلى نفسه لم يجزئ عنهما ، ولا يستحق الأجرة ، وقال الشافعي : يقع عن الميت ، واختلفوا في استحقاق الأجرة ، وفي ( الجواهر ) : في افتقار العقد إلى تعيين الزمان الذي يحج فيه ، قولان للمتأخرين ، واختلفوا في تعلق الفعل بنفس الأجير أو بذمته ، وعليه يخرج الخلاف إذا امتنع المعين ، وإذا صد الأجير فأراد الإقامة على إحرامه إلى عام ثان ، أو تحلل وأراد البقاء على إجارته ليحج في العام الثاني : فللمتأخرين في المسألتين قولان ، وفي ( الجلاب ) : لا يجوز للأجير استئجار غيره إلا بإذن المؤجر .

التالي السابق


الخدمات العلمية