صفحة جزء
المقصد الثاني : دخول مكة ، وفي ( الجواهر ) : يغتسل بذي ( طوى ) ويدخلها من ثنية ( كداء ) بفتح الكاف والمد ، وهي الصغرى التي بأعلى مكة ، [ ص: 235 ] ويهبط منها على الأبطح ، والمقبرة فيها على يسارك وأنت نازل منها ، ويخرج من ثنية ( كدي ) بضم الكاف وفتح الدال وتشديد الياء على التصغير ، وهي الوسطى التي بأسفل مكة ، لما في ( الموطأ ) أنه عليه السلام ( كان يدخل مكة من الثنية العليا ، ويخرج من الثنية السفلى ) وروي الفتح في كاف الاثنين ، والسر في هذا الدخول : أن نسبة باب البيت إليه كنسبة وجه الإنسان إليه ، وأماثل الناس ، إنما يقصدون من جهة وجوههم لا من ظهورهم ، ومن أتى من غير هذا الوجه لم يأت من قبالة الباب ، ثم يدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة ; لأنه قبالة البيت ، فيأتي الركن الأسود ; لأن جنبي الباب كيمين الإنسان ويساره ، فالذي يقابل يمين المستقبل للبيت يسار البيت ، ويمين البيت قبالة يسار المستقبل له ، وفي هذا الموضع : الحجر ، فجعل البداية باليمين لفضله ، أو لفضيلة الحجر في نفسه ، فيبتدئ بطواف القدوم ; لأن القدوم على الأماثل يوجب التحية عليهم ، وبيت الله في أرضه كبيت الملك في دولته ، فشرع الله تعالى طواف القدوم إظهارا لاحترام العبد لبيت الرب ، وتمييزا له عن غيره ، كما شرع الصلاة في دخول المساجد لذلك ، وكذلك شرع طواف الوداع ; لأن القادم ينبغي له السلام إذا فارق ، ولما كان السلام على الله تعالى محالا لكونه سالما لذاته فلا يدعى له بالسلامة ، جعلت الصلاة والطواف بدلا منه ، لتمييز جناب الربوبية عن غيرها ، وفي ( الكتاب ) : يستحب دخولها نهارا لما في ( الموطأ ) : ( أن ابن عمر - رضي الله عنه - كان إذا دنا من مكة بات بذي طوى بين الثنيتين حتى يصبح ، ثم يصلي الصبح ثم يدخل من الثنية التي بأعلى مكة ، ولا يدخل إذا خرج حاجا أو معتمرا حتى يغتسل قبل أن يدخل إذا دنا من مكة بذي [ ص: 236 ] طوى ، ويأمر من معه ، فيغتسلون قبل أن يدخلوا ) . ولما فيه من التمكن من آداب الدخول ، وذو طوى ربض من أرباض مكة في طرفها ، فإذا دخل المسجد استلم الحجر الأسود بفيه إن قدر ، وإلا فليمسه بيده ويضعها على فيه من غير تقبيل ، وإذا لم يصل كبر إذا حاذاه ، ولا يرفع يديه ، وإن شاء ترك جميع ذلك ، ولا يقبل بفيه الركن اليماني ، ولكن يلمسه بيده ويضعها على فيه من غير تقبيل ، وإن لم يستطع كبر ومضى ، وكلما مر به في طواف واجب أو تطوع ( إن شاء استلم أو ترك ، ولا يدع التكبير كلما حاذاه في طواف واجب أو تطوع ) ولا يستلم الركنين اللذين يليان الحجر ، ولا يقبلان ، ولا يكبر إذا حاذاهما ، وأنكر مالك قول الناس إذا حاذوا الركن الأسود : إيمانا بك وتصديقا بكتابك ، ووضع الخدين والجبهة على الحجر الأسود لأنه بدعة ، ويستلمه غير الطائف ، وبعد ركعتي الطواف قبل الخروج إلى الصفا والمروة إن شاء ، وليس عليه أن يرجع من السعي ليستلمه قبل الرواح لمنزله إلا أن يشاء ، قال سند : قال مالك : ويغتسل النساء والصبيان لدخول مكة بذي طوى ، قال ابن حبيب : ويغسل جسده دون رأسه ، وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - ، لا يغسل رأسه وهو محرم إلا لجنابة ، والمعروف من المذهب غسل الجسد والرأس مع الرفق في صب الماء ، قال مالك : ولا تغتسل النفساء ولا الحائض ، وقال ( ش ) : يغتسلان ، لقوله عليه السلام لعائشة - رضي الله عنها - لما حاضت : ( افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ) ولأن مقصوده التطيب ، قال محمد : إن قدم بعد العصر أقام بذي طوى حتى يمسي ليصل بين طوافه وركوعه وسعيه ، فإن دخل فلا بأس بتأخير الطواف حتى تغرب الشمس فيركع ويسعى إن كان بطهر واحد ، فإن انتقض وضوءه أعاد الطواف والسعي ، ويقدم المغرب على ركعتي الطواف ، فإن دخل قبل طلوع الشمس : فالمذهب أنه لا يطوف ، فإن طاف فلا يركع حتى تطلع الشمس ، وجوز مطرف الركوع ، فعلى قوله يدخل فيطوف ، واستحب مالك للمرأة إذا قدمت نهارا أن تؤخر الطواف إلى الليل ، قال مالك : وما سمعت رفع اليدين عند رؤية البيت أو عند الركن ، [ ص: 237 ] واستحبه ابن حبيب لما روي عنه عليه السلام ( أنه كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال : اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة ، وزد من شرفه وكرمه ممن حج البيت أو اعتمر تشريفا وتعظيما ) وقاله ( ش ) وابن حنبل ، قال مالك : ولا يبدأ في المسجد بالركوع ، ولكن باستلام الركن والطواف ، لفعله عليه السلام ذلك ، وهو متفق عليه ، ولأن طواف القدوم واجب فيقدم على الركوع ، إلا أن يجد الإمام في فرض فيصلي معه ، ثم يطوف ، أو يخاف فوات المكتوبة ، وروي عن مالك و ( ش ) تقبيل يده كما يقبل الحجر ، وحجة المشهور : أن التقبيل في الحجر تعبد ، وليست اليد بالحجر ، حجة ( ش ) : أنه عليه السلام طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن ويقبل المحجن . جوابه : أنه كان يرى يلصق المحجن على فيه فاعتقد تقبيله ، والمحجن عود معقوف الرأس ، ويروى عنه عليه السلام أنه قال : ( الحجر والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ، فلولا أن الله تعالى طمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب ) ( وأن الحجر الأسود يجيء يوم القيامة له عينان ولسان يشهد لمن استلمه بحق ) وفي الترمذي : ( أنه من الجنة ، وكان أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم ) وروي ( أنه يمين الله في الأرض ) ومعناه : أنه عهد الله الذي من التمسه كان له عند الله عهد ، ولما كانت العهود عند العرب بوضع اليمين في اليمين من المتعاهدين سمي العهد يمينا ، أو ضرب مثلا للقرب من الله [ ص: 238 ] تعالى ، كما جاء : ( المصلي يسجد على قدم الرحمن ، فمن وصل إلى قدم الملك ، فقد قرب منه ) أو لأنه يمين البيت ، وهو بيت الله تعالى ، وقد أقيم الطواف به مقام السلام عليه ، فلما أقيم البيت مقام ربه أقيم نسبة يمينه إليه ، واختلف في الاستلام فقيل : من السلام بكسر السين التي هي الحجارة ، ولما كان لمسا للحجر قيل له : استلاما ، وقيل : من السلام بفتح السين ، فإن ذلك الفعل سلام على الحجر ، ( وقيل : أصله مهموز استلأم من الملاءمة التي هي الموافقة ، كأنه موافق لتعظيم الحجر ) أو الشرع في تعظيمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية