صفحة جزء
[ ص: 284 ] [ ص: 285 ] الباب السادس

في اللواحق

وهي أربعة : اللاحقة الأولى : القران ، وأخرت الكلام على التمتع والقران ; لأن المركبات متأخرة عن المفردات ، والقران هو اجتماع الحج والعمرة في إحرام واحد أو أكثرها . وفي ( الكتاب ) : الإفراد أفضل من القران والتمتع ، لما في الموطأ والبخاري ، قالت عائشة رضي الله عنها : خرجنا مع النبي - عليه السلام - عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج ، وأهل النبي - عليه السلام - بالحج ، زاد أبو داود : لم يخالطه شيء وهو عليه السلام لا يفعل إلا الأفضل ، وفي ( الموطأ ) : كان عمر - رضي الله عنه - ينهى عن التمتع ، وعثمان بن عفان - رضي الله عنه - ينهى عن القران . واتفقت الأمة على عدم النهي عن الإفراد فهو مجمع عليه ، وغيره مختلف فيه ؛ ولأن الدم في غيره جابر الخلل ، وهو لا خلل فيه فيكون أفضل .

وأول حجة وقعت في الإسلام لثمان من الهجرة ، بعث عليه السلام عتاب بن أسيد على الناس ، فأفرد ، ثم بعث أبا بكر على الناس سنة تسع فأفرد ثم حج صلى الله عليه وسلم سنة عشر فأفرد وأفرد عبد الرحمن عام الردة ، وأفرد الصديق السنة الثانية ، وأفرد [ ص: 286 ] عمر عشر سنين ، وأفرد عثمان ثلاث عشرة سنة ، وفعله ابن عمر وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم أجمعين - وهذا يقتضي أنه المحفوظ عندهم من فعله عليه السلام ، وأنه الأفضل ، وقال ( ش ) وابن حنبل : التمتع أفضل لقوله عليه السلام لعائشة رضي الله عنها : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) . ولأنه مشتمل على عبادتين عظيمتين في وقت شريف ، وهو شهور الحج فيكون أفضل ، والجواب عن الأول : أنه عليه السلام إنما قال ذلك لتطييب قلوب أصحابه لما أمرهم بفسخ الحج من العمرة ، ليظهر جواز العمرة في أشهر الحج ، خلافا للجاهلية ، وعن الثاني أن العمرة في غير أشهر الحج أفضل ، ويؤيده : وجوب الدم على المتمتع ، وقال ( ح ) : القران أفضل ; لما في أبي داود عن أنس ، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج والعمرة جميعا ؛ ولأن فيه زيادة نسك وهو الدم ، فيكون أفضل ، والجواب عن الأول : أن رواية أنس اضطربت في الحج وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يذكر له عن أنس في الحج أشياء فيقول : كان أنس يتولج على النساء ، أي صغير ، وأنا عند شفة ناقة النبي عليه السلام يصيبني لعابها ، فلعل أنسا - رضي الله عنه - سمعه عليه السلام يعلم أحدا التلبية في القران ، فقال : سمعته يقول ، وعن الثاني : أن الدم يدل عن المفضولية لما تقدم ، وإذا قلنا بأفضلية الإفراد عليهما ، فأيهما أفضل ؟ قال مالك في ( المجموعة ) : القران أفضل لشبهه بالإفراد ، وقال القاضي في ( المعونة ) و ( التلقين ) و ( ش ) : التمتع أفضل لاشتماله على العملين ، قال أبو الطاهر : والمذهب أن القران أفضل من التمتع ، وفي ( الجواهر ) : التمتع أفضل من القران ، قال صاحب ( المقدمات ) ، وقالت طائفة من العلماء : لا يجوز تفضيل بعضها على بعض ; لأنه عليه السلام شرعها ولم يفضل بينها .

سؤال : قالت الملحدة : حج عليه السلام حجة واحدة وأصحابه معه [ ص: 287 ] متوافرون مراقبون لأحواله غاية المراقبة . ثم اختلفوا هل كان مفردا أو قارنا أو متمتعا ؟ مع حرصهم على الضبط ، وذلك يمنع الثقة بصدقهم في نقلهم . جوابه من أربعة أوجه : الأول ، أن الكذب إنما يدخل فيما طريقه النقل ، ولم يقولوا : أنه عليه السلام قال ذلك ، بل استدلوا على معتقده بقرائن أحواله وأفعاله ، والاستدلال بذلك يقع فيه الاختلاف . الثاني : أنه عليه السلام أمر بعضهم بالإفراد ، وبعضهم بالتمتع ، وبعضهم بالقران فأضاف ذلك الرواة إليه عليه السلام ; لأنه أمر به كما قالوا : رجم ماعزا ، وقطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم ولم يباشر ذلك ، ونسبة الفعل إلى الآمر به مجاز مشهور . الثالث : أنه عليه السلام أمكن أن يكون قارنا ، وفرق بين إحرامه بالعمرة وإحرامه بالحج ، فسمعت طائفة إحرامه بالعمرة فقالت : اعتمر ، وطائفة بالحج ، فقالوا : أفرد ، وطائفة : الإحرام والتلبية بهما ، فقالوا : قارن ، وهو يؤكد مذهب الحنفية .

الرابع : أن معرفة ذلك لم تكن واجبة عليهم على الأعيان ، فلم تتوفر دواعيهم على ضبطه ، بخلاف قواعد الشرائع وفروضه وفي ( الجواهر ) : يتحد الميقات ، والفعل في القران ، وتندرج العمرة في الحج .

( تمهيد ) : يقع التداخل في الشريعة في ستة مواضع : الأول الطهارة ، الوضوء إذا تعددت أسبابه أو تكرر السبب الواحد ، والغسل إذا اختلفت أسبابه ، [ ص: 288 ] أو تكرر السبب الواحد ، والوضوء مع الجنابة ، وفي تداخل طهارة الحدث والخبث خلاف . الثاني : العبادات كسجود السهو إذا تعددت أسبابه ، وتحية المسجد مع الفرض ، والعمرة مع الحج في القران ، الثالث : الكفارات كما لو أفطر في الأول من رمضان مرارا بخلاف اليومين أو أكثر خلافا ل ( ح ) في إيجابه كفارة واحدة في جملة رمضان ، واختلف قوله في الرمضانين . الرابع : الحدود إذا تماثلت وهي أولى بالتداخل من غيرها لكونها أسبابا مهلكة ، وحصول الزجر بواحد منها ألا ترى أن الإيلاج سبب الحد ، والغالب : تكرار الإيلاجات ، فلولا تداخلها هلك الزاني ، وإذا وجب تكرارها إذا تخللت بين أسبابها ; لأن الأول اقتضاه سببه السابق ، فلو اكتفينا به لأهملنا الجناة فيكثر الفساد ؛ ولأنا علمنا أن الأول لم يف بزجره فحسن الثاني .

الخامس : العدد تتداخل على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى ، السادس : الأموال كدية الأطراف مع النفس إذا سرت الجراحات ، والصدقات في وطء الشبهات ، ويدخل المتقدم في المتأخر ، والمتأخر في المتقدم ، والطرفان في الوسط ، والقليل في الكثير والكثير في القليل ، فالأول نحو الأطراف مع النفس ، والجنابة مع الحيض ، والوضوء مع الغسل ، والصداق المتقدم مع المتأخر إذا اتحدت الشبهة ، وكان الأخير الأكثر ، والثاني للصداق الآخر مع الأول إذا كان الأول أكثر مع أن ظاهر المذهب : أن المعتبر هو الحالة الأولى كيف كانت لحصول الوجوب عندها ، فلا تنتقل لغيرها ، والانتقال هو مذهب ( ش ) والحيض والجنابة المتقدمة عليه ، والحدود المتأخرة مع الأول المتماثل ، والكفارات ، والثالث نحو الموطوءة بالشبهة ، وحالها الوسطى أعظم صداقا ، والرابع : كالأصبع مع النفس إذا سرى الجرح ، والصداق المتقدم أو المتأخر إذا كان أقل ، والعمرة مع الحج ، والوضوء مع الغسل ، الخامس : الأطراف إذا اجتمعت مع النفس ، والحدود مع الحد الأول ، والكفارات والاغتسال والوضوآت إذا تعددت أسبابها أو اختلفت .

تفريعات ثلاثة : الأول في ( الكتاب ) : أجاز الشاة في دم القران على [ ص: 289 ] تكره واستحب البقرة ; لقوله تعالى : ( فما استيسر من الهدي ) [ البقرة 196 ] وهو يصدق على الشاة ، والبدنة أعلى الهدي إجماعا ، فالبقرة وسط ، فيناسب التيسير ، ومن أحرم بالحج لم يضف إليه حجا آخر ولا عمرة ، فإن أردف ذلك أول دخوله مكة أو بعرفة أو بأيام التشريق لم يلزمه ويتمادى على حجه ، ولا شيء عليه ; لأنه انتقل من الأعلى إلى الأدنى ، والتداخل على خلاف الأصل ، فلو أدخل الحج على العمرة كان قارنا ; لأنه انتقل من الأدنى إلى الأعلى ، فإن أدخل العمرة على الحج : قال مالك و ( ش ) وابن حنبل : لا يكون قارنا ، وقال ( ح ) : يكون قارنا ، وأشار إليه اللخمي قياسا على إدخال الحج على العمرة ; لأنه أحد النسكين ، وجوابه : ما تقدم من الفرق ، وانتفاضه بإدخال الحج على الحج ، بل ضم الشيء إلى جنسه أقرب ، قال : ولمن أحرم بعمرة أن يردف عليها الحج ، ويصير قارنا ما لم يطف بالبيت ، فإذا طاف ولم يركع كره الإرداف ، ويلزم إن فعل وعليه الدم ، وإن أردف في بعض السعي كره ، فإن فعل كمل عمرته واستأنف الحج ، فإن أردف بعد السعي وقبل الحلاق : لزمه الحج ولم يكن قارنا ويؤخر الحلاق ، ولا يطوف ولا يسعى حتى يرجع من منى إلا طواف التطوع ، وعليه دم لتأخير حلاق عمرته ، ولا دم عليه للمتعة إلا أن يحل منها في أشهر الحج إن كان غير مكي ، والأصل في إدخال الحج على العمرة : حديث عائشة رضي الله عنها ( أنها أحرمت بعمرة ، فلما بلغت سرفا حاضت وهي بقرب مكة ، فدخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي فقال لها : إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم ، فأهلي بالحج ، واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ) فجوز لها إدخال الحج على العمرة ، قال سند : إذا طاف شوطا واحدا ثم أردف صار قارنا عند ابن القاسم ; لأن للعمرة ركنين : الطواف والسعي ، فإذا لم يكمل الطواف بها لم يكمل ركن يمنع من عدم إتمام العمرة ، وقال أشهب و ( ش ) [ ص: 290 ] و ( ح ) : لا يصير قارنا ; لأن المقصود من العمرة الطواف والسعي وإذا طاف شوطا اتصل المقصود بالإحرام ؛ ولأن ذلك الشوط وقع للعمرة فلا ينتقل للقران ; لأن الرفض لا يدخل في النسك ، وزعم اللخمي أن قول القاسم اختلف بعد الطواف وقبل الركوع ، وفي ( الجلاب ) روايتين : إذا أردف قبل السعي أو في أثنائه ، وإن قلنا يصير قارنا في بعض الطواف سقط عنه باقي العمرة ، ويتم طوافه نافلة ، ولا يسعى ; لأن سعي الحج لا بد من اتصاله بطواف واجب ، وإن قلنا يصير قارنا في أثناء السعي قطع سعيه ; لأن السعي لا يتطوع به منفردا ، وحيث قلنا : لا يكون قارنا فإن كان الحج حج الإسلام بقي في ذمته ، أو تطوعا سقط عنه عند أشهب ، كما لو أردف حجا على حج أو عمرة على عمرة أو عمرة على حج ، وقيل : يلزمه الإحرام به ; لأنه التزم شيئين في إحرامه الحج ، وتداخل العمل ، بطل الثاني فيبقى الأول ، عملا بالاستصحاب .

سؤال : مشترك الإلزام ، إذا أردف العمرة على الحج ، جوابه : الفرق بأنه التزم العمرة في وقت يتعذر عليه فعلها ، فكان كناذر صوم النحر ، بخلاف الأول ، قال : فإن أردف الحج بعد السعي قبل الحلاق وجب تأخير الحلاق ، ويهدي لتأخيره ، وقال بعض القرويين : يسقط عنه الهدي ; لأن حلقه حرام ، وليس كما قال ; لأن حلاقه كالصلاة في الدار المغصوبة ، واجبة من وجه ، حرام من وجه فيجب الدم لتأخيره من حيث هو واجب .

الثاني : في ( الكتاب ) : إذا كانت عمرته في أشهر الحج فعليه هدي للمتعة ، ويؤخرهما جميعا ، يقف بهما عرفة ، وينحران بمنى ، وجاز تأخير ما وجب بسبب العمرة لارتباطها بالحج ، فإن أخرج هدي تأخير الحلاق إلى الحل فيسوقه إلى مكة وينحره بها ، وليس على من حلق من أذى وقوف هديه بعرفة ; لأنه نسك .

قال ابن القاسم : لا يحرم أحد بالقران من داخل الحرم ; لأن العمرة لا يحرم [ ص: 291 ] بها إلا من الحل ، قال مالك : وإذا أحرم مكي بالعمرة من مكة ثم أردف الحج صار قارنا ، وليس عليه دم قران .

قال مالك في ( الموازية ) : أكره القران للمكي ، فإن فعل فلا هدي عليه وبالصحة ، قال ( ش ) ، وقال ( ح ) : لا يصح منهم تمتع ولا قران ، فإن تمتع فعليه دم خلافا لنا ، وإن قرن ارتفضت عمرته أحرم بهما معا أو متعاقبين ; لقوله تعالى : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) [ البقرة : 196 ] والإشارة بذلك إلى التمتع ، فلذلك أضافه باللام ، ولو أراد الهدي لأضافه بعلى ; لأن اللام لما يرغب ، وعلى لما يرهب ، ولذلك تقول : وشهد له عليه ، والقران مثل التمتع ; لأنه فيه إسقاط أحد ( العملين ، كما أنه في التمتع إسقاط أحد السفرين ) .

وجوابه : أن الإشارة بذلك إلى الهدي ; لأن الإشارة كالضمير يجب عودها إلى أقرب مذكور وهو أقرب ، ولما كان حكما شرعيا حسن إضافته باللام ، تقديره : ذلك مشروع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ، الآية ، فيسقط عن المكي ، قال أبو الطاهر : قال عبد الملك : على المكي دم القران بخلاف المتمتع ; لأنه أسقط أحد العملين مع قيام موجبه ، وجوابه : أن موجب الدم نقصان النسكين لعدم الإحرام من الميقات لهما منفردين ، وهو مشترك بين المكي وغيره لإيجاد الإحرام .

الثالث : في ( الكتاب ) : إذا دخل مكي العمرة ثم أضاف الحج ثم مرض حتى فاته الحج خرج إلى الحل ، ثم رجع وطاف وحل وقضى قابلا الحج والعمرة قارنا ، ومن دخل مكة قارنا فطاف وسعى في غير أشهر الحج ، ثم حج من عامه فعليه دم القران ، وبه قال ( ح ) وابن حنبل ، وقال ( ش ) : يعقد إحرامه بالعمرة لا بالحج بناء على أصله في اشتراط الميقات الزماني في الانعقاد ، وقد سبق جوابه في المواقيت ، قال : والذي يسقط عنه دم القران والتمتع : أهل مكة وطوى فقط ، بخلاف المناهل التي بين مكة والمواقيت ، والمكي إذا خرج إلى مصر أو غيرها لا ينوي [ ص: 292 ] الاستيطان ، ثم رجع فقرن فلا دم عليه ، وقد تقدم أن حاضري المسجد الحرام لا دم عليهم ، واختلف فيهم فقال مالك : هم أهل مكة وطوى طرف منها ، وقال ( ش ) وابن حنبل : الحرم ومن كان خارجه بمسافة القصر ، وقال ( ح ) : من دون الميقات إلى الحرم ، واللفظ أظهر فيما ذكرناه ، وفي ( النوادر ) قال ابن حبيب : يلحق بمكة المناهل التي لا تقصر في مثلها الصلاة ، وهو قول مالك وأصحابه ، قال ابن أبي زيد : وليس بقول مالك وأصحابه ، وفي ( الجواهر ) : وقيل : كل من مسكنه دون الميقات .

وفي ( الجلاب ) : إذا قتل القارن صيدا فجزاء واحد ، وإن لبس أو تطيب ففدية واحدة ، ومن أحرم بعمرة وساق هديا تطوعا ، ثم أدخل الحج على العمرة : فهل يجزئه هدي عمرته عن قرانه ؟ روايتان ، نظرا لتعلق الهدي بالعمرة فتجزئ عنه ، أو إن التطوع السابق لا يجزئ عن الواجب اللاحق .

التالي السابق


الخدمات العلمية