صفحة جزء
البحث الخامس : في الدواوين وما يتعلق بها ، يروى أن من أول من دون الدواوين في الإسلام عمر - رضي الله عنه - وفي ( الكتاب ) : لا بأس بكتابة الرجل اسمه في ديوان مصر أو الشام أو غيرهما فإن تنازع رجلان في اسم مكتوب في العطاء فأعطى أحدهما الآخر مالا ليترك له ذلك الاسم ، قال ابن القاسم : لا يجوز لقول مالك لا يجوز بيع الزيادة في العطاء بعرض ؛ ولأن المعطى إن كان صاحب الاسم فقد أخذ الآخر حراما ، وإن كان غيره فقد باع ما لم يعلم ، قال ابن يونس : إذا لم يعلم ذلك تحالفا واقتسماه إن رآه الإمام ، ولو كان المتنازع فيه الخروج وليس عطاء ثابتا أخرج الإمام أيهما شاء وأعطاه ذلك ، ومراده في ( الكتاب ) الأعطية الثانية ، وفي ( الكتاب ) : وقد وقف عمر - رضي الله عنه - والصحابة بعده الفيء وخراج الأرضين للمجاهدين ، وفرضوا منه للمقاتلة والعيال والذراري فهو سنة لمن بعدهم ، فمن افترض فيه ونيته الجهاد جاز ، قال ابن جرير : أصحاب العطاء أفضل من المتطوعة لما يرعون ، وقال مكحول : روعات البعوث تنفي روعات يوم القيامة ، قال اللخمي : المستحب أن لا يأخذ أجرا ويغزو لله تعالى خالصا ، فإن أخذ من الديوان جاز إذا كانت جهة تجوز ، وإذا أراد رجلان أن يتطاويا وهما من ماحوزين فيرجع كل واحد منهما إلى ماحوز صاحبه ، جاز إذا أراد ذلك عرفاؤهم ، وفي ( التنبيهات ) : الطوا بفتح الطاء والواو مقصور والماحوز بالحاء المهملة والراء المعجمة ، وفي ( النكت ) الماحوز : الموضع الذي يرابط فيه نحو الإسكندرية والمنستير ، والطوا : المبادلة فإذا كتب الإمام بعضهم للخروج إلى [ ص: 407 ] جهة وبعضهم إلى جهة ، أخبر فيجوز أن يخرج هذا لثغر هذا ، وهذا لثغر هذا ، وفي ( الكتاب ) : يجوز جعل القاعد للخارج من أهل ديوانه ; لأن عليهم سد الثغور خلافا ل ( ش ) و ( ح ) ; لأنه قد مضى الناس على ذلك ، وربما خرج لهم العطاء ، وربما لم يخرج ولا يجعل لغير من في ديوانه ليغزو عنه ، وقد كره إجارة فرسه لمن يغزو عليه ، فإجارة النفس أشد كراهة .

قاعدة : العوضان لا يجتمعان لشخص واحد ، ولذلك منعنا الإجازة على الصلاة ونحوها لحصولها للمصلي مع عوضها ، وحكمة المعاوضة انتفاع كل واحد من المتعاوضين بما يبذل له ، والجهاد حاصل للمجاهد ، ومقتضى ذلك المنع مطلقا ، وعليه اعتمد ( ش ) و ( ح ) وراعى مالك العمل ، قال يحيى بن سعيد : لا بأس في الطوا أن يقول لصاحبه : خذ بعثي وآخذ بعثك وأزيدك وكذا وكذا وكرهه شريح قبل الكتبة . أما بعدها فهو جائز إلا لمن انتصب ينتقل من ماحوز إلى ماحوز يريد الزيادة في الجعل ، قال ابن يونس : أما إذا لم يتقدم كتبه فلم يجب عليهما خروج فلا فائدة في الإعطاء ، قال التونسي : إذا سمى الإمام رجلا فلا يجعل لغيره الخروج عنه إلا بإذن الإمام ، وإذا قال : يخرج من البعث الفلاني مائة وأعطى بعضهم لبعض جاز ، ولو قال : يخرج جملة بعث الصيف فجعل بعضهم لمن بعثه في الربيع لم يجز إلا بإذن الإمام ; لأنه قد عين ، وهذا جائز إلا لمن أوقف نفسه يلتمس الربح متى وجده خرج فمكروه ، وأما إذا قال : خذ بعثي وآخذ بعثك قبل وقت الخروج فهو الدين بالدين ، قال ابن عمر رضي الله عنهما : من أجمع على الغزو فلا بأس بأخذه ما يعطى ، وقال مالك : لا بأس بالكراء في الغزو إلى القفول من بلد العدو وتوسعة على الناس ; لأن غزوهم معروف .

البحث السادس : في وجوه القتال ، في ( الكتاب ) : لا بأس بتحريق قراهم وحصونهم وتغريقها بالماء ، وإخرابها وقطع شجرها المثمر ، وقاله ( ش ) ، وقال [ ص: 408 ] الأئمة : يجاز قطع النخل ونحوه ، لما في مسلم أنه عليه السلام حرق نخل بني النضير . ويحمل قول الصديق - رضي الله عنه - على ما يرجى انتفاع المسلمين به ، وإذا كان مسلم في حصن أو مركب لا يحرق ولا يغرق لقوله تعالى : ( لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) [ الفتح 25 ] ولا يعجبني ذلك إذا كان فيهم ذرية المشركين ونساؤهم ، وإذا خرق العدو سفينة المسلمين جاز خروجهم إلى البحر فرارا من الموت إلى الموت ، ولم يره ربيعة إذا طمع في النجاة أو الأسر ، وقال ربيعة أيضا : الصبر أفضل ، ولا يلقي الرجل نفسه بسلاحه ليغرق بل يثبت لأمر الله تعالى ، وفي ( الجواهر ) : يجوز إرسال الماء عليهم وقطعه عنهم لقوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) [ الأنفال 60 ] وفي النار خلاف ما لم يكن عندهم أسارى المسلمين فلا يجوز ، ولو تترسوا بالنساء والصبيان تركناهم إلا أن يخاف على المسلمين ، فإن تترسوا بمسلم تركوا ، وإن خفنا على أنفسنا ; لأن دم المسلم لا يباح بالخوف ، فإن تترسوا في الصف ولو تركوا لانهزم المسلمون وخيف استئصال قاعدة الإسلام أو جمهور المسلمين وأهل القوة منهم ، وجب الدفع وسقط مراعاة الترس ، ولا يجوز حمل رءوس الكفار من بلد إلى بلد ولا إلى الولاة ، وقد كرهه الصديق - رضي الله عنه - وقال : هذا فعل العجم ، قال صاحب ( البيان ) : ترمى الحصون بالمنجنيق ، وإن كان فيهم نساء وصبيان فقد رمى أهل الطائف بالمنجنيق ، فقيل له : يا رسول الله ، إن فيهم النساء والصبيان ، فقال عليه السلام : هم من آبائهم ) وإذا لم يكن بالحصن إلا المقاتلة : أجاز في ( الكتاب ) [ ص: 409 ] رميها بالنار ، وروي عنه المنع ، وإذا كان معهم النساء والصبيان فأربعة أقوال : يجوز المنجنيق دون التغريق والتحريق ، وهو مذهب ( الكتاب ) ، ويجوز جميع ذلك عند أصبغ ، ومنع جميع ذلك مروي عن ابن القاسم ، ويجوز التغريق والمنجنيق دون التحريق عند ابن حبيب ، فإن كان معهم أسارى للمسلمين امتنع التحريق والتغريق ، قال ابن القاسم : يجوز المنجنيق وقطع الماء عنهم ، وروي منع ذلك عن مالك وأصحابه المصريين والمدنيين ، وأما السفن إن لم يكن فيها أسارى المسلمين جاز التحريق ، والفرق بينها وبين الحصون أنهم إذا لم يحرقوهم فعلوا بهم ذلك ، وهو متعذر عليهم في الحصون ، فإن كان فيهم الأسارى فمنع ابن القاسم ، وجوز أشهب وإن كان فيهم النسوان والصبيان جاز قولا واحدا ، والمدرك في هذه الأحكام قوله تعالى : ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) [ الحشر 2 ] وقوله تعالى : ( ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ) [ الحشر 5 ] وقال عليه السلام : ( لا يعذب بالنار إلا رب النار ) ووافقنا ( ح ) في قتل الحيوان الذي يضعف قواهم كالخيل والبغال ، قال المازري ، وقال ابن وهب و ( ش ) : لا يجوز إتلاف الخيل والبغل لعدم المأكلة ، ويجوز إتلاف فرس الفارس تحته بلا خلاف فنقيس عليه وعلى الشجر ، ويفرق الخصم بأن مركوبه آلة للشر بخلاف غيره ، والنبات ليس له حرمة في نفسه بخلاف الحيوان فنقيس على النساء والصبيان ، وعلى المذهب اختار بعض الأصحاب الذبح لبعده عن التمثيل ، ونهى بعض الأصحاب عنه لبعده عن الأكل ويمكن أن تحرق لبعد ذلك عن الأمتعة ، وخير في بعض الروايات بين الذبح والتعرقب ، وأما النحل فنهي عن إتلافه لإ مكان تطيره إلى بلد الإسلام وغيرها كحمام الأبرجة بخلاف المواشي والدواب ، فإن كانت كثيرة تقويهم فروايتان : إحداهما المنع لما روي فيما تقدم ، والجواز كالدواب وأما الحيوان الناطق إن عجز [ ص: 410 ] عن وصوله لبلدنا ترك النساء والصبيان وقتلت الرجال ، إلا أن يكونوا أسقطنا حكم القتل عنهم ، وإذا تركنا الولدان والنسوان والشيوخ في بلد الحرب فهم لمن أخذهم أو في حوزة الإسلام ، فقال ابن حبيب : لا يملكون ، وذلك كالعتق لهم .

البحث السابع : في المبارزة فيما تجوز الهزيمة ، قال ابن يونس : قال ابن حبيب : اختلف في قوله تعالى : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) [ الأنفال 66 ] قيل : التخفيف في العدد فلا يفر العدو من مثيله ، وإن كان أشد منهم سلاحا وجلدا إلا أن يكون بأرض الحرب بموضع مددهم فله التولية سعة ، وقيل : ذلك إنما هو في القوة دون العدد ، وهي رواية عبد الملك عن مالك وقوله قول ابن حبيب ، قال : وهذا القول محمول على قول محمد : إن الانحياز إلى والي جيشه الأعظم وتنحاز السرية المتقدمة إلى من خلفها مما يليها ، وإذا نشأ القتال وكان السلطان ضعيفا فله الانحياز أكثر من ثلاثة صفوف ، وإن علموا أنهم يقتلون فالانصراف أحب إلي إن قدروا ، وإلا تلازموا حتى يقتلوا ، وإذا حصرت المدينة فضعفوا ، قال ربيعة : يخرجون للقتال أحب إلي من الموت جوعا ، وإن طمعوا في النجاة وإلا فالصبر أحسن ، قال التونسي : لهم الخروج إلى القتال لعله أروح لهم ، وقد اختلف في المركب تلقى عليها النار هل يلقي الرجل بنفسه ليغرق أم لا ؟ قال ابن حبيب ومحمد : لا تجوز المبارزة بين الصفين إذا صحت النية إلا بإذن الإمام ، قال : ولا بأس أن يعضد إذا خيف عليه ، وقيل : لا يعضد ; لأنه لم يف بالشرط وليس بجيد ; لأنه إذا أخذ وجب فداؤه بالقتال وغيره ، قال صاحب ( البيان ) : إذا حمل الرجل الواحد على الجيش العظيم أراد السمعة فحرام إجماعا ، أو خوف الأسر لإحاطة العدو به فجاز إجماعا ، أو ليلقي الرعب في قلوب الكفار ، والقوة في قلوب المسلمين فكرهه عمرو بن العاص - رضي الله عنه - لأنه ألقى نفسه إلى التهلكة ، ومنهم من استحسنه وهو الصحيح ، وما زال السلف على [ ص: 411 ] ذلك وفي كلام مالك إشارة إلى القولين ، وفي ( المقدمات ) قال ابن القاسم : لا تجوز شهادة الفار من الزحف وإن فر إمامه ، وإن بلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا لا يجوز التولي ، وإن كان العدو زائدا على الضعف ; لقوله عليه السلام : ( لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة ) فهذا الحديث مخصص للآية عند أكثر العلماء ، وقيل : إن قوله تعالى : ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) [ آل عمران 111 ] خاص ببدر ، والصحيح تعميمه إلى الأبد .

فرعان : الأول في ( الجلاب ) : تقام الحدود في أرض العدو ، وقاله ( ش ) ، وقال ( ح ) : كل ما يوجب الحد لا يوجبه إلا مع الإمام نفسه ; لأن ذلك ينفر القلوب ، ويفرق الكلمة ، ويوجب الدخول لدار الحرب والردة ، وجوابه : أن أدلة الوجوب قائمة فتجب ; لأنه من أعظم الطاعات فيكون من أقوى أسباب المعاونات ، وفي ( اللباب ) : إن زنى الأسير بحربية ثم خلص قال ابن القاسم : عليه الحد خلافا لعبد الملك .

الثاني : قال إمام الحرمين من الشافعية : إذا تيقن المسلمون أنهم لا يؤثرون شيئا ألبتة ، وأنهم يقتلون من غير نكاية العدو ولا أثر أصلا وجبت الهزيمة من غير خلاف بين العلماء ، وهو متجه ، وعلى هذا يمكن انقسام الفرار إلى الواجب والمحرم والمندوب والمكروه بحسب الأمارات الدالة على المصالح وتعارضها ورجحانها .

التالي السابق


الخدمات العلمية