صفحة جزء
[ ص: 450 ] فارغة [ ص: 451 ] الباب الحادي عشر

في الجزية

وفيه فصلان : الفصل الأول : في العقد ويتجه الفقه فيه في سبعة مباحث :

البحث الأول : وفي ( الجواهر ) : هو التزام تقريرهم في ديارهم وحمايتهم والدرء عنهم بشرط بذل الجزية والاستسلام ، والأصل فيه قوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ) إلى قوله تعالى : ( من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) [ التوبة 29 ] وينبغي تعيين مقدار الجزية وقبولهم ذلك ، فإن لم يعين نزلوا على مقدار جزية أهل العنوة ، وهو ما قدره عمر - رضي الله عنه - وإذا وقع العقد فاسدا فلا نقتلهم ونلحقهم بمأمنهم .

البحث الثاني : في العاقد وهو الإمام ، وفي ( الجواهر ) : يجب عليه إذا بذلوه ورآها مصلحة إلا أن يخاف غائلتهم ، ولو عقده مسلم بغير إذن الإمام لم يصح ، لكن يمنع الاغتيال .

البحث الثالث : في المعقود له ، وفي ( الجواهر ) : وهو كل كافر ذكر بالغ حر قادر على أداء الجزية ، يجوز إقراره على دينه ليس مجنونا ولا مغلوبا على عقله ولا مترهبا منقطعا في دير ، قال في ( الجواهر ) : هذا ظاهر المذهب ، وروي عن مالك استثناء الفرس لقوله تعالى : ( من الذين أوتوا الكتاب ) وهم لا كتاب لهم ، واستثنى ابن الجهم : كفار قريش إما إكراما لهم عن صغار الجزية ، أو لأنهم أسلموا يوم الفتح ، واستثنى ابن وهب : مجوس العرب ، وعبد الملك و ( ش ) من [ ص: 452 ] ليس بكتابي ، و ( ح ) : مشركي العرب لتوهم إسلامهم ، وأما الصبي والمرأة والعبد والمجنون والمترهب فتبع لا جزية عليهم ، والفقير يقر مجانا ، وقيل : تجب عليه لصيانة دمه ، وتؤخذ من الصبي عند بلوغه ، ولا تقبل من المرتد ; لأنه لا يقر على دينه ، وفي ( الكتاب ) : قال مطرف وعبد الملك : إنما تسقط الجزية عن الراهب في مبدأ حملها أما من ترهب بعد ضربها فلا ، قال ابن يونس : لا يقبل من العرب إلا الإسلام إلا من دخل منهم في مكة ، وفي ( الجواهر ) : قال مالك : من انتقل من العدو إلى بلد الإسلام ضربت عليه الجزية ، وهو بالخيار بين الإقامة والرجوع إلى بلده ، واستحسنه ابن القاسم ، وقال محمد : يسقط خياره بعد التزامها ، وإذا أعتق النصراني عبده ، قال ابن القاسم : تلزمه الجزية ، وليس له الخروج منها ، قال أشهب : لا جزية عليه ; لأنه مروي عن علي - رضي الله عنه - فإن أعتقه مسلم ، قال مالك : لا جزية عليه ؛ لئلا يضر به العتق ، قال ابن الحبيب : الأحسن أخذها منه والذمي أن ينقل جزيته من بلد إلى بلد من بلاد الإسلام .

البحث الرابع : البقعة وفي ( الجواهر ) : يقرون في سائر البقاع إلا في جزيرة العرب ، وهي : مكة والمدينة واليمن في رواية عيسى ، ومن أقصى عدن وما والاها إلى اليمن كلها إلى ريف العراق في الطول ، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام ، ومصر في المغرب والمشرق ، وما بين يثرب إلى منقطع السماوة في رواية ابن حبيب ، ولا يمنعون من الاجتياز بها مسافرين .

فائدة : الجزيرة مأخوذة من الجزر الذي هو القطع ، ومنه الجزار لقطعه أعضاء الحيوان ، والجزيرة لانقطاع المياه عن أوساطها إلى أجنابها ، وجزيرة العرب قد احتف بها بحر القلزوم من جهة المغرب ، وبحر فارس من جهة المشرق ، وبحر الهند من جهة الجنوب ، فسميت جزيرة لذلك .

[ ص: 453 ] قال المازري إذا لم يأمن الإمام رجوعهم عن العقد لمجاورتهم العدو نقلهم من ديارهم إلى حيث يأمن وإلا فلا .

البحث الخامس : في تفصيل ما يجب عليهم ، وفي ( الجواهر ) : وهو أربعة : الأول الجزية فلو أقرهم من غير جزية أخطأ ، ويخيرون بين الجزية والرد إلى المأمن وأكثر الجزية أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق ، ولا يزاد على ذلك ويخفف على الضعيف بالاجتهاد ، قال ابن القاسم : لا ينقصون من فرض عمر - رضي الله عنه - لعسر ولا يزاد لغني ، وقال القاضي أبو الحسن : لا حد لأقلها ; لأن فعل عمر - رضي الله عنه - إنما كان بالاجتهاد فيجتهد غيره من الأئمة بحسب الحال ، وقيل : أقلها دينار أو عشرة دراهم ، وقال ( ش ) : دينار على الغني والفقير ؛ لقوله عليه السلام : ( خذ من كل حالم دينارا ) ، وقال ( ح ) : على الغني ثمانية وأربعون درهما ، والمتوسط أربعة وعشرون ، والفقير اثنا عشر درهما .

ويزاد ولينقص على قدر طاقتهم ( تنبيه ) الدنانير عندنا خمسة : ثلاثة : اثنا عشر درهما وهي دنانير الدماء في الدية والسرقة والنكاح . واثنان : عشرة دراهم الزكاة والجزية .

( تمهيد ) : الجزية مأخوذة من الجزاء الذي هو المقابلة ، والمأخوذ عند الأصحاب مقابل للدم ، ويرد عليه أنه اقتضى عصمة الأموال والذراري ، وهي غير مستحقة القتل فليس حقن الدم هو كل المقصود ، ويعزى للشافعية أنها أجرة الدار ، ويرد عليه أن المرأة تنتفع بالدار ولا جزية عليها ، والمتجه أن يقال : هي قبالة جميع المقاصد المرتبة على العقد ( سؤال ) عادة الشرع دفع أعظم المفسدتين بإيقاع أدناهما ، وتفويت المصلحة الدنيا لتوقع المصلحة العليا ، ومفسدة الكفر توفي على مصلحة المأخوذ من أموال الكفار جزية ، بل على جملة الدنيا فلم أقرهم [ ص: 454 ] الشرع على الكفر بهذا النزر اليسير ؟ ولم لا حتم القتال درءا لمفسدته ؟ جوابه : أن هذا من باب التزام المفسدة الدنيا لتوقع المصلحة العليا ، وذلك أن الكافر إذا قتل انسد عنه باب الإيمان ومقام السعادة ، فشرع الله تعالى الجزية رجاء أن يسلم في مستقبل الزمان ، ولا سيما مع اطلاعه على محاسن الإسلام ، وإن مات على كفره فيتوقع ذلك من ذريته وذرية ذريته إلى يوم القيامة ، وساعة من إيمان تعدل دهرا من كفر ، ولذلك خلق الله تعالى آدم على وفق الحكمة وأكثر ذريته كفار ، فعقد الجزية من آثار رحمته تعالى ، قال : فلو أسلم أو مات بعد سنة سقطت عنه إذا اجتمعت عليه سنون ، قال أبو الوليد : إن كان أقر أخذت منه أو لعسر فلا تؤخذ ولا تثبت في ذمته بالعجز ; لأن الفقير لا جزية عليه ، وقال ( ش ) : إذا أسلم بعد وجوبها أخذت منه بناء على أنها أجرة ، وعندنا بدل من سفك الدم ، وحضا على الإسلام بالصغار لنا قوله تعالى : ( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) [ التوبة 29 ] فشرط في إعطائها الصغار ، وهو ممتنع على المسلم ، ووافقنا ( ش ) على إذلال الذمي حالة الأخذ منه ، والكراء لا يقتضي الهوان ، وفي ( المقدمات ) قال ( ش ) : وهو الظاهر من المذهب وجوبها بآخر الحول وليس عن مالك نصا ، وقال ( ح ) : بأول الحول عند العقد ثم بعد ذلك عند أول كل حول ; لأنها بدل الدم ، وقد سلم لهم المبدل فيجب البدل ، وجوابه : أنها تؤخذ لصيانتهم سنة ولم تحصل .

الثاني : في ( الجواهر ) : الضيافة وأرزاق المسلمين ; لأن عمر - رضي الله عنه - فرض مع الدنانير مدين من حنطة عن كل نفس في الشهر ، وثلاثة أقساط زيتا على من كان بالشام ، والجزية على من كان بمصر إردب حنطة في كل شهر ، وقال : ولا أدري كم من الودك والعسل ؟ وعليهم من الكسوة التي كان عمر - رضي الله عنه - يكسوها الناس ، وعلى أن يضيفوا من مر بهم ثلاثة أيام ، وعلى أهل العراق خمسة عشر صاعا كل شهر على [ ص: 455 ] كل رجل مع كسوة معروفة ، قال : ولا أدري كم قدرها ؟ قال مالك : وأرى أن يوضع عنهم اليوم من الضيافة والأرزاق لما حدث عليهم من الجور .

الثالث : الإهانة في ( الجواهر ) : تؤخذ منهم على وجه الإهانة والصغار امتثالا لأمره تعالى .

الرابع : العشر في التجارة ، والأصل فيه قوله عليه السلام : ( ليس على المسلمين عشر ، إنما العشر على اليهود والنصارى ) وقال عمر - رضي الله عنه - لأهل الذمة : إذا اتجرتم في بلادكم فليس عليكم إلا الجزية ، وإذا اتجرتم إلى غيرها أخذ منكم العشر ، وفي ( الجواهر ) : يؤخذ العشر من تجار الحربيين ولا يؤخذ من الذمي إلا أن يتجر في غير أفق عقد جزيته فتؤخذ منه كلما دخل ، ولو دخل مرارا في السنة ، وقال ( ح ) : لا تؤخذ من السنة إلا مرة كالجزية . لنا فعل عمر - رضي الله عنه - ولتكرر الانتفاع والحكم ، فيتكرر بتكرر سببه ، واختلف هل المأخوذ عما يعتاضون - وهو رأي ابن القاسم - أو عما يدخلون به ؟ قال ابن حبيب : وسبب الخلاف أن المأخوذ لحق الانتفاع في القطر أو الوصول إليه ، وتفرع على ذلك فرعان : الأول : لو دخلوا ببضاعة أو عين فأرادوا الرجوع قبل البيع أو الشراء ، قال ابن حبيب : يجب عليهم العشر كالحربيين ، وابن القاسم لا يوجبه ، الثاني : لو دخلوا بإماء فإن ابن حبيب يمنعهم الوطء والاستخدام ، ويحول بينهم وبينهن لشركة المسلمين معهم ، خلافا لابن القاسم ، وفي ( الكتاب ) : إذا قلنا لا يؤخذ منهم إلا بعد الشراء ، قال مالك : إن قدم بعين فاشترى به سلعة أخذ منه عشر السلعة ، وقيل : عشر ثمنها ، وقيل : إن كانت تنقسم فعشرها وإلا فعشر قيمتها ، ويدل على الأول : أن لو أخذنا عشر قيمتها كان مشتريا منا عشر السلعة فهي سلعة [ ص: 456 ] ثانية فيتسلسل ، ولو قدم بفضة ليصرفها أو بثياب لصبغها ترك عشرها بغير صبغ ولا صرف ، فإن لم ينظر في ذلك حتى عمل الجميع أخذ منه قيمة العشر غير معمول ، فإن باع واشترى بعد ذلك في البلد أو في بلد آخر من ذلك الأفق : لم يؤخذ منه شيء ، قال محمد : لا شيء عليه في الذي صبغه أو ضربه ، قال ابن القاسم : يؤخذ من الحربي عشر المعمول ، وإذا أكرى الذمي إبله من بلد إلى غيره أخذ عشر كرائه في المكرى إليه ، وقال ابن القاسم : لا يؤخذ منه شيء إلا من كراء الرجوع إلى بلده ، وقال أشهب : لا شيء عليه لجلاب إبله وأولادها ، وقال محمد : يؤخذ منه سواء أكرى من بلده أو من غيره ، وقيل : يسقط الكراء على قدر مسيره فيما سار في بلاده سقط ، ويختلف إذا أسلم في سلعة ليقبضها بغير بلده هل يراعى موضع العقد أو موضع القبض ؟ وإذا تجر عبيد أهل الذمة أخذ منهم إلا عشر واحد كالأحرار لحصول المنفعة ، وفي ( الجواهر ) : لو باعوا في بلد واشتروا فيه لم يؤخذ منهم إلا عشر واحد ، ولو باعوا في أفق ثم اشتروا في آخر بالثمن فعشران لتعدد المنتفع فيه ، وهو سبب العشر ، ويخفف عن أهل الذمة فيما حملوه إلى مكة والمدينة من الزيت والحنطة خاصة ، فيؤخذ منهم نصف العشر ; لأن عمر - رضي الله عنه - كان يأخذ العشر من القطنية ونصف العشر من الحنطة والزيت ، وروى ابن نافع العشر قياسا على غيرهما ؛ ولأن ذلك إنما كان لتكثير الحمل إليهما ، وقد اتسع الإسلام ، وإذا دخل الحربي بأمان مطلق أخذ منه العشر لا يزاد عليه إلا أن يشترط عند العقد ، فلو نزل الذمي بالخمر وما يحرم علينا ، قال مالك : يؤخذ منه العشر بعد البيع فإن خيف خيانتهم جعل عليهم أمين ، قال ابن نافع : ذلك إذا جلبوه لأهل الذمة لا لأمصار المسلمين التي لا ذمة فيها ، [ ص: 457 ] وقال ابن حبيب : يريق الوالي الخمر ويقتل الخنزير ، ولا يجوز إنزالهم على بقاء ذلك .

( تنبيه ) مشهور المذهب : أنهم مخاطبون بالفروع فتكون مباشرتهم لذلك منكرا تجب إزالته وتفسد المعاوضة فيه ، ولا ينقل الثمن عن ملك المشتري فيتضح قول ابن حبيب ، ويشكل قول مالك ، وقال : إذا انتقل الذمي من قطر إلى قطر كمصر والشام فأوطن الثاني ثم قدم بتجارة للأول ، قال ابن القاسم : لا يؤخذ منه شيء ; لأنه ببلد عقد ذمته ، ويؤخذ منه إذا رجع إلى الثاني ، قال أصبغ : ذلك إذا لم تحول جزيته فلو اشترى الذمي ، وأخذ منه العشر ثم استحق ما بيده أو رد بالعيب رجع بالعشر ، قال ابن سحنون : وإذا غلب على الذمي دين المسلم ، قال أشهب : لا يؤخذ منه العشر ولكن لا يصدق فيه ، ولا يسقط العشر دين الذمي ، قال صاحب ( البيان ) : إذا نزل الروم برقيق فصالحناهم على عشر ما معهم منه ، فأسلم الرقيق أخذ منهم ما صولحوا عليه ، ولهم الرجوع بهم ، وفي ( الكتاب ) : ليس الذي يؤخذ من أهل الحرب بمعلوم إنما هو ما يصالح عليه ، وقال فضل بن مسلمة : إن كانت لهم عادة حملوا عليها ، وإذا نزلوا ولم يبيعوا ، قال ابن القاسم : يؤخذ منهم ما صولحوا عليه باعوا أم لا بخلاف الذمي ; لانتفاعهم بالنزول الذي لا يستحقونه ، والذمي يستحق المسعى في آفاق الإسلام إنما العشر عليه للانتفاع بتنمية المال ، وسوى ابن نافع .

التالي السابق


الخدمات العلمية