صفحة جزء
[ ص: 17 ] الباب الثالث

فيما يوجب تعدد الكفارة واتحادها

قال أبو الطاهر : إذا قصد الحالف بتكرار يمينه تعدد الكفارات تعددت ، أو اتحادها اتحدت ، وإن لم يقصد ، والمعنى واحد ، واللفظ واحد ، أو متعدد ، اتحدت كالحلف بأسماء الله تعالى ، وإن تعدد المعنى تعددت كالحلف بالصفات ، وإن حلف على أشياء بالعطف ، وقصد اتحاد اليمين اتحدت ، وهل يقع الحنث ببعضها ، وهو المشهور ، أو بالجميع ؟ قولان ، وإذا أتى بلفظ يدل على التكرار تكررت الكفارة نحو كلما ، أو متى ، وإلا فلا تتكرر إلا أن يظهر ذلك من قصد الحالف كالحالف لا يترك الوتر ، أو لا يشرب الخمر بالمدينة النبوية ; لأن المقصود اجتناب ذلك في سائر الأوقات لشرف الوتر والمدينة ، بخلاف : لا كلمت زيدا ، وقالت الحنفية : إذا كرر الأسماء أو الاسم الواحد بغير عطف ، فكفارة واحدة ; لأن الثاني يجري مجرى الصفة للأول . وبالعطف كفارتان ; لأن العطف يوجب التعدد ، ولذلك يجوز للحالف تأكيد اليمين بغير عطف ، ولا يجوز بالعطف ; لأن المستحق على الخصم يمين واحدة ، وجوابهم أن العلماء اختلفوا في قوله تعالى : ( والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ) ( الليل : 1 ) ونحوه ، هل الواو الثانية للعطف أو للقسم ، والصحيح عندهم أنها خفضت بالعطف لا بالقسم ; لأن القسم بالشيء تعظيم له ، والانتقال عنه إلى القسم بغيره إعراض عنه ، والإعراض يأبى التعظيم ، وأما العطف عليه ، فتقدير له يجعل غيره تابعا له في معناه ، فيكون القسم واحدا وقعت فيه الشركة ، فالمتعدد متعلقه ; لأنها أقسام متعددة ، وإذا اتحد القسم اتحدت [ ص: 18 ] الكفارة ، ووافقنا ابن حنبل ، وفي ( الكتاب ) : إذا قال : علي عشر كفارات ، أو مواثيق ، أو نذور لزمه عدد ذلك كفارات . قال اللخمي : لأن النطق بالعدد يقتضي إرادته بخلاف التكرير ، فحمل على التأكيد ، وإن قال : والعزيز ، وعزة الله ، فكفارتان . قال ابن يونس : قال محمد : إذا حلف بعدة أسماء ، أو كرر اسما واحدا ، فكفارة واحدة . قال ابن حبيب : وكذلك تعدد الصفات ; لأنها ليست غير الذات ، وقيل بتعدد الكفارة ; لأن مفهوم القدرة غير مفهوم العلم ، والأسماء يعبر بها عن مسمى واحد ، وما امتنع إطلاق لفظ الغير إلا لأن الغير في اللغة هو الذي شأنه المفارقة بالزمان والمكان ، فإطلاق لفظ الغير عليها يوهم ذلك ، وإطلاق الموهم ممنوع ، قال : وينبغي التفصيل ، فما يرجع لمعنى واحد ، فكفارة واحدة كالعزة والجلال ، والعظمة ، وكالميثاق ، والعهد ، وكالقرآن ، والتوراة ، والإنجيل ، فإنها ترجع إلى صفة الكمال ، وإلا تعددت الكفارة . قال اللخمي : ولو قال : والله ، ثم والله ، ثم والله ، فكفارة واحدة ، وأرى أنها ثلاث ، وقال ابن عبد الحكم بالتعدد في الواو مع واو القسم ، وفي ( الكتاب ) : إذا حلف : لا أجامعكن ، فجامع واحدة ، أو الجميع ، فكفارة واحدة ; لأن الكفارة لمخالفة اليمين ، وهي واحدة ، والقائل : والله لا دخلت هذا الدار ، والله لا كلمت فلانا ، تعددت الكفارة لتعدد اليمين ، ولو كرر اليمين على شيء واحد في مجلس واحد ، أو مجالس ، فكفارة واحدة حتى ينوي التأسيس ، ولو كرر لفظ النذر تعددت الكفارة نوى أم لا . قال ابن يونس : قال محمد : إذا قال : علي ثلاثة نذور ، فثلاث كفارات ، والفرق بين تكرار الطلاق يحمل على الإنشاء دون التأكيد ، واليمين على التأكيد أن الطلاق مختلف ، فأولى بوجوب التحريم ، والثانية تقرب من الثلاث ، والثالثة تحريم إلا بعد زوج آخر ، ومعنى الأيمان واحد ، وهو إيجاب الكفارة ، وبين النذر واليمين أن أصل وضع اليمين لتأكيد المخبر عنه ، فلما كان أصلها للتأكيد حملت عليه عند عدم النية ، وموضوع النذر اللزوم ، فحمل على الإنشاء ، ومن حلف فقيل له : يحنثك ، فحلف لا يحنث [ ص: 19 ] فكفارتان ، وإن حلف لا باع من فلان ، فقال له آخر : وأنا ؟ فقال : والله ولا أنت ، فكفارتان إن باع منهما ، أو من أحدهما ، فردها عليه ، فباعها من الثاني عند ابن القاسم ، ولو حلف لا باعها من فلان ، ولا من فلان ، فباعها منهما ، أو من أحدهما ، فكفارة واحدة ، وفي ( الكتاب ) : والحالف لا يكلم فلانا ثم قال : علي حجة أو عمرة إن كلمته فهما يمينان . قال ابن يونس : قال ابن القاسم : وإن قال : والله لا أكلمه غدا ، والله لا أكلمه بعد غد ، والله لا أكلمه غدا ، فكفارتان إن كلمه في اليومين ، وإن قال : والله لا أكلمه غدا ، ولا أكلمه غدا ، ولا بعد غد ، فكلمه غدا ، فكفارتان ; لأنهما يمينان على متباينين ، وقد تناولا غدا ، فإن كلمه بعد غد ، فلا شيء عليه ; لأن اليمين انحلت بالغد ; لأنه جزء ما حلف عليه في اليمين الثاني ، وإن كلمه بعد غد فقط ، فكفارة واحدة ، ولا ينوي أنه أراد باليمين الثانية الأولى كمن قال لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق ، إن كلمت زيدا فأنت طالق . لا ينوي أنه أراد بالثانية الأولى ، ولو قال : والله لا كلمتك غدا ، أو بعد غد ، ثم قال : والله لا كلمتك غدا ، فكلمه غدا ، فكفارة واحدة ; لأن اليمين الأولى اقتضت مطلق أحدهما ، والثانية خصوص الثاني ، وقيدت ذلك المطلق ، والمطلق في ضمن المقيد ، فاجتمعا على شيء واحد بخلاف لو حلف لا يكلمه غدا ، ثم حلف : أو بعد غد ; لأن المطلق في اليمين الأولى ليس محلوفا عليه ، والثانية منشئة للحلف فيه ، فلم يترادفا ، وفي ( الكتاب ) : لو حلف لا يكلم زيدا عشرة أيام ، فكلمه فيها مرارا ، فكفارة واحدة ، وفي ( البيان ) : إذا قلنا بالكفارة في الحلف بالقرآن ، فقال : والقرآن ، والمصحف ، والكتاب ، فثلاث كفارات عند ابن القاسم لاختلاف المسميات ، وإن كان المعنى واحدا ، وهو الكلام القديم .

( تمهيد ) : يقع التداخل في الشريعة في ستة مواضع : في الطهارات كالوضوء إذا تعددت أسبابه ، أو تكرر السبب الواحد ، والغسل إذا اختلفت أسبابه ، أو تكرر السبب الواحد ، والوضوء مع الجنابة ، وفي تداخل طهارة الحدث [ ص: 20 ] والخبث خلاف ، وفي العبادات : كسجود السهو إذا تعددت أسبابه ، وتحية المسجد مع الفرض ، والعمرة مع الحج ، وفي الكفارات : في الأيمان ، وكما لو أفطر في اليوم الواحد من رمضان مرارا بخلاف اليومين ، أو أكثر خلافا لـ ( ح ) في إيجابه كفارة واحدة في جملة رمضان ، واختلف قوله في الرمضانين . وفي الحدود إذا تماثلت ، وهي أولى بالتداخل لكونها مهلكة ، وفي العدد على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى ، وفي الأموال كدية الأطراف مع النفس ، والصدقات في وطء الشبهات إذا تكرر الوطء في الشبهة الواحدة ، ويدخل المتقدم في المتأخر كالأطراف مع النفس ، والمتأخر في المتقدم كوطء الشبهة ، والكثير في القليل كالأطراف مع النفس ، والقليل في الكثير كالأصبع مع النفس ، والوضوء مع الغسل ، والعمرة مع الحج .

التالي السابق


الخدمات العلمية